ترجمة وتحرير نون بوست
في إحدى غرف المستشفى المشمسة في مدينة فورتسبورغ بالجامعة الألمانية بعد ظهر أحد الأيام الماضية، وضعت الدكتورة كاثلين ويرميك ميكروفونها بجوار وجه الصغير جوريس البالغ من العمر أربعة أيام. عندما بدأت والدة جوريس، جوديث فريك، في تغيير حفاضاته، كان الطفل يتلوى ويتمدد ويفتح عينيه. فقالت له الدكتورة ويرميك: “جوريس؟ هل تريد أن تقول شيئا؟”.
في البداية، لم يبدو على الطفل أنه سيتفاعل معها، لكنه في النهاية أصدر صوت نخير ثم بدأ بالبكاء الحاد. كانت هذه هي اللحظة التي تنتظرها الدكتورة ويرميك، عالمة الأحياء والأنثروبولوجيا الطبية التي تدرس الأصوات الأولى للأطفال. لقد سجلت هذه الأصوات لتحليلها لاحقًا في مختبرها بمركز تطوير جامعة فورتسبورغ، في عيادة تطوير مهارات ما قبل النطق واضطرابات النمو. لكن حتى دون مساعدة الأدوات المحوسبة، يمكن للدكتورة ويرميك أن تميّز نمطًا خاصا في بكاء جوريس. وقالت مبتسمة وهي توضّب معدّاتها: “لقد بكى بالألمانية الآن، أليس كذلك؟”.
في سنة 2009، تصدرت الدكتورة ويرميك وزملاؤها عناوين الصحف مع دراسة توضح أن الأطفال حديثي الولادة من الجنسيتين الفرنسية والألمانية يصدرون “ألحان بكاء” مختلفة تمامًا، مما يعكس اللغات التي سمعوها في الرحم. فالأطفال حديثي الولادة الألمان يصدرون أصوات بكاء تنخفض من درجة أعلى إلى درجة أقل، محاكين بذلك التجويد النازل للغة الألمانية، بينما يميل الرضع الفرنسيون إلى البكاء مع التجويد المتصاعد للغة الفرنسية. في هذا العصر، يجرب الأطفال مجموعة واسعة من الأصوات، ويمكنهم تعلم أي لغة، لكنهم بالفعل يتأثرون بلغتهم الأم.
اليوم، يضم مختبر الدكتورة ويرميك أرشيفًا يضم حوالي نصف مليون تسجيل لأطفال من مناطق بعيدة مثل الكاميرون والصين، حيث قام فريق من طلاب الدراسات العليا المسلحين بمعدات التسجيل بالتجول في ممرات مستشفى بكين على مدار الساعة.
يضم مختبر الدكتورة ويرميك أرشيفًا يتكون من نصف مليون من أصوات الأطفال، من البكاء والمناغاة والتهليل حتى الخطاب المبكر، والتي سُجّلت على مدار عقود من البحث.
أنتج التحليل الصوتي الكمي لهذه التسجيلات مزيدًا من الأفكار حول العوامل التي تشكل الأصوات الأولى للطفل. يميل المواليد الجدد الذين تتحدث أمهاتهم بلغات نغمية، مثل الماندرين، إلى إصدار ألحان بكاء أكثر تعقيدًا. أما حديثي الولادة السويديون الذين تتميز لغتهم الأم “بلهجة نغمية”، فيكون بكاءهم أشبه بالغناء.
تدعم هذه الدراسات الجهود الأوسع التي يبذلها المختبر لرسم خريطة للنمو النموذجي لبكاء الطفل، فضلاً عن إصدار الأصوات مثل المناغاة والهمهمة. إن معرفة الشكل الذي يبدو عليه التطور النموذجي والعوامل التي يمكن أن تؤثر عليه يساعد الأطباء على معالجة المشاكل المحتملة في وقت مبكر.
يعمل فريق الدكتورة ويرميك مع الأطباء في عيادة جامعة فورتسبورغ بشكل روتيني لدعم الأطفال الذين يعانون من صعوبات في السمع، حيث يسجلون الأطفال قبل وبعد تلقيهم مساعدات أو الخضوع إلى جراحة. ويمكن أن تساعد هذه التسجيلات الأطباء والآباء على فهم كيفية تأثير مشاكل السمع على قدرة الأطفال على تقليد اللغة وتجربتها وكيفية تقدمهم بعد العلاج.
في الواقع، إن السمع والتقليد هما شيئان أساسيان لتطوير اللغة. فبحلول الأثلوث الثالث من الحمل، يمكن للجنين أن يسمع إيقاع صوت أمه المعروف باسم “اللحن”. ونظرًا لأن الكلمات الفردية مكتومة بالأنسجة والسوائل الأمنيوتية، فإن اللحن يصبح السمة المميزة للغة الجنين. بعد الولادة، يقلد الأطفال الصغار العديد من الأصوات المختلفة، ولكنها تتشكل بشكل خاص من خلال اللحن الذي سمعوه في الرحم، والذي يصبح دليلًا مفيدًا للأصوات الغريبة القادمة من الأشخاص المحيطين بهم. ومن خلال النبر والتوقفات والإشارات الأخرى، يقسم اللحن الصوت إلى كلمات وعبارات، أي إلى خطاب.
الدكتورة ويرميك تسجل أصوات كونستانتين البالغة من العمر ثلاثة أسابيع في عيادة حديثي الولادة.
من جهتها، قالت جوديت جيرفين، عالمة الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس والتي تدرس الإدراك المبكر للكلام: “تخيل أنك دخلت بيئة لغوية جديدة، وهو ما يحدث مع المولود الجديد. هناك الكثير من الأشياء التي تحدث في آن واحد. فهناك الكلمات والمعاني والقواعد والأصوات. لا يمكنك فعل كل شيء، إنه أكثر من اللازم. هنا، يمكن للحن أن يساعد عن طريق منحهم أجزاء صغيرة بحجم مناسب”.
في اللغة الإنجليزية، على سبيل المثال، غالبًا ما يكون مقطع لفظي ذي نبر إشارة إلى بداية كلمة، كما في جملة “اللغة الإنجليزية”. في الفرنسية، يشير مقطع طويل إلى نهاية الجملة، كما في “صباح الخير سيدتي!”. وقبل تطوير قدرتهم على الكلام، يبدأ الأطفال في التعرف على أنماط مثل هذه.
بالإضافة إلى ذلك، قالت جانيت ويركر، وهي عالمة نفسية تطورية في جامعة كولومبيا البريطانية التي تدرس اكتساب اللغة في وقت مبكر: “هناك خطوات كثيرة يجب أن تحدث قبل النطق بالكلمة الأولى”. في المقابل، أوضحت كريستا بايرز-هينلين، وهي عالمة نفسية تطورية بجامعة كونكورديا في مونتريال تدرس ثنائية اللغة، أن الأطفال أيضًا يستخدمون اللحن في التمييز بين اللغات.
في نفس سياق، قالت بايرز-هينلين: “لم يخبرهم أحد في وقت مبكر أنه ستكون هناك لغتان. ومع ذلك فإن الأطفال الذين تعرضوا للغتين من البداية قادرون تمامًا على اكتساب هاتين اللغتين في نفس الوقت”. ومن بين الطرق التي تخول لهم فعل ذلك هو اللحن. ربما لم يدركوا بعد مفهوم اللغة، لكن يمكنهم سماع أن بعض الأصوات تتبع إيقاعًا مميزا عن بعضها الآخر.
يستخدم الأطفال مثل ماكس، الذي ينشأ في أسرة فرنسية ألمانية ثنائية اللغة، اللحن للتمييز بين اللغتين.
أظهر فريق فورتسبورغ أن الأطفال حديثي الولادة لا يسمعون اللحن فقط بل يقلدونه كذلك. وأوضحت الدكتورة ويرميك أثناء جلوسنا معها في مخبرها، الذي يتمثل في مجموعة من المكاتب المشرقة واستوديو تسجيل: “يكتشف الأطفال اللغة من خلال العناصر الموسيقية، أي من خلال سماع تجويد لغتهم الأم”. في الأثناء، كان طلاب الدراسات العليا الذين يرتدون سماعات الرأس بجوارنا يستمعون إلى تسجيلات أصوات الأطفال، وكانت إحدى مناطق المختبر مجهزة بحصيرة للعب والألعاب. وفي أحد الرفوف يوجد نموذج عملاق للأذن البشرية.
شغّلت الدكتورة ويرميك تسجيلها للطفل جوريس على جهاز كمبيوتر باستخدام برامج متخصصة ترسم درجة حدة صراخاته المتقلبة. أخذ جوريس نفسًا وأخرج صوتًا خافتا كما لو كان صوته ينساب على منحدر طويل: واا! أخذ نفسا وكرر الصوت: واا! تشكّل هذه الأصوات مجتمعة سلسلة نموذجية من صرخات حديثي الولادة: وا! وا! وا! تظهر كل صرخة على الشاشة في شكل قوس صغير مع جانب طويل مائل.
في هذا الصدد، قالت الدكتورة ويرميك مشيرة إلى الخط الطويل: “يمكنك أن ترى أن لديه هذا النمط التنازلي. وهذا يعني أنه ألماني بالفعل”. بالنسبة للمواليد الجدد الأصحاء، يتطور شكل وتسلسل هذه الأقواس الفردية بسرعة. وفي غضون الأيام والأسابيع التالية، من المتوقع أن يدمج جوريس بين الأقواس، ويستخدمها كركائز بناء في تقليده الوثيق للأصوات التي يسمعها من البالغين من حوله.
سينتهي به المطاف إلى نطق أول حروفه الساكنة. فعلى سبيل المثال، إن الضغط على شفتيه معًا سيؤدي بطبيعة الحال إلى حرف “م”، وسيتحول صوت وا وا إلى ما-ما، وهي عبارة ألمانية تعني الأم، كما هو الحال في العديد من اللغات الأخرى، ربما لأنه من السهل نطقها. لكن عند بعض الأطفال، تتوقف هذه العملية.
الدكتورة ويرميك تتناقش مع مرشحة دكتوراه في الطب جينيفر شينك في بعض تسجيلات الأطفال الرضع.
من جهة أخرى، شغّلت ويرميك تسجيل مناغاة رضيع يبلغ من العمر شهرين يعاني من فقدان عميق للسمع. من المتوقع في هذا السن أن يصدر الرضيع أصواتا متنوعة ظاهرة على الشاشة كأقواس متعددة أثناء كل زفير. بدلاً من ذلك، تعرض الشاشة سلسلة من نتوءات فردية، ممزوجة بتنفسه. وقالت الدكتورة ويرميك إن “الأمر يبدو لطيفًا، وبصفتك أحد الأبوين، لن تلاحظ أي شيء. ولكن عند تحليلها، يمكنك رؤية الاختلافات”.
يهدف أحد المشاريع الحالية التي يعمل عليها المختبر بالتعاون مع قسم طب الأنف والأذن والحنجرة في عيادة جامعة فورتسبورغ، إلى تعميق فهمنا للكيفية التي تؤثر بها صعوبات السمع على البكاء والمناغاة. في هذا السياق، أخذ فريق ويرميك عينات من 150 مولودا حديثا، حيث أشار اختبار السمع إلى مشاكل محتملة بالنسبة لنصفهم، بينما اجتاز النصف الآخر، بما في ذلك جوريس، الاختبار وشكّل مجموعة مقارنة. سُجّلت أصواتهم في الأسبوع الأول من حياتهم، ومرة أخرى في عمر الشهرين ونصف لمعرفة كيف تطور بكاءهم ومنغاتهم.
في الواقع، يمكن أن يساعد تحديد المشكلات في هذه المرحلة المبكرة على تصحيح مسار نمو الطفل، خاصة إذا كان الوالدان يلفظان الكلمات بعناية لإظهار كيفية تكوين كل صوت. استُمع إلى رضيعة أخرى تبلغ من العمر 10 أشهر تقريبا خضعت لعملية زرع قوقعة، التي تحول الصوت إلى إشارات كهربائية وترسلها إلى عصب القوقعة. تعدّ عملية الزرع قرار هاما، لأن العملية تدمر بشكل نهائي ما تبقى من حاسة السمع. في أول تسجيل لهذه الرضيعة بعد العملية، أصدرت سلسلة من النداءات الرنانة عالية الصوت مقلّدة أصوات نغمات جهازها الذي نُشّط حديثًا: هوو! هوو!
الدكتورة وفاء شحاتة-دايلر تستخدم جهاز رصد خاص لاختبار سمع الطفل ماكس في مقصورة عازلة للصوت في عيادة الأطفال حديثي الولادة.
لكنها سرعان ما نمت وتطورت، وما حدث بعد ذلك كان مذهلا. خلال شهر واحد فقط، خضعت الرضيعة لنسخة سريعة التقدم من مسارها الإنمائي النموذجي. وانتقلت من قوس واحد إلى أقواس متعددة إلى مقاطع لفظية ذات الحروف الساكنة، والتي ستتبعها مرحلة قادمة وهي الكلمات. وقد أردفت الدكتورة ويرميك في وصفها للأطفال بعد عملية الزرع: “إنهم يتقدّمون بسرعة كبيرة”. فضلا عن ذلك، حقق رضيع يبلغ من العمر شهرين يعاني من مشاكل في السمع تقدما. فبعد تسعة أيام من تلقيه مساعدة سمعية، اخترقت صرخاته غير المنتظمة والمختنقة الفضاء لتجارب واثقة من أصوات الحروف المتحركة.
في المقابل، لا تعتبر الأجهزة السمعية الأداة الوحيدة التي يمكن تتبع تطوّر الأطفال من خلالها. في هذا الصدد، أطلعني اثنان من طلبة الدكتوراه التابعين للدكتورة ويلميك، ويدعيان بولين هامرستات وجازمين ماك، على صفيحة بلاستيكية صغيرة تستخدم لتغطية سقف أفواه المواليد الجدد مع الشفّة المشقوقة. حلّل الطالبان تسجيلات الأطفال الذين يحملون ولا يحملون صفيحة مدرجة منذ ولادتهم إلى حين بلوغهم من العمر 180 يومًا، وذلك لاستقصاء كيفية تأثير ذلك على مهارات النطق. من شأن هذه المعلومات أن تساعد الأطباء على تحديد أفضل خطة علاج.
بالنسبة للوالدين العاديين اللذين يرغبان في منح الطفل أفضل بداية، فإن نصيحة الدكتورة ويرميك بسيطة: “إنهم بحاجة فقط إلى الإنصات إلى أطفالهم وقضاء بعض الوقت معهم والغناء لهم واحتضانهم”. وخلال رعايتها لأحفادها، جرّبت الدكتورة ويرميك أيضا صوتا آخر أُثبت أنه مريح جدا للأعصاب: وهو العُواء.
لقد أثبتت لي ذلك في مكتبها، حيث عضّت شفتيها وملأت الغرفة بصوت متموج يشبه عواء الذئب وقدمت نصائح لتحسين حالة الطفل. حاولتُ تقليدها؛ وجلستُ معها لفترة من الوقت هناك، نَعوِي أمام بعضنا البعض. في وقت لاحق، رأيتها تعوي بجانب طفلين والرضيع جوريس حديث الولادة، لم تكن قد التقت بهما من قبل، حيث ضحك أحد الأطفال بسرور وبدا الآخر مذهولا للغاية. توقف الآخر عن البكاء وبدأ يسترخي. أدار الرضيع جوريس حديث الولادة رأسه لينظر إلى مصدر العُواء، ثم تنفس الصعداء ونام.
أكدت الدكتورة ويرميك أن جميع الآباء لديهم قدرة فطرية على فهم أطفالهم والاستجابة لحاجياتهم. وفي الواقع، الأمهات هنّ اللاتي دعمن بحثها منذ البداية، حتى عندما كان بقية العلماء متشككين. في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما بدأت الدكتورة ويرميك تسجيل أصوات الأطفال، رأى العديد من الباحثين أن البكاء هو مجرد إشارة إنذار بيولوجية، لا تستحق التدقيق والتمحيص فيها إلا إذا كان الطفل مصابا بمغص. لكن الأمهات لم ينتبهنّ أدنى شك بأن بكاء أطفالهن الصغار يستحق الدراسة.
أما جوديث فريك، والدة الرضيع الصغير جوريس، فقالت “أعتقد أنك ستتعرف على صوت طفلك من بين مئة آخرين. سوف تطور القدرة على ذلك”. ماذا عن العواء؟ بعد العودة من رحلتي، جربتها مع ابن أخي البالغ من العمر ثلاثة أسابيع. لم تكن روايتي إيقاعية مثل تلك التي قدمتها الدكتورة ويرميك، ولكن من دواعي سروري أن الأمر كان ناجحا نوعا ما. قام الطفل باحتضاني كتفيَ وتوقف عن البكاء، على الأقل لفترة قصيرة.
المصدر: نيويورك تايمز