“هيلا.. هيلا هيلا هيلا هو.. جبنا النقيب يا حلو”.. بهذه الكلمات عبّر محامو لبنان عن فرحتهم بفوز المرشح المستقل ملحم خلف في انتخابات نقابة المحامين التي جرت أمس في العاصمة بيروت، وذلك قبل أن يؤدوا معًا النشيد الوطني اللبناني الذي أعقبه هتافات ” “ثورة، ثورة” كما بثتها شاشات التلفزة المحلية مباشرة على الهواء.
خلف الذي يبلغ من العمر 56 عامًا قال فور إعلان فوزه: “نأمل أن يمتد مشهد العرس الذي عشناه هذا اليوم على الوطن بكامله لتدخل الديمقراطية وتجدّد نفَس المؤسسات التي نريدها أن تكون حماية للمواطن” ليسحب في التو رمزية فوزه على مرشحي جميع الأحزاب السياسية على الشارع المشتعل منذ 17 أكتوبر الماضي.
فرحة المحامين وردود الفعل على منصات السوشيال ميديا بفوز المرشح المستقل تناغمت وبشكل كبير مع مطالب الثوار المحتشدين في الشوارع والميادين قرابة الشهر الذين رأوا فيها رسالة ممزوجة بالأمل في أن يقود زمام الأمور في البلاد نخبة من غير المحسوبين على الأحزاب الراهنة التي كفر المحتجون بها جميعا.
خلف والرمزية السياسية
كثيرون اعتبروا انكسار تحالف السلطة في الانتخابات أمام المرشح المستقل يمثل انتصاراً للانتفاضة اللبنانية يضاف للمكتسبات التي حققتها منذ انطلاقها أبرزها استقالة الحكومة وعلى رأسها سعد الحريري والإطاحة بتسمية الوزير الأسبق محمد الصفدي لمنصب رئاسة الحكومة.
رواد مواقع التواصل الاجتماعي يرون أن نقابة المحامين وهي أعرق كيان نقابي في البلاد، تحوّلت أمس إلى صورة مصغرة من الدولة اللبنانية، مرشح مستقل يمثل الشعب غير المسيس المنتفض مؤخرًا في مواجهة تكتل الأحزاب السلطوية المتعالي سياسيًا، ورغم الضغوط وحملات التشويه التي مورست ضد خلف إلا أن كلمة المحامين (وهنا يمثلون الشعب) كانت الفيصل في حسم المعركة.
الماراثون الانتخابي شهد العديد من حملات التخوين والتشويه من قبل التكتل الحزبي، الذي بات يعزف على وتر فقدان خلف لصفة الاستقلالية في ترشحه، وأنه مدعوم من بعض القوى السياسية على رأسها حزب الكتائب في محاولة للتشويش على فوزه والتقليل من رمزية الانتصار، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح في تحقيق مآربها، وهو ما تعكسه ردود فعل الشارع الثوري قبل النقابي.
اللبنانيون المتواجدون في الشوارع والميادين قرابة الثلاثين يومًا يعتبرون اختيار شخصية كالصفدي لخلافة الحريري تعد مسألة تدوير للسلطة ذاتها دون تغيير
وكانت نقابة محامي بيروت قد أجرت، الأحد، انتخابات لعضوية مجلس النقابة، وفاز ستة أعضاء بينهم ثلاثة مرشحين لمنصب النقيب، فيما اكتسح خلف السباق الانتخابي مغردًا بمفرده بـ 2341 صوتا مقابل 1532 لمنافسه ناضر كسبار الذي تكتلت الأحزاب السياسية لتأييده، بجانب انسحاب مرشح حزب “القوات اللبنانية”، لحسابه، توحيدًا للجهود التي فشلت في مواجهة المرشح المستقل.
ويحمل خلف المولود في بيروت 1962 إجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت، ودكتوراه في القانون من جامعة مونبيلييه الفرنسية. وأسّس عام 1985 جمعية “فرح العطاء”، وهي منظمة غير حكومية فاعلة في لبنان تُعنى بتعزيز السلم الأهلي وترسيخ قيم التسامح وتوفير مساحة للحوار بين مختلف الأديان.
سُجّل محامياً مُتدرجاً في نقابة المحامين في بيروت، وانخرط في العمل النقابي منذ انتسابه عبر تعيينه في عدد من اللجان الداخلية داخل النقابة، ويعمل منذ 1990 أستاذا في كليّة الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف. كما يُشارك في مناقشة أُطروحات لمنح درجة دكتوره في القانون في جامعات لبنانيّة وفرنسيّة.
انتخبته الجمعية العمومية للأمم المتحدة عضواً في اللجنة الدولية للقضاء على التمييز العنصري في جينيف عام 2015، وبعدها بعامين فقط انتُخب نائباً لرئيس هذه اللجنة، له عدّة أبحاث ومقالات تُعالج غير موضوع في مجالات القانون وحقوق الإنسان والسياسة والثقافة.
تفاقم الأزمة
يأتي اكتساح المرشح المستقل لتحالف الأحزاب السياسية في انتخابات نقابة المحامين تزامنًا مع تفاقم النقمة الشعبية بعد تسريبات وتصريحات قبل أيام أكدت توافق القوى السياسية الرئيسية في البلاد على تكليف الوزير السابق محمد الصفدي (75 عامًا) بتشكيل الحكومة، قبل بدء الاستشارات بموجب الدستور.
ردود الفعل الغاضبة والرافضة لهذا الإجراء دفعت رجل الأعمال الثري إلى سحب اسمه من التداول كأحد الأسماء المرشحة لرئاسة الحكومة، آملًا في تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري مجددًا، كما جاء في بيان له قال فيه إنه ”من الصعب تشكيل حكومة متجانسة ومدعومة من جميع الأفرقاء السياسيين“.
ويعد الصفدي المرشح الأول الذي حظي ببعض الإجماع بين الأحزاب والطوائف اللبنانية منذ استقالة سعد الحريري من رئاسة الوزراء في 29 أكتوبر تشرين الأول تحت ضغط احتجاجات الشارع الذي يعتبر سحب وزير المالية السابق لترشحه لرئاسة الحكومة هدفًا جديدًا يحسب للثورة في مرمى السلطة التي يرفع الثوار مطلب رحيلها بالكامل تحت شعار “كلن يعني كلن”.
اللبنانيون المتواجدون في الشوارع والميادين قرابة الثلاثين يومًا يعتبرون اختيار شخصية كالصفدي لخلافة الحريري تعد مسألة تدوير للسلطة ذاتها دون تغيير، وأن الأمر لا يعدو كونه محاولة لامتصاص غضب الثوار بعيدًا عن أي نوايا حقيقية في النزول على المطالب المرفوعة منذ اليوم الأول للانتفاضة.
عكست التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة اللبنانية خلال الساعات الماضية عمق الصراع الخليجي الإيراني الخفي والذي تكشف الكواليس يوما تلو الأخر مدى تغلغله في المشهده
تبادل اتهامات
سحب الصفدي لترشحه أثار موجة من تبادل الاتهامات بين الكيانات السياسية، فالرجل وفق ما ذكرت “رويترز” يحظى بموافقة كل من حزب الله وحركة أمل الشيعيين، هذا بجانب التيار الوطني الحر بزعامة الرئيس ميشال عون، وفي المقابل هناك اتهامات للحريري بالتحفظ عليه رغم عدم إبداءه أي تصريحات في هذا الشأن
التيار الوطني في بيان له اتهم الحريري بتقويض مسعى الصفدي من أجل الاستئثار بالمنصب لنفسه، منتقدًا رئيس الحكومة المستقيل لإصراره على سياسة ”أنا أو لا أحد“ لقيادة الحكومة الجديدة وذلك في إشارة إلى إصرار الحريري على أنه لن يعود لرئاسة الوزراء إلا إذا تمكن أن يكون السياسي الوحيد في حكومة مؤلفة من خبراء.
وفي المقابل رفض الحريري في بيان صادر عن مكتبه اتهامات التيار الوطني بهذا الشأن ووصفه بأنه محاولة غير مسؤولة لتسجيل نقاط سياسية على الرغم من الأزمة الوطنية الكبرى التي يمر بها لبنان، في مشهد يعكس وفق ما ذهب البعض مدى هشاشة المناخ السياسي في البلاد.
من جانبه أصدر الصفدي بيانا في وقت لاحق اتهم فيه الحريري بعدم الوفاء ”بالوعود التي على أساسها قبلت أن أسمّى لرئاسة الحكومة المقبلة“، إلا أنه لم يوضح ما هي تلك الوعود لكنه قال ”فما كان منّي إلاّ أن أعلنت انسحابي“، وهي الخطوة التي زاد المشهد السياسي تعقيدًا.
صراع خليجي إيراني
عكست التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة اللبنانية خلال الساعات الماضية عمق الصراع الخليجي الإيراني الخفي والذي تكشف الكواليس يوما تلو الأخر مدى تغلغله في المشهد، حيث ترك موقف الصفدي حزب الله وحلفاءه أمام مأزق سياسي يتمحور في قلة الخيارات المتعلقة بالعثور على حليف سني مقرب.
هذا المأزق من شأنه تقليل فرص حصول لبنان على دعم دولي، ومن ثم سعى الحزب وحركة أمل، إلى جانب الرئيس عون، إلى عودة الحريري كرئيس للوزراء لكنهم طالبوا بأن تضم الحكومة الجديدة خبراء من التكنوقراط وسياسيين، غير أن رئيس الوزراء المستقيل، والحليف المقرب للسعودية والإمارات، قال إنه لن يعود للمنصب إلا إذا كان قادرًا على تشكيل حكومة مؤلفة بالكامل من متخصصين قادرين على جذب الدعم الدولي.
إيران وحلفاؤها يبحثون عن شخصية سنية معتدلة، لا تتعارض مع أيديولوجياتها المستمرة منذ عقود، وهو القلق الذي يخيم على طهران وأذرعها اللبنانية منذ انطلاق الانتفاضة، وفي المقابل ترى الرياض في هذا الحراك فرصة مواتية لتقليص النفوذ الإيراني وتقليل الحقائب الوزارية الموالية له في الحكومة الجديدة.
”وصلنا لطريق مسدود الآن. لا أعرف متى ستنفرج الأوضاع ثانية. الأمر ليس سهلا… الوضع المالي لا يتحمل أي تأجيل“..مسئول لبناني
كرة النار تلك التي تتدحرج ساعة بعد الأخرى تفاقم من الأزمة الاقتصادية التي باتتت على مشارف الوضعية الحرجة، وهو ما جسده التحذير الأخير لوكالة ستاندرد آند بورز جلوبال للتصنيفات الائتمانية، والتي خفضت الجمعة الماضية تصنيف لبنان الائتماني السيادي فيما يتعلق بالعملات الأجنبية والمحلية على المدى البعيد والقريب من (B-/B) إلىC/CCC).).
وردًا على هذا التحذير وافقت جمعية مصارف لبنان في بيان لها أمس على مجموعة من الإجراءات المؤقتة للبنوك التجارية تتضمن تحديد سقف أسبوعي للسحب من الحسابات الدولارية بألف دولار أمريكي، موضحة أن هذه الخطوات تستهدف توحيد المعايير وتنظيم العمل في البنوك وسط ”الظروف الاستثنائية“ التي تمر بها البلاد.
البقاء في الشارع
وواصلت الحشود المناوئة للحكومة تدفقها على شوارع لبنان أمس الأحد ملوحين بالأعلام اللبنانية احتفالا بمرور شهر على بداية الانتفاضة ولمواصلة الضغط، فيما ردد البعض الهتافات الثورية المطالبة برحيل النظام بأكمله، رافضين ما وصوفه بـ “المسكنات” التخديرية.
وتعليقًا على توتر الأجواء، قال قائد الجيش العماد جوزاف عون إن الجيش لن يمنع الناس من التظاهر في الميادين لكنه سيتدخل لفتح الطرق واصفا حرية الحركة بأنها ”مقدسة“، مضيفا في تصريحات نشرت على الموقع الإلكتروني للجيش اللبناني أن حالات الاحتجاز التي وقعت مؤخرا ”شملت عناصر عملت على إحداث شغب وواجهت الجيش وحاولت منعه من تنفيذ مهمّته وتعرّضت له، كما شملت أشخاصاً …تبيّن أن بحوزتهم مخدرّات“.
وتعبيرًا عما وصلت إليه الأوضاع من تأزم، نقلت “رويترز” عن مصدر سياسي كبير قوله ”وصلنا لطريق مسدود الآن. لا أعرف متى ستنفرج الأوضاع ثانية. الأمر ليس سهلا… الوضع المالي لا يتحمل أي تأجيل“، فيما وصف مصدر سياسي ثان جهود تشكيل حكومة جديدة بأنها عادت “لنقطة الصفر“.