في الرابع عشر من أغسطس، انطلقت الاحتفالات في مدينة كراتشي باستقلال باكستان عن التاج البريطاني ‒ أو بالأحرى تأسيس باكستان ‒ وتبعها عند منتصف الليل، في أولى ساعات يوم الخامس عشر من أغسطس، استقلال الهند، قبل ذلك اليوم كانت الدولتان بلداً واحداً؛ الهند، ولكن اتفاقية تقسيم قد وضِعَت لخلق بلدٍ خاص بالمسلمين، لتنشأ دولة باكستان، وعد الإنجليز البلدين بالاستقلال في نفس اليوم، ليتخلّصوا من عبء حكم الهند، ولكن الاحتفالات جرت في كراتشي قبل دلهي، كما يُقال، حتى يتمكّن اللورد “ماونتباتن”، آخر نائب عن العرش، من حضور احتفال الدولتين! فأصبح عيد استقلال باكستان الرابع عشر، وعيد استقلال الهند الخامس عشر من أغسطس!
جذور التقسيم
حَكَم الهند قبل الإنجليز سلاطين المُغال (أو المغول)، وهم مسلمون فُرس ثقافةً وأتراك عرقاً، إلا أنهم ذابوا بشكل كبير في النسيج الثقافي الهندي، وكانوا واحداً من أبرز عوامل تشكيل الثقافة المسلمة في الهند، لاسيّما نشأة اللغة الأوردية، وهي الهندية مكتوبة بحروف عربية.
كان المسلمون هم أكبر المتضررين من دخول الإنجليز؛ إذ فقدوا سلطانهم، وكانوا المحرّك الأكبر لثورة عام 1857م ضد وجود الإنجليز ومصالحهم، والتي شارك فيها الهندوس بشكل كبير أيضاً، ويعتبرها كل الهنود أول “حربٍ” لاستقلال الهند، غير أنه بمرور الوقت، بدأ الواقع الإنجليزي الجديد يفرض نفسه، ووجد الهندوس حافزاً أقل في التمسّك بإرث المُغال وعالمهم الأدبي الفارسي والأردي، ونظراً لاستعدادهم الأكبر للاندماج في بنية السلطة الحديثة الجديدة، أصبح للهندوس نصيبٌ أكبر من مناصب الدولة والأعمال الاقتصادية في الهند “الحديثة”، وهو ما دفع بالمسلمين إلى الهامش نسبياً، حتى ظهرت دعوات الإصلاحي المسلم “سيد أحمد خان” (1817 ‒ 1898م).
رأى أحمد خان، ودعا إلى تبنّي المسلمين للثقافة الحديثة الإنجليزية ليتمكنوا من استعادة موقعهم السابق، والوقوف على قدم المساواة مع الهندوس، دون التنازل بالضرورة عن الإرث الثقافي لمسلمي الهند، ووصل به الأمر لدعوة المسلمين للتعاون بشكل واضح مع الإنجليز، وهو ما اعتبره البعض برجماتية لتحسين أوضاع المسلمين، واعتبره بعض الهندوس مؤامرة بين الإنجليز والمسلمين لاستمرار الاستعمار، كما هي عادة الاستعمار مع أقليات عديدة حول العالم، أدت جهود أحمد خان إلى تأسيس الرابطة الإسلامية، والتي تشكّلت من تلامذته الذين تقبلوا بشكل كبير الثقافة الإنجليزية، معتبرين أنفسهم وحدة ثقافية قائمة بذاتها، منفصلة عن كل من الهندوس والإنجليز، ومتفاعلة مع كليهما حسبما تملي ظروف ومصالح المسلمين.
بمرور الوقت، نشأت طبقة وسطى مسلمة “حديثة”، حصلت على نصيب لا بأس به من المناصب والمصالح، وشكلت اللُّب السياسي للرابطة الإسلامية، كانت الرابطة تمثل نخبة المثقفين المسلمين العلمانية نسبياً، والتي نظرت لمسلمي الهند كوحدة عضوية، وهي التي تفتّق ذهنها لاحقاً عن إقامة دولة منفصلة للمسلمين، وعلى العكس كانت المجموعات الإسلامية التي نشأت كجزء من الحراك الإسلامي حول العالم بعد الحداثة، وعقب سقوط الخلافة، مثل جماعة علماء هند، ومجلس أحرار إسلام، وكان مفهومها للعمل الإسلامي في إطار الهند الموحدة، ورأت مسلمي الهند كمجموعة مرتبطة بسياق الهند وبالأمة الإسلامية بشكل أوسع، لا كوحدة قائمة بذاتها.
ظلت المجموعة الأخيرة تلك هي المهيمنة على الساحة الاجتماعية بشبكاتها وأفكارها الإسلامية التقليدية، خصوصاً بتحالفها مع حزب “الكونجرس” الهندي الذي قاده “غاندي” منذ العشرينيات، والذي حاول عبره ضم المسلمين قدر الإمكان، وهي جهود وصلت لأوجها أثناء الحرب العالمية الأولى، حين دعم حركة “الخلافة” التي ساند عبرها مسلمو الهند الخلافة العثمانية.
بمرور الوقت، ومع سقوط الخلافة وصعود الحركة القومية الهندوسية، والتي رأت هي الأخرى أن الهندوس والمسلمين لا يمكن أن يتصالحا في إطار سياسي واحد، نمت أرصدة الرابطة، خصوصاً والطبقات التي تمثلها كانت تزداد أهمية، وخطابها يكتسب أرضية لدى الطبقات الوسطى المتنامية على أرضية المنظومة الحديثة السياسية والاقتصادية، وهي تخشى من مجتمع يغلب عليه الهندوس بعد رحيل الإنجليز الذين كانوا ضمانة لمكتسباتها.
الفيل دون أذنَين
غلب في النهاية إرث الاستعمار والاحتقان المتزايد بين أتباع الدينَين، خصوصاً في أواخر الثلاثينيات، على رؤى الوحدة، ولكن حتى في الوقت الذي توصّل فيه كثيرون لاستحالة بقاء الهندوس والمسلمين في إطار سياسي واحد، كانت الرؤى الموضوعة للحكم الذاتي للمسلمين تتضمن مقترحات مختلفة، مثل لا مركزية على مستوى الولايات في إطار هند موحدّة، أو مجرد حل سياسي بين الرابطة الإسلامية والكونجرس، والنخب السياسية التي يمثلها كلاهما، والتي رأى كثيرون أنها في الواقع لُب المشكلة في التحوّل من حُكم الراج الإنجليزي إلى الهند الجديدة، التي كانت تخشى الرابطة فيها من طوفان هندوسي يزيح مكتسباتها في ظل ديمقراطية صِرفة.
غير أنه بحلول منتصف الأربعينيات، وبرغبة الإنجليز في الخروج من الهند بأسرع وقت، بدا التقسيم لدولتين خالصتين الضمان الوحيد والسريع للحفاظ على مكتسبات الرابطة التي بنتها على مدار عقود، وأصبحت تمثل وزناً مهماً للمسلمين ككُتلة في نظام حديث، وهو ما وقع بالفعل عام 1947م، قضت اتفاقية التقسيم ببقاء معظم الهند موحّدة كما كانت على مدار تاريخها، باستثناء (1) ولاية السند، و(2) نصف غربي من ولاية البنجاب، مع (3) بلوشستان، و(4) ولاية الشمال الغربي المتاخمة للأفغان، وعلى الناحية الأخرى من القارة على بعد آلاف الأميال، (5) النصف الشرفي لولاية البنغال، وكأن الفيل الهندي قد قُصَّت أذناه، كما قال مرة أحد الكتّاب، لتشكّل دولة باكستان الوليدة.
كانت الحدود بين شرق وغرب البنغال معروفة نظراً لتقسيم إداري سابق قام به الإنجليز، وكانت السند واضحة المعالم كولاية، إلا أن البنجاب، واحدة من أهم الولايات في الـ”راج” الإنجليزي، لم يكن أحد يدري بعد أين سيوضع بالضبط الخط الفاصل بين شرقها الهندي وغربها الباكستاني، ولوقت طويل بعد الاستقلال (والتقسيم) كانت هناك قرى حدودية بين بنجاب الهندية وبنجاب الباكستانية لا تدري أين هي، في الهند أم في باكستان.
المعادلة الباكستانية
رأى الساسة الهنود أن الفيل يمكن أن يمضي دون أذنيه، ولكن المعضلة كانت على الناحية الأخرى، حيث بدت دولة باكستان ذات قسمين مفصولين بآلاف الأميال فكرة عصية على الاستمرار، فبنغال هي جزء من عالم الشرق الهندي، وعلاقاته التاريخية مع بورما وجنوب شرق آسيا، في حين مسلمو البنجاب والسند جزء من الوجود التاريخي لكتلة مسلمي الشمال، وجذورهم الفارسية والتركستانية، لم يمضِ رُبع قرن حتى تعالت أصوات الاحتجاج في شرق البنغال ضد السلطة في إسلام آباد، فقامت حرب تقسيم باكستان، أو تحرير بنجلادش، التي اكتسحت فيها الهند، ووُلِدَت دولة بنجلادش، وأصبحت باكستان ولايات الغرب الأربع فقط. كانت ولاية البنغال عبئاً على أي حال، وكان متوقعاً أن تصبح باكستان أكثر حيوية وتجانساً، بعد أن تلملم جراحها من حرب عام 1971م، غير أن هذا لم يحدث، ولأسباب عدة، أبرزها استمرار دور الجيش في الحياة السياسية، وتأثير الوضع في أفغانستان، خصوصاً بالنظر للروابط بين شعوب الدولتين.
قوة البشتون التاريخية، والروابط بين البشتون على جانبي الحدود الباكستانية الأفغانية، كانت دوماً هاجساً لإسلام آباد، وكان الحل الأمثل، والناجح نسبياً حتى الآن، وإن على حساب الاستقرار الجزئي لشمال البلاد، هو التحالف مع قبائل البشتون بشكل كبير، ودعم “طالبان” جزئياً من وقت لآخر، ليصبح عصب السياسة في أفغانستان معادلة صعبة بين البنجاب (عصب الجيش) ومهاجري الأردو (روّاد فكرة باكستان في الأصل والذين هاجروا إليها من الهند) وقبائل البشتون (عامل موازِن لإيران في أفغانستان من ناحية، وظهير في مواجهة الدور الهندي من ناحية أخرى)، ولتصبح أولوية باكستان، التي كانت تحلم بريادة مسلمي المنطقة كلهم من دلهي (!)، فقط الحفاظ على هذه المعادلة التي تحفظ تماسكها ككيان في مواجهة فوضى الشمال وفيل الهند في الشرق.
مسلمو القارة الهندية اليوم
لا يزال مسلمو الهند يعدون التقسيم أسوأ حدث في تاريخهم، ولا يزال الكثير منهم يتساءل عن جدوى الانفصال في مقابل بلد صغير لم ولن يشاطر الهند نصف مقدرات “هندوستان” التاريخية كما كان يحلم، فإرث الهند وقدراتها وآفاقها ومساحتها وتاريخها ظلت ملكًا لها، الهند هي الهند كما كانت، فقط دون خمس ولايات.. أما باكستان، والتي كانت في مخيلة بعض روّاد التقسيم مساحة واسعة تصل إلى دلهي كعاصمة تاريخية للإسلام الهندي، وتضم ولايات جنوبية، فلم تنتزع من الهند سوى ولايات أربع، فالمسلمون لم يكونوا متركزين في ولايات بعينها، ولكنهم توزعوا على مختلف ولايات الهند بشكل يصعب معه أي تقسيم اجتماعي فعلي، وبدلاً من هند ثُلث سكانها اليوم من المسلمين، يستطيعون أن يساهموا بقوة في توجيه دفتها، أصبح مسلمو القارة الهندية اليوم منقسمين إلى 150 مليوناً في بنجلاديش، و170 مليوناً في باكستان، وحوالي 250 مليوناً في الهند. يقول أحدهم: إن مسلمي الهند اليوم يدفعون ثمن التقسيم، بوجود اجتماعي منكمش، واتهامات بين الحين والآخر بالعمالة لباكستان، ولكن لعل كل مسلمي القارة الهندية يدفعون، فمسلمو بنجلاديش يدفعون ضريبة التقسيم في صورة فقر مدقع، ونزوح كثير منهم نحو الهند، ومسلمو باكستان يدفعون ضريبة التقسيم في صورة “عنق زجاجة” جغرافي، مهدد بالفوضى الأفغانية من ناحية، ومُلزَم بمعاداة العملاق الآسيوي المحكوم من دلهي من ناحية أخرى؛ دلهي التي كان يظن يوماً أنه سيحصل عليها، والتي منها أصلاً ينبع تاريخه وثقافته.
كان الإسلام والهند كشجرتين تعانقتا ثم شهدتا نموهما معاً على مدار قرون، حتى بات مستحيلاً فصل أفرع الشجرتين المتعانقتين عن بعضهما، قطع بعض أجزاء الشجرة لفصلها كان يعني شيئين؛ أولهما: الانفصال عن جذع الشجرة الرئيس، وثانيهما: عدم القدرة على فصل كل الأجزاء المطلوب فصلها، والتي كانت، أحياناً، أجزاءً ثمينة جداً.
بين “طالبان” والهند
مشروع باكستان، في جنوب آسيا، وليد الرابطة الإسلامية وما تمثله من إرث التعاون مع الإنجليز، والانفصال عن الهند نفسياً واجتماعياً، قبل أن يتحقق ذلك سياسياً، ينافسه كمشروع “مسلم” في تلك المنطقة من العالم مشروعان، أحدهما إلى الشمال الغربي، وتمثله “طالبان”، والآخر إلى الجنوب الشرقي منها، وتمثله الحركات الإسلامية الهندية بالتحالف مع حزب الكونجرس الهندي أحياناً كثيرة.
العلاقة بين باكستان و”طالبان” تشوبها المودة والعداوة، فطالبان، من ناحية، قد ينتهي بها الأمر لتهيمن على شمال باكستان بالكامل مع جنوب شرق ووسط أفغانستان، أو بالأحرى نطاق وجود قبائل البشتون، ومن ناحية أخرى، هي الظهير الأساسي للتوازن بين باكستان وإيران في الساحة الأفغانية، وأحياناً ذراعٌ لـ”إرهاب” الهند وحجبها عن التمدد بدورها التاريخي إلى آسيا الوسطى.
أما بالنسبة للكونجرس الهندي، فهو أضعف من القيام بدور وسط مسلمي الهند منذ أن نسف التقسيم رؤيته الوحدوية، خصوصاً في غياب قيادات مسلمة قوية، وهو في أضعف حالاته اليوم عموماً؛ إذ يقود الهند القومي الهندوسي “مودي”، ويشهد تنظيمه وحزبه انتصارات سياسية كاسحة، هذا في حين يتسم مسلمو الهند وحركاتهم التقليدية بالسلبية والجمود، والرهان على دولة علمانية نسبياً يعد بها “الكونجرس” دائماً لحصد أصوات المسلمين، ويبدو أنها لم ولن تحقق لهم شيئاً، الرهان على العلمانية حين نكون أقلية، وعلى الإسلام حين نكون أغلبية، هو ازدواجية معايير على أي حال، وهي ازدواجية قد يضع اكتساح “مودي” حداً لها، ليجبر المسلمين على تبني رؤية جديدة لتحسين أوضاعهم، عوضاً عن ذلك، لا يبدو أن هناك صوت مسلم من الهند قد يستطيع أن يخاطب المسلمين خارج حدوده، ويقدم مشروعاً هندياً مسلماً ينافس به إسلام آباد.
على المستوى الدولي، يمثل استقرار المنطقة واستمرار الوضع على ما هو عليه منذ انسحاب الإنجليز، أحد أهم أرصدة باكستان للاستمرار، فأي توتر إلى الشمال في أفغانستان تحديداً، قد يمثل التهديد الأبرز لتماسك إسلام آباد. بالإضافة إلى أي اضطراب يخرج عن سيطرة الدولة الهندية في الغرب، وهو أمر مستبعد.
سيناريو انهيار الخط الأفغاني ‒ الباكستاني
أحد أهم عوامل استقرار هذه المنطقة من آسيا، الممتدة عبر أفغانستان وباكستان، والمتاخمة لدول آسيا الوسطى وروسيا من خلفها، والهند والصين وإيران، كان صعود الدور الأمريكي عالمياً منذ انسحاب الإنجليز، وتحالفهم مع باكستان واعتمادهم عليها كقاعدة انطلاق بجنوب ووسط آسيا، وعلى وجه الخصوص وجودهم العسكري بأفغانستان منذ عام 2003م، بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي ينتهي عام 2016م، وفي ظل غياب بديل دولي للحفاظ على المنظومة الحدودية الإنجليزية كما هي منذ حوالي قرن، وفي ظل تزايد الاهتمام الأمريكي بمنطقة المحيط الهادي على حساب غيرها، قد ينشأ تحوّل يطال الخطوط المرسومة على الخرائط، مثلما حدث ويحدث في الشام والعراق، حيث تنسحب الولايات المتحدة من العراق مولدةً فراغاً مسح فعلياً خط “سايكس بيكو” بين سورية والعراق، في ظل فشل جيوش دولتي العراق وسورية في السيطرة على الأرض بالكامل، ما إذا كان الجيش الباكستاني قادراً على ضبط هذه المساحات بالكامل هو أمر ستكشف عنه الأيام مع اكتمال الانسحاب الأمريكي، غير أن البعض لا يرى ذلك.
فقد تنبّأ الكاتب والمحلل الإستراتيجي المعروف، “روبرت كَبلان”، بتغيّر الخارطة كما نعرفها في معظم أنحاء آسيا والشرق الأوسط، خاصة أينما رُسِمَت حدودٌ تتعارض مع حقائق جغرافية وديموجرافية، من ضمن ما تنبّأ به هو تهاوي الحدود الباكستانية الأفغانية بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، في حالة كهذه ستصبح المساحة الممتدة من مرتفعات الهندوكوش بأفغانستان، إلى وادي السند، مفتوحة لتضُم البشتون والبنجاب ومهاجري الأردو والسند والبلوش، تشير الحقائق على الأرض بأن هناك أطرافاً ستتضرر من هكذا انهيار.
أول الساخطين ستكون ولاية السند الباكستانية، والتي طالما تقبّلت على مضض سلطة البنجاب ومهاجري الأردو بعد تقسيم الهند، وتحالفهم لاحقاً مع البشتون، وستكون قوتها الاقتصادية في مهب الريح، خصوصاً وهي أقرب إلى عالم الهند النامي من فوضى وفقر الشمال، السند تحديداً كانت الولاية التي شهدت أقل احتقان بين المسلمين والهندوس أثناء التقسيم، إذ كان سخط أهلها على نزوح القرويين البنجاب ونخبة بومباي غالباً على أي نزعات طائفية، ومنذ نشأة باكستان وهناك دعوات انفصالية تنطلق كثيراً رافضة السطوة “الأوردية ‒ البنجابية” على الولاية الغنية نسبياً، لعل السند ستلجأ بعَيد انهيار كهذا إما إلى الانفصال أو الانضمام للهند، وهو أمر يتوقف على رغبة الهند في حل كهذا بالتأكيد، سيصعّب من هكذا انفصال فقط وجود واحدٍ من المركزين النوويَّين لباكستان في كراتشي (الآخر في جشمة بولاية البنجاب).
ثاني الساخطين على انهيار كهذا ستكون الهند، التي ستصبح جاراً مباشراً لمسلحي أفغانستان، وسيصبح عليها تحمّل العبء الذي تحمّله الإنجليز يوماً أيام الراج، وهو الضلوع المباشر في الملف الأفغاني، وهو أمر لا ندري إن كان جيشها قادراً على الاضطلاع به أم لا.. ثالثهم ستكون إيران، والتي تمتلك مصالح كثيرة في أفغانستان، وبينها وبين باكستان خلافات شتى في هذه المنطقة، ولعل أحد نتائج انهيار كهذا سيكون انفصال مناطق شتى بغرب أفغانستان فعلياً، والمتحقق جزئياً حالياً، عن بقية أفغانستان، وتبعيتها لإيران، خصوصاً وغالبية سكانها من الطاجيك والأعراق الإيرانية الأقرب لإيران وعالم آسيا الوسطى من نطاق الهند الثقافي.. رابعهم، سيكون باكستان نفسها، والتي تحافظ على توازن دقيق بين القوة الاقتصادية المتمركزة في كراتشي بعيداً عن “الفوضي” الأفغانية، والقوة السياسية والعسكرية في إسلام آباد.. وأخيراً، سيظل ملف بلوشستان عالقًا، حيث البلوش الساخطين على النظامين الإيراني والباكستاني، والذين يطلقون دعاوى انفصال عن كليهما بين الحين والآخر.
عراقٌ آخر؟
العديد من القوى الدولية يهمها مصير منطقة الأفپـاك كما تُسمّى (AfPak)، لاسيّما الصين القريبة سياسياً من باكستان، والتي قد يهمها أكثر من أي طرف آخر أن تظل إسلام آباد قادرة على ضبط الأمور لسببَين رئيسَين؛ أولهما: أن انهيار إسلام آباد هو خسارة إستراتيجية للصين وهي المنافس التاريخي للهند بآسيا، فباكستان كحاجز عن وصول الهند إلى آسيا الوسطى ضرورة صينية، ووجود الهند كقوة تحاصرها الصين وباكستان النوويتَين من الشرق والغرب وضع إستراتيجي يفيد الصين بشكل عام للهيمنة في آسيا.. وثانيها: أن انفراط عقد هذه المنطقة سيؤثر بالقطع على الوضع في تركستان الشرقية، وسيؤجج التوتر المتزايد بين السلطات الصينية ومسلمي الأويجور.
الولايات المتحدة، وإن لم تكن معنية مباشرةً بتفاصيل الجيوسياسة في آسيا، إلا أن تماسك إسلام آباد يهمها، كما هي الحال مع بغداد، فقدوم الأمريكيين إلى مختلف مناطق العالم تزامن مع براجماتية الحفاظ على الخارطة الإنجليزية والاستثمار فيها كما هي، دون النظر إلى مخالفتها للحقائق التاريخية والديموجرافية على الأرض، وهو أمر يعني أنه بمرور الوقت، أصبح تماسك دول حليفة مثل باكستان والعراق و”إسرائيل” مهماً للولايات المتحدة في مناطق شتى من الشرق الأوسط إلى آسيا الوسطى، ويعني أيضاً أنه حال تغيّرت الأولويات الأمريكية، ستصبح تلك الدول نفسها في مهب الريح، كما نرى اليوم.
امتلاك تقليد عسكري عتيد ورثته باكستان عن الإنجليز، يخلق فرقاً واضحاً بينها وبين مليشيات “المالكي” التي حاول الأمريكيون أن يخلقوا منها جيشاً وطنياً، ليسقط في أول مواجهة مع ثوار العراق السُّنة ومقاتلي “داعش”، غير أن التقاليد العسكرية العتيدة والترسانة النووية ليست كل شيء، كما يشي لنا وضع “إسرائيل” المأزوم في غزة.
لعل انسحاب الولايات المتحدة الجزئي من المنطقة سيكون أشد اختبار وجودي تواجهه باكستان منذ تسلمت سلطتها من الإنجليز، لاسيّما بعودة “طالبان” إلى التمدُّد، والحاجة إلى نهج للتعامل مع رئيس وزراء الهند القومي الجديد “مودي”، وخروج إيران من عزلتها الدولية واقترابها من الولايات المتحدة في ملفات عدة، وعودة روسيا إلى الاهتمام بآسيا الوسطى.
ما إذا كانت إسلام آباد ستجتاز هذا الاختبار هو أمر ستكشف عنه الأعوام القليلة المقبلة، ولكنها إن لم تجتازه، لربما كانت الضريبة وجودها من الأصل، حين تفشل بلدان عتيدة، كالهند والشام وإيران واليابان وغيرها، فإنها تبدأ من جديد، ولكن حين تفشل دول صنع الاستعمار حدودها ووهبها سلطانها، فإنها غالباً ما تنمحي من الخارطة.
نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع المجتمع