تزخر كتب التاريخ الحديث بفصول مختلفة من نضال الشعوب ومقاومتها للمستعمر والمحتل وهي في أكثر الأحيان متشابهة إلى حد بعيد، فجميعها تقريبًا سلكت ذات الدروب بداية من الكفاح المسلح إلى الشعر والغناء والأدب لتصل إلى المستطيل الأخضر.
اعتبر كثيرون أن “النضال الرياضي” المتمثل في إنشاء نوادي كرة القدم أو منافسة فرق تابعة للمستعمر يندرج تحت باب المقاومة والوقوف في وجه الغازي ولا يقل قيمة عن البارود، فالانتصار في الملعب يُعادل ضربة عسكرية أو إنجاز ثوري بامتياز يُعطي الشعب “المستضعف” جرعات انتماء وفخر تزيد من منسوب الوطنية وتُهيئه لمرحلة حاسمة، فيما تكون الهزيمة نكسة ومذلة للمحتل.
في تونس كما في جارتها الغربية الجزائر، كان لكرة القدم دور مركزي في تشكل الوعي وإعادة صياغة مفهوم الانتماء وطريق ساعد الحركة الوطنية في تكوين حاضنة شعبية تكون منطلقًا لإعلان بداية التحرر من قيود الاستعمار.
قال الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور في كتابه “الحركة الأدبية والفكرية في تونس”، إن “هذه الجمعيات وإن كان الطابع الرياضي هو سمتها الأساسية فإنها أسهمت من الباب الواسع في الحياة الثقافية والنضال الوطني ضد المستعمر، كما كان لها لاحقًا دور بارز في بناء الدولة الوطنية الحديثة التي عرفت فيها الرياضة تحولًا نوعيًا إذ أصبحت جزءًا من الاختيارات السياسية”.
النواة الأولى للرياضة
تنامى النشاط الرياضي المنظم في تونس بعد الاحتلال الفرنسي للبلاد سنة 1881، بإنشاء المنظمات الشبابية والكشفية وعبر تأسيس الجمعيات الرياضية، وفي سنة 1906 أُحدثت أول جمعية رياضية “نادي كرة القدم بتونس” الذي سرعان ما تغير اسمه إلى “رايسينغ التونسي” نادي السباق بتونس، لتنطلق بعدها بسنة وتحديدًا في شهر نوفمبر 1907 أول مسابقة رسمية (البطولة) بعدد من الفرق لم يتجاوز الخمس: رايسنيغ التونسي (Racing club) نادي كرة القدم، والنادي الرياضي (sporting club) ومعهم فريقان آخران: فريق معهد كارنو (le lycée Carnot) وفريق المعهد الصادقي نسبة للصادق باي.
وشهدت أواسط العشرينيات من القرن العشرين بروز جمعيات رياضية تونسية مثل الترجي الرياضي والنادي الإفريقي والنادي الصفاقسي والنجم الساحلي، وكان وراء تأسيس هذه الجمعيات نخبة من الشبان الوطنيين الذي راموا بإنشاء هذه الجمعيات تأطير الشبان التونسيين وتأهيلهم على المستوى البدني والنفسي والوطني.
باب سويقة.. الترجي والحركة الوطنية
سنة 1918 مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى انعقدت جلسة بين فريقين استعماريين وهما الملعب الإفريقي والملعب التونسي انتهت بدمج الفريقين وتأسيس الاتحاد الرياضي التونسي، هذا الأمر لم يرق للشاب محمد الزواوي الذي كان حاضرًا وقرر لاحقًا رفقة الهادي قلال تأسيس نادٍ رياضي متكون من المسلمين دون غيرهم وأصبح فيما بعد من رواد الرياضة التونسية وأحد عمالقة الكرة الإفريقية والعربية.
بعد أشهر من الانتظار، أعطت السلطات في نوفمبر 1918 لمؤسسي الترجي الموافقة المبدئية والشفوية على إنشاء الفريق، لكن بعد أسبوعين أصدرت السلطات قرارًا يفرض تسمية رئيس فرنسي لإعطاء الموافقة الرسمية لتأسيس الترجي وتمت تبعًا لذلك تسمية لوي مونتاسيي على رأس الفريق، وفي 15 من يناير 1919 حصل مؤسسو الترجي على الترخيص القانوني والرسمي، ليتم تعويض الفرنسي بالتونسي محمد المالكي، الرئيس الحقيقي الأول للنادي، ولعب الترجي خلال السنة الأولى لتأسيسه باللونين الأبيض قبل أن يُغير زيه إلى الأحمر والأصفر بقدوم الدكتور الشاذلي زويتن سنة 1920.
قال المؤرخ محمد ضيف الله الذي يُعد كتابًا عن تاريخ النادي، في تصريح لـ”نون بوست” إن الترجي أصبح من الأندية التي “ترمز للحركة الوطنية”، لا سيما أنه ضم في صفوفه لاعبين تونسيين حصرًا، مضيفًا أن أول رئيس لتونس كان قريبًا من الترجي ومن الطبقة الشعبية التي سكنت المنطقة (باب سويقة) ويحضر المقابلات (المباريات) وكان من بين مستشاريه لاعب من الترجي، وتولى الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة منصب نائب رئيس النادي عام 1931، قبل تأسيس حزب الحر الدستور الجديد عام 1934، وذلك من أجل بناء زعامته الوطنية.
بورقيبة يواكب مباراة دربي يشجع الترجي
وأضاف ضيف الله، أن قيادات الحركة الوطنية كانت لهم علاقة خاصة بالحي الواقع في المدينة العتيقة (باب سويقة)، مشيرًا إلى أن معقل الترجي كان مقرًا لقادة الحركة الوطنية كبورقيبة وصالح بن يوسف (مكاتب محاماة)، فيما كان كل من الحبيب ثامر والمنجي سليم وعبد العزيز الثعالبي من سكان تلك المنطقة، متابعًا القول: “الكل كان يتقرب من الترجي أول ناد تونسي يلعب في الدرجة الممتازة، فكانوا يحضرون المباريات باعتبار أن الفريق يحظى بشعبية واسعة وهو واجهة الرياضة الوطنية، ويُمثل أيضًا بابًا يعمل من خلاله السياسيون على نشر الوعي وتحريك مشاعر الانتماء”.
وبدوره أكد الباحث التونسي محمد الجويلي أنه حين يُذكر الترجي ومعقله باب سويقة يعود للأذهان “مقهى تحت السور” الذي شهد ميلاد حركة أدبية متميزة في ثلاثينيات القرن الماضي، أنشأها أدباء شباب من رواد التجديد لعل أشهرهم “علي الدوعاجي” رائد القصة القصيرة في تونس، كما شهدت نشاطًا مكثفًا لجيل يحاول التنظم في هياكل رياضية مستقلة عن الفرنسيين حفاظًا على الهوية الوطنية في مرحلة أولى وانخراطًا في مرحلة ثانية في النضال من أجل الاستقلال.
افتتح الترجي الرياضي سجله الحافل بالبطولات والكؤوس في موسم 1938 – 1939 بأول لقب في تاريخه وهو كأس تونس، ثم حقق أول بطولة في تاريخه موسم 1941 – 1942.
النادي الإفريقي.. لا تنازل عن الهوية
أما النادي الإفريقي ومعقله باب الجديد بالمدينة العتيقة وتحديدًا في مخزن الصوف (حي المركاض)، فكانت أولى محاولات تأسيسه عام 1919 غير أن التأشيرة لم تسند له بسبب تسميته آنذاك وهي النادي الإسلامي الإفريقي، وهو امتداد للملعب الإفريقي (تأسس سنة 1915 وتم حله في 1918)، وتمت المحافظة على نفس الألوان والأهداف وبعض اللاعبين.
بعد حصول فريق الترجي على موافقة المستعمر الفرنسي ولكن بتعيين رئيس فرنسي، كثف رجال النادي الإفريقي جهودهم ولكنهم لم يقبلوا الشروط التعجيزية، وبعد محاولات جاهدة، تمكن رجال الفريق من الحصول على الموافقة الرسمية من السلطات الفرنسية بما في ذلك الموافقة على الجنسية التونسية لرئيس الجمعية وحرية اختيار شعار الفريق وألوانه وذلك في 4 من أكتوبر 1920 وقد ترأس النادي البشير بن مصطفى.
وقال عضو لجنة تنظيم مأوية الإفريقي هشام الحاجي في تصريح لـ”نون بوست”: “رغم الصعوبات التي واجهها الفريق في تأسيسه، فإنه تمكن من تأطير شبان لمواجهة الاستعمار، وفي تلك الفترة ورغم ضعف الموارد المالية والقيود الاجتماعية واصل الفريق انتشاره مدعمًا الثقافة الوطنية بتأسيس المدرسة الرشيدية والمسرح التونسي”.
مضيفًا أن إجبار المستعمر الفرنسي على منح النادي الإفريقي تأشيرة العمل القانوني لم يكن مجرد إجراء روتيني بل كان من أول محطات تصدي النخب التونسية للاستعمار الفرنسي ومن أول تجليات الوعي الوطني الرافض لمحاولات الاستعمار الفرنسي تذويب الهوية التونسية الرافضة لإستراتيجيات “الحماية الفرنسية” الماكرة، وتكريس الإيديولوجيا الاستعمارية التي توهم أصحاب الأرض أنهم في حاجة إلى من يقودهم خاصة أن الرياضة كانت من أدوات الهيمنة التي أولتها فرنسا أهمية قصوى.
وفي السياق ذاته، يؤكد المؤرخ محمد ضيف الله لـ”نون بوست” أن الرياضة (كرة القدم) في تونس زمن الاستعمار كانت تعبر عن مجموعات عرقيًا أو إثنيًا أو سياسيًا، مضيفًا أن الفرنسيين كانت لديهم نواديهم الخاصة وكذلك الإيطاليين ((l’Italia de Tunis، والمالطيين وأيضًا اليهود (الاتحاد الرياضي التونسي UST).
وأضاف ضيف الله أن اختيار الأندية التونسية لألوان زيها الرياضي يندرج ضمن عناصر المقاومة والتميز، فاللونان الأحمر والأبيض يرمزان للعلم التونسي فيما يُدلل الأخضر على الإسلام، مشيرًا إلى تسمية الأندية بـ”النجم” و”الهلال” أو “الإسلامي” هي الأخرى تُحيل إلى تمسك القائمين والمؤسسين لهذه الفرق بهوية البلاد وتكريسها للوعي المواطني في محاولة منها لحماية المجتمع من سياسة التغريب التي انتهجها المستعمر.
وأشار المؤرخ أن الحديث عن ديربي الترجي والإفريقي لم يكن معروفًا قبل عام 1948 بل كانت الديربيات بين النوادي المسلمة وغيرها سواء الفرنسية أو اليهودية والإيطالية، وفي كل محافظة هناك ديربي، فمثلاً في بنزرت النادي الرياضي البنزرتي (مسلم) والوطني البنزرتي (فرنسا)، وفي قابس النجم (مسلم) النادي القابسي (فرنسا) وفي صفاقس النادي الرياضي التونسي (مسلم) والرالوي (اليهود).
وانظم الإفريقي إلى البطولة التونسية في قسمها الأول سنة 1937 ولم يغادره منذ تلك السنة وحصل على أول ألقابه كبطل تونس كان في موسم 1946-1947 و1947-1948 ولكن بعد بزوغ النادي الرياضي لحمام الأنف لم يتمكن الفريق من تحقيق إنجازات أخرى في العديد من المواسم، وفي سنة 1956 تمكن النادي الإفريقي من الوصول إلى نهائي كأس تونس لأول مرة في تاريخه لكنه هزم 3-1 أمام الملعب التونسي وأنهى البطولة في المركز الثالث.
إلى ذلك، يرى الباحثون في نشأة كرة القدم بتونس أن تاريخ الفريقين (الترجي والإفريقي) ارتبط عند نشأتهما وترعرعهما بالمقاومة الوطنية ضد الاستعمار، وتحديدًا بنضال المدينة العتيقة وهي تقاوم من أجل البقاء محتضنة الهوية العربية الإسلامية خوفًا عليها من التلاشي والاضمحلال، وتصمد أمام زحف المدينة الحديثة التي تحاصرها وتضيق عليها الخناق، وبدأ المستعمر في تشييدها تدريجيًا.