ترجمة وتحرير نون بوست
في منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر، دخل زائر مألوف بهدوء إلى العاصمة العراقية مع بداية دوامة الاضطرابات في بغداد. وكانت المدينة تحت الحصار لأسابيع، بينما كان المتظاهرون يحتجون في الشوارع، مطالبين بوضع حد للفساد والإطاحة برئيس الوزراء، عادل عبد المهدي. وعلى وجه الخصوص، عبّر المتظاهرون عن استيائهم من التأثير الكبير الذي تمارسه جارتهم الإيرانية في السياسة العراقية، حيث حرقوا الأعلام الإيرانية وهاجموا قنصلية إيرانية.
على الرغم من أن الزائر تواجد هناك من أجل إعادة النظام والهدوء للبلاد، إلا أن وجوده سلّط الضوء على أكثر الأمور المثيرة لغضب للمتظاهرين، حيث جاء اللواء قاسم سليماني، قائد قوة القدس الإيرانية القوية، لإقناع حليفه في البرلمان العراقي بمساعدة رئيس الوزراء العراقي على التمسك بوظيفته. وفي الواقع، لم تكن هذه المرة الأولى التي يُرسل فيها سليماني إلى بغداد للقيام بمراقبة الأضرار. وتعد جهود طهران لدعم عبد المهدي جزءًا من حملتها الطويلة للحفاظ على العراق كدولة عميلة مطيعة.
اللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، وهو في طهران خلال شهر آذار/مارس سنة 2015.
في الوقت الراهن، توضّح الوثائق الإيرانية المسربة صورة مفصلة عن مدى عمل طهران بقوة على ترسيخ نفسها في الشؤون العراقية، ناهيك عن الدور الفريد من نوعه الذي اضطلع به سليماني. وتجدر الإشارة إلى أن الوثائق الواردة في أرشيف قنوات الاستخباراتية الإيرانية السرية التي حصل عليها موقع “الإنترسبت”، تمّت مشاركتها مع صحيفة “نيويورك تايمز الأمريكية” من خلال مقال مشترك، نشرته كلا المؤسستين الإخباريّتين.
تكشف التسريبات غير المسبوقة عن مدى تأثير طهران الهائل في العراق، الذي تعرض تفاصيل عن سنوات من العمل المضني الذي قام به الجواسيس الإيرانيون لاختيار قادة البلاد، ناهيك عن الدور الذي لعبوه في دفع رواتب الوكلاء العراقيين الذين يعملون لصالح الأمريكيين بهدف تغيير مواقفهم، والجهود التي بذلوها للتسلل إلى كل جانب من جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والدينية في العراق.
تصف العديد من البرقيات أهوال التجسس التي تحدث في الحياة الواقعية التي تبدو مقتبسة من صفحات من كتاب فيلم تجسس. وعموما، تنظّم الاجتماعات في الأزقة المظلمة ومراكز التسوق أو تحت غطاء رحلة صيد أو حفلة عيد ميلاد. كما يترصد المخبرون في مطار بغداد ويلتقطون صورا للجنود الأمريكيين ويراقبون الرحلات الجوية العسكرية الخاصة بقوات التحالف. وبهدف التهرب من المراقبين، يسلك العملاء طرقا متعرجة من أجل حضور الاجتماعات التي ينظّمونها.
فضلا عن ذلك، تُقدم الهدايا على غرار الفستق والعطور والزعفران والرشاوى للمسؤولين العراقيين، إذا لزم الأمر. كما يحتوي الأرشيف على تقارير مصاريف من ضباط وزارة الاستخبارات في العراق، بما في ذلك تقرير يكشف إنفاق حوالي 87.5 يورو كهدايا مقدمة لقائد كردي.
في 28 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2019، طوّق الجنود العراقيون المتظاهرين المناهضين للحكومة خارج مقر الحكومة في البصرة.
في غرة شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، غمر الآلاف ميدان التحرير في بغداد من أجل الاحتجاج ضد الحكومة.
وفقًا لإحدى البرقيات الاستخباراتية الإيرانية المسربة، كان عادل عبد المهدي، الذي كان يعمل في المنفى عن كثب مع إيران أثناء حكم صدام حسين للعراق، بصدد ربط علاقة خاصة مع جمهورية إيران الإسلامية، عندما كان يشغل منصب وزير النفط سنة 2014. والجدير بالذكر أنه لم يقع التطرق لطبيعة تلك العلاقة بالتفصيل في البرقيات. وفي هذا السياق، حذر مسؤول أمريكي رفيع المستوى أن “العلاقة الخاصة التي يربطها يمكن أن يكون لها الكثير من المعاني، وهذا لا يعني بالتأكيد أنه عميل للحكومة الإيرانية”. في المقابل، لا يمكن لأي سياسي عراقي أن يصبح رئيسا للوزراء دون مباركة من إيران، إذ اعتبر عبد المهدي، عندما منح رئاسة الوزراء في عام 2018، مرشحًا توافقيا يحظى بقبول كل من إيران والولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، تقدم البرقيات المسربة لمحة استثنائية داخل النظام الإيراني السري. كما تصف بالتفصيل مدى سقوط العراق تحت النفوذ الإيراني منذ الغزو الأمريكي له خلال سنة 2003، الذي حوّل العراق إلى بوابة للنفوذ الإيراني، الأمر الذي ساهم في توسيع هيمنة الجمهورية الإسلامية بداية من شواطئ الخليج العربي وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط. من جهتها، تؤكد تقارير الاستخبارات الإيرانية المسربة إلى حد كبير ما كان معروفًا بالفعل حول قبضة إيران الحازمة على السياسة العراقية. ومن جانبها، تفضح التقارير أكثر بكثير مما كان معروفا في السابق عن مدى استخدام إيران والولايات المتحدة للعراق كمنطقة عمليات لأعمالها التجسسية.
من جانب آخر، سلطت الوثائق الضوء على السياسة الداخلية المعقدة للحكومة الإيرانية، حيث تواجه الفصائل المتنافسة العديد من التحديات نفسها التي تواجهها قوات الاحتلال الأمريكية أثناء كفاحها من أجل استقرار العراق بعد غزو الولايات المتحدة لها. وتبين الوثائق كيفية تفوق إيران، في كل رحلة تقريبًا، على الولايات المتحدة في المنافسة على النفوذ.
التقى رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بالرئيس الإيراني حسن روحاني خلال زيارة أداها إلى طهران في 22 تموز/يوليو سنة 2019.
بشكل رئيسي، يتكون الأرشيف من مئات التقارير والبرقيات التي كتبها ضباط وزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية، أو وزارة الداخلية، الذين كانوا يعملون في الميدان في العراق خلال سنتي 2014 و2015. وتتمتع وزارة الاستخبارات، وهي النسخة الإيرانية من وكالة الاستخبارات المركزية، بسمعة باعتبارها وكالة تتسم بقدرة هائلة على تحليل المعطيات والمهنية، غير أن نظيرتها الإيديولوجية طغت وتفوقت عليها، التي تتجسد في كيان منظمة الاستخبارات التابعة لحرس الحرس الثوري الإسلامي، والتي أُسست رسميًا كهيئة مستقلة سنة 2009 بتعليمات من المرشد الأعلى لإيران، آية الله علي خامنئي.
في العراق ولبنان وسوريا، التي تعتبرها إيران من المناطق المهمة بالنسبة لأمنها القومي، يحدد الحرس الثوري، وخاصة فيلق القدس، الذي يقوده سليماني، معالم سياسات إيران. وبحسب العديد من المستشارين للإدارات الإيرانية الحالية والسابقة، يعين سفراء هذه الدول من الرتب العليا للحرس الثوري، التي تشرف على وزارة الاستخبارات عوضا عن وزارة الخارجية. وأفادت المصادر ذاتها بأن الضباط من وزارة الاستخبارات والحرس الثوري في العراق عملوا بالتوازي مع بعضهم البعض. وقد أرسلوا الاستنتاجات التي توصلوا إليها إلى مقرهم في طهران، الذي نظّمها بدوره ضمن تقارير لعرضها على المجلس الأعلى للأمن القومي.
كانت عملية تدريب المسؤولين العراقيين جزءًا أساسيًا من عملهم، حيث سهل ذلك التحالفات التي أقامتها العديد من القادة العراقيين مع إيران عندما كانوا ينتمون إلى جماعات معارضة لحكم صدام. ووفقا للوثائق نفسها، كان العديد من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين في العراق يربطون علاقات سرية مع طهران. علاوة على ذلك، تطرقت برقية سنة 2014 نفسها التي أشارت إلى “العلاقة الخاصة” التي يكونها عبد المهدي مع طهران، إلى العديد من الأعضاء الرئيسيين الآخرين في حكومة رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، الذين كانوا بدورهم على صلة وثيقة بإيران.
وفقا للتقارير المسربة، تحركت إيران بسرعة لإضافة مخبرين سابقين بوكالة الاستخبارات المركزية إلى قوائم المتعلقة بالرواتب، بعد انسحاب القوات الأمريكية سنة 2011
في هذا الصدد، أكد محلل سياسي ومستشار في شؤون العراق للحكومة الإيرانية، غيس غريشي، أن إيران ركزت على تعيين مسؤولين رفيعي المستوى في العراق. وتابع غريشي حديثه قائلا: “لدينا عدد كبير من الحلفاء من بين القادة العراقيين الذين يمكن أن نعطيهم ثقتنا المطلقة”. وطُلب من ثلاثة مسؤولين إيرانيين التعليق على هذا المقال، في استفسارات تشير إلى البرقيات والتقارير المسربة.
ردا على ذلك، قال المتحدث باسم بعثة الإيرانية في الأمم المتحدة علي رضا مير يوسفي، إنه سيكون مسافرا حتى وقت لاحق من هذا الشهر. وفي حين لم يرد سفير إيران لدى الأمم المتحدة ماجد طخت رافانشي، على طلب مكتوب تم تسليمه باليد إلى مقر إقامته الرسمي. ولم يجب وزير الخارجية محمد جواد ظريف على طلب أرسل له عبر البريد الإلكتروني.
عندما اتُّصل هاتفيا بسفير إيران في العراق من سنة 2010 إلى سنة 2017، ونائب قائد القوات البحرية للحرس الثوري سابقًا حسن دانييفار، رفض الحديث بشكل مباشر عن وجود برقيات، لكنه أشار إلى أن إيران تلعب دورا مهما في جمع المعلومات في العراق. وفي السياق ذاته، قال دانييفار: “نعم، لدينا الكثير من المعلومات الصادرة من العراق حول قضايا متعددة، خاصة حول ما كانت تفعله الولايات المتحدة الأمريكية هناك. وأضاف المصدر ذاته “هناك فجوة واسعة بين الواقع والخيال فيما يتعلق بأعمال الولايات المتحدة في العراق. ولديّ العديد من القصص لأرويها”. في المقابل، رفض دانييفار تقديم المزيد من التوضيح.
أقر المسؤولون الإيرانيون بأن إيران تعتبر مراقبة النشاط الأمريكي في العراق بعد الغزو الأمريكي حاسمة لبقائها وأمنها القومي
وفقا للتقارير المسربة، تحركت إيران بسرعة لإضافة مخبرين سابقين بوكالة الاستخبارات المركزية إلى قوائم المتعلقة بالرواتب، بعد انسحاب القوات الأمريكية سنة 2011. وفي الحقيقة، يُظهر جزء غير مؤرخ من برقية وزارة الاستخبارات أن إيران بدأت عملية تجنيد جاسوس داخل وزارة الخارجية. ولم يكن واضحا من الذي تولى مسؤولية توظيف هذا الجاسوس. ولكن وفقا للملفات، بدأت إيران في لقاء المصدر المعني بالأمر، وعرضت عليه راتب، وعملات ذهبية، وهدايا أخرى.
من جهة أخرى، لم يذكُر اسم المسؤول في وزارة الخارجية ولكنه وصف بأنه شخص قادر على تقديم “رؤى استخباراتية حول خطط الحكومة الأمريكية في العراق، سواء كان ذلك فيما يتعلق بتنظيم الدولة أو أي من العمليات السرية الأخرى التي تنفذها”. وجاء في التقرير ذاته أن “المال سيكون الحافز الذي من المحتمل أن يدفع بهذا الشخص إلى التعاون معهم”. في المقابل، رفضت وزارة الخارجية التعليق على الموضوع.
خلال المقابلات، أقر المسؤولون الإيرانيون بأن إيران تعتبر مراقبة النشاط الأمريكي في العراق بعد الغزو الأمريكي حاسمة لبقائها وأمنها القومي. وعندما أطاحت القوات الأمريكية بصدام، نقلت إيران بسرعة بعضا من أفضل ضباطها من وزارة الاستخبارات ومنظمة مخابرات حرس الثورة الإسلامية إلى العراق، وذلك وفقًا لمستشاري الحكومة الإيرانية ولشخص منتمي للحرس الثوري. ومن جهته، أعلن الرئيس جورج بوش الابن أن إيران تعد جزءا من “محور الشر”، حيث يعتقد القادة الإيرانيون أن طهران ستكون بعد ذلك على قائمة واشنطن لعواصم تغيير النظام بعد كابول وبغداد.
700 صفحة من الوثائق
يتعين على الحكومات في جميع أنحاء العالم مواجهة تسرب البيانات السرية أو رسائل البريد الإلكتروني الشخصية كحقيقة من حقائق الحياة العصرية. في المقابل، لا يعد الأمر كذلك في إيران، حيث تخضع المعلومات لرقابة مشددة وأجهزة الأمن تثير الخوف على نطاق واسع. علاوة على ذلك، أُرسلت حوالي 700 صفحة من التقارير التي سُرّبت بشكل مجهول إلى موقع “الإنترسبت”، والتي تُرجمت من الفارسية إلى الإنجليزية وشاركتها مع صحيفة التايمز. في الأثناء، تحقق موقع “الإنترسبت” وصحيفة “التايمز” من صحة المستندات، ولكنهما لا يعلمان من سرّبها.
في النهاية، تواصل موقع “الإنترسبت” مع المصدر عبر البرقيات المشفرة، لكنه رفض مقابلة أحد المراسلين. وفي هذه الرسائل مجهولة المصدر، قال المصدر إنهم يريدون “إعلام العالم بما تفعله إيران في بلدي العراق”. ومثلها مثل الاتصالات الداخلية لأي خدمة تجسس، تحتوي بعض التقارير على معلومات استخبارية أولية مشكوك في صحتها، بينما يبدو أن التقارير الأخرى تمثل آراء عملاء المخابرات ومصادر أخرى ذات أجندات خاصة.
في الحقيقة، تُظهر بعض البرقيات سخافات كوميدية، مثل تلك التي تصف الجواسيس الإيرانيين الذين اقتحموا معهدًا ثقافيًا ألمانيًا في العراق ليجدوا أن لديهم الرموز الخاطئة ولم يتمكنوا من فتح الخزائن، بينما تعرض الضباط الآخرون للضرب من قبل رؤسائهم في طهران بسبب الكسل، وإعادتهم لتقارير كانت تعتمد على وصف الأخبار إلى المقر.
على العموم، يبدو أن عملاء وزارة الاستخبارات الذين ظهروا في الوثائق صبورين ومحترفين وعمليّين، إذ كانت مهامهم الرئيسية تتمثل في منع العراق من الانهيار ومنع تكاثر المسلحين السنة على الحدود الإيرانية، بالإضافة إلى تجنب الحرب الطائفية التي من المرجح أن تجعل المسلمين الشيعة أهدافا للعنف والخروج عن كردستان المستقلة التي تهدد الاستقرار الإقليمي والسلامة الإقليمية الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، عمل الحرس الثوري وسليماني على القضاء على الدولة الإسلامية، ولكن مع تركيز أكبر على الحفاظ على العراق كدولة تابعة لإيران والتأكد من بقاء الفصائل السياسية الموالية لطهران في السلطة.
تعدّ هذه الصورة الأكثر إثارة للانتباه في زمن التوترات المتنامية بين الولايات المتحدة وإيران. ومنذ سنة 2018، عندما انسحب الرئيس دونالد ترامب من الصفقة النووية الإيرانية وأعاد فرض العقوبات، سارع البيت الأبيض بإرسال السفن إلى الخليج العربي، واستعرض الخطط العسكرية للحرب مع إيران. وفي تشرين الأول/ أكتوبر، وعدت إدارة ترامب بإرسال قوات أمريكية إلى المملكة العربية السعودية في أعقاب الهجمات على منشآت النفط هناك، حيث تلقت إيران اللوم بسببها على نطاق واسع.
تسير إحدى الحواجّ الشيعة أمام ملصقات الزعيم الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي، والقائد الروحي للجماعة الشيعية آية الله علي السيستاني الأكبر، أثناء موكب من مدينة النجف العراقية المقدسة إلى مدينة الضريح الوسطى كربلاء في 12 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2019.
أخبرهم أننا في خدمتكم
لطالما كانت إيران محورا رئيسيًا في جنوبيّ العراق، بفضل الإيمان المشترك والانتماءات القبلية التي تمتد عبر حدود يسهل اختراقها. فقد فُتحت مكاتب دينية في المدن المقدسة في العراق، ونُشرت لافتات للزعيم الإيراني آية الله روح الله الخميني في شوارعها. بالإضافة إلى ذلك، دُعمت البعض من أقوى الأحزاب السياسية في الجنوب، وأرسلت الطلاب الإيرانيين للدراسة في المعاهد الدينية العراقية، وعمال البناء الإيرانيين لبناء الفنادق العراقية وتجديد الأضرحة العراقية.
على الرغم من أنه من المرجح أن تكون إيران قد هزمت الولايات المتحدة في المنافسة على النفوذ في بغداد، فقد كافحت لكسب التأييد الشعبي في الجنوب العراقي. أما الآن، نظرا للتوضيحات التي برزت خلال الأسابيع الستة الأخيرة من الاحتجاجات، تواجه إيران تواجه صدا قويا غير متوقع. ففي جميع أنحاء الجنوب، أُحرقت المقرات الرئيسية للأحزاب السياسية العراقية المدعومة من إيران واغتيل قادتها. وفي الواقع، يدل ذلك على أن إيران ربما استهانت برغبة العراق في الاستقلال، ليس فقط من الولايات المتحدة، وإنما أيضًا من جارتها.
بمعنى ما، توفر البرقيات الإيرانية التي سرّبت التفسير النهائي للغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، إذ أصبحت فكرة أن الأميركيين سلّموا العراق إلى إيران عندما قاموا بغزوها في الوقت الراهن تتمتع بدعم واسع، حتى داخل الجيش الأمريكي. في المقابل، يعرض كتاب تاريخ حرب العراق الأخيرة المتكون من مجلدين، والذي نشره الجيش الأمريكي، تفاصيل العيوب الكثيرة للحملة و”تكلفتها المذهلة” في الأرواح والمال.
في الواقع، كشف الكتاب عن مقتل حوالي 4500 جندي أمريكي، بينما توفي مئات الآلاف من العراقيين، وأنفق دافعو الضرائب الأمريكيون ما يصل إلى تريليوني دولار على الحرب. وانتهت الدراسة، التي تضم مئات الصفحات والتي تستند إلى وثائق رفعت عنها السرية، بالقول إن “إيران الشجاعة والتوسعية تبدو هي المنتصر الوحيد”. وكان صعود إيران كلاعب قوي في العراق من نواح كثيرة نتيجة مباشرة لافتقار واشنطن إلى أي خطة بعد الغزو. ففي الحقيقة، كانت السنوات الأولى التي تلت سقوط صدام فوضوية، سواء من حيث الأمن أو فيما يتعلق بنقص الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء. وبالنسبة لمعظم المراقبين على عين المكان، بدا الأمر كما لو أن الولايات المتحدة كانت تبلور سياستها بشكل يومي، وفي غياب الوضوح.
كبار الضباط في نظام الزعيم العراقي المخلوع صدام حسين وهم يؤدون اليمين بعد التوقيع على بيان يعلن أنهم تخلوا عن حزب البعث الذي كان يتزعمه صدام خلال حفل أقيم في الموصل في 26 كانون الثاني/ يناير سنة 2004.
كان من بين أكثر السياسات الأمريكية كارثية قرارات تفكيك القوات المسلحة العراقية وعزل أي عراقي كان عضوا في حزب البعث الحاكم في عهد صدام من الخدمة الحكومية أو القوات المسلحة الجديدة. وهمّشت هذه العملية، المعروفة باسم اجتثاث البعث، معظم الرجال السنة تلقائيًا. كنتيجة لذلك، شكل العاطلون عن العمل والذين يشعرون بالاستياء تمردًا عنيفًا يستهدف الأمريكيين والشيعة الذين يعتبرون حلفاء للولايات المتحدة.
مع اندلاع الحرب الطائفية بين السنة والشيعة، التجأ السكان الشيعة إلى إيران للاحتماء بها. وعندما سيطر تنظيم الدولة على الأراضي والمدن، أدى ضعف الشيعة وفشل الولايات المتحدة في حمايتهم إلى تغذية الجهود التي بذلها الحرس الثوري وسليماني لتجنيد وتعبئة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران. ومن جهتها، واصلت إيران الاستفادة من الفرص التي منحتها الولايات المتحدة لها في العراق، وفقا لوثائق وزارة الاستخبارات. وعلى سبيل المثال، جمعت إيران مجموعة كبيرة من المعلومات الاستخباراتية عن الأسرار الأمريكية عندما بدأ الوجود الأمريكي في التراجع بعد انسحاب القوات الأمريكية سنة 2011.
في الأثناء، طردت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية العديد من عملائها السريين في الشوارع منذ فترة طويلة، تاركين إياهم عاطلين عن العمل ومعوزين في بلد غريب، وهم لا يزالون محطمين جزاء الغزو وخائفين من أن يُقتلوا على يد إيران بسبب صلتهم بالولايات المتحدة. وبسبب نقص الأموال، بدأ الكثيرون في تقديم خدماتهم إلى طهران، وكانوا سعداء بإخبار الإيرانيين بكل ما يعرفونه عن عمليات وكالة المخابرات المركزية في العراق.
في تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2014، اعترف أحد العراقيين بأنه كان يتجسس لصالح وكالة الاستخبارات المركزية، وبسبب خشيته من أن علاقاته بالأمريكيين ستكلفه حياته، قرر تغيير ولائه. ووفقًا لما ورد في البرقية، عرّفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الرجل بالاسم المستعار “دوني براسكو”، بينما يدعوه وكيله الإيراني “بالمصدر 134992”. وعندما التجأ هذا العميل إلى إيران للحماية، صرّح أن كل ما يعرفه عن جمع المعلومات الاستخباراتية الأمريكية في العراق كان للبيع، من ضمنها مواقع البيوت الآمنة التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية؛ أسماء الفنادق التي حدث فيها اللقاء مع عملاء وكالة الاستخبارات المركزية وتفاصيل أسلحته والتدريب على المراقبة؛ أسماء العراقيين الآخرين الذين يعملون كجواسيس للأمريكيين.
أخبر المصدر 134992 العملاء الإيرانيين بأنه عمل لدى الوكالة لمدة سنة ونصف منذ سنة 2008، وذلك ضمن برنامج يستهدف تنظيم القاعدة. وأضاف المصدر ذاته أنه تحصل على أجر جيد مقابل عمله وقدره ثلاثة آلاف دولار شهريًا، بالإضافة إلى مكافأة حصل عليها لمرة واحدة والمتمثلة في 20 ألف دولار وسيارة.
في المقابل، عند أداء القسم على القرآن، وعد براسكو بأن عمله في التجسس مع وكالات الاستخبارات الأمريكية قد ولّت. كما أنه وافق على كتابة تقرير شامل وتقديمه للإيرانيين حول كل ما عرفه خلال فترة عمله مع الوكالة. ووفقًا لتقرير استخباري إيراني صدر سنة 2014، أخبر براسكو ذو الجنسية العراقية الشخص الإيراني الذي يتعامل معه قائلا: “سأقدم لكم جميع الوثائق ومقاطع الفيديو التي أملكها عندما كنت مشاركا في الدورة التدريبية، بالإضافة إلى كل الصور التي تحدد هوية زملائي الذين شاركوا في التدريب فضلا عن المشرفين علينا”. وفي شأن ذي صلة، رفضت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التعليق حول هذا الأمر.
حجاج شيعة معظمهم من إيران يمشون بالقرب من ضريح الإمام عباس في 11 أيلول/ سبتمبر سنة 2016، في اليوم الثاني للحج في كربلاء، العراق. بعد منعهم من الدخول إلى مكة بسبب خلاف بين طهران والمملكة العربية السعودية، تجمعت حشود من الشيعة الإيرانيين في كربلاء للقيام بحج بديل.
قال بعض المسؤولين العراقيين إن هناك العديد من الجواسيس الإيرانيين المنتشرين في جميع أنحاء جنوب البلاد، علما وأن هذه المنطقة كانت منذ فترة طويلة عبارة عن خلية للجواسيس. وفي أواخر سنة 2014، وبالتحديد في مدينة كربلاء، التقى ضابط مخابرات عسكري عراقي من بغداد، بمسؤول مخابرات إيراني وطلب منه التجسس لصالح إيران، حيث ستتمثل مهمته في إخبار الإيرانيين بكافة الأنشطة التي تقوم بها الولايات المتحدة في العراق.
وفقا لما جاء في إحدى البرقيات، أخبر المسؤول العراقي الضابط الإيراني قائلا: “تعدّ إيران بمثابة بلدي الثاني الذي أحبه”. وفي اجتماع دام لأكثر من ثلاث ساعات، عبر هذا المسؤول العراقي عن إخلاصه الدائم لنظام الحكم الإيراني، الذي يحكمه رجال الدين بشكل مباشر، كما عبّر عن إعجابه بالأفلام الإيرانية. علاوة على ذلك، أفاد المسؤول العراقي أنه جاء برسالة من رئيسه في بغداد، اللواء حاتم المكصوصي، الذي أصبح قائد الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع العراقية، التي قالت: “أخبرهم أننا في خدمتهم وأننا سنضع تحت تصرفهم كل ما يحتاجونه، فنحن شيعة ولدينا عدو مشترك”.
تابع مبعوث المكصوصي حديثه قائلا: “اعتبر جميع استخبارات الجيش العراقي ملكك”. وأخبر المبعوث ضابط المخابرات الإيراني عن برنامج الاستهداف السري الذي قدمته الولايات المتحدة للعراقيين، وعرض تسليمه إلى الإيرانيين. وفي هذا السياق، أفاد المسؤول أن الضابط أخبره ما يلي: “إذا كان لديك جهاز كمبيوتر محمول جديد، فأعطني إياه حتى أتمكن من تحميل البرنامج عليه”. كما أخبره بوجود المزيد.
فضلا عن ذلك، منحت الولايات المتحدة العراق نظامًا فائق الدقة للتنصت على الهواتف المحمولة، حيث كان يشغل من مكتب رئيس الوزراء ومقر المخابرات العسكرية العراقية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المسؤول قد صرح بأنه سيضع تحت تصرف الإيرانيين أي معلومات استخباراتية حول هذا الأمر.
خلال لقاء معه، شكك المكصوصي، الذي تقاعد في الوقت الراهن، في الأقوال المنسوبة إليه في البرقيات ونفى أنه عمل لصالح إيران. وأشاد المكصوصي بجهود إيران في محاربة تنظيم الدولة، لكنه صرح بأنه حافظ على علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة. وفي شأن ذي صلة، بيّن هذا الشخص قائلا: “لقد عملت لصالح العراق، ولم أعمل لصالح أية دولة أخرى. ولم أكن مدير الاستخبارات في الشيعة، لكنني كنت مدير الاستخبارات في جميع أنحاء العراق”. وعندما سئل عن البرقية، قال مسؤول أمريكي سابق إن الولايات المتحدة باتت تعلم بشأن علاقات ضابط المخابرات العسكرية العراقية مع إيران، كما حدت من إمكانية وصوله إلى المعلومات الحساسة.
المرشحون الأمريكيون
بحلول أواخر سنة 2014، زوّدت الولايات المتحدة مجددا الجنود في العراق بالأسلحة، وذلك عندما بدأت في مقاتلة تنظيم الدولة. كما كان لإيران أيضًا مصلحة في هزيمة المتشددين، فعندما سيطر تنظيم الدولة على الغرب والشمال، انتقل العديد من الشبان العراقيين عبر الصحاري والمستنقعات الجنوبية بالحافلة، متجهين إلى إيران للمشاركة في التدريب العسكري.
من جهتهم، اعتقد البعض داخل الحكومتين الأمريكية والإيرانية أنه يتعين عليهما تنسيق جهودهما ضد عدوهما المشترك. في المقابل، كما توضح البرقيات المسربة، إيران، كانت تعتبر الوجود الأمريكي المتزايد في البلاد بمثابة تهديد، ويتمثل الهدف منه في جمع المعلومات الاستخباراتية عن إيران. وفي هذا الإطار، كتب أحد الضباط الإيرانيين قائلا: “ما يحدث فوق سماء العراق يُظهر المستوى الهائل لنشاط التحالف”. كما أن الخطر الذي يهدد مصالح جمهورية إيران الإسلامية يتمثل أساسا في نشاطها. لذلك، من الأجدر أن يؤخذ الأمر على محمل الجد”.
تسبب صعود تنظيم الدولة في نشوب خلافات بين إدارة أوباما ومجموعة كبيرة من الطبقة السياسية العراقية. فقد طالب باراك أوباما بالإطاحة برئيس الوزراء نوري المالكي كشرط لتجديد الدعم العسكري الأمريكي، حيث أفاد بأن سياسات المالكي الوحشية والحملات القمعية ضد السنة العراقيين ساعدت في صعود المتشددين.
عراقيون يحملون صورًا لرئيس الوزراء نوري كمال المالكي، وهم متجمعون في ساحة الفردوس في بغداد، في 13 آب/ أغسطس سنة 2014 للتعبير عن دعمهم له.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما يلتقي برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي خلال انعقاد الدورة العامة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 أيلول/ سبتمبر سنة 2014، في مدينة نيويورك.
كان المالكي، الذي عاش في المنفى في إيران خلال فترة الثمانينيات، الشخصية المفضلة لدى طهران. وكان ينظر إلى بديله، حيدر العبادي الذي تلقى تعليمه في بريطانيا، على أنه أكثر ودية بالنسبة للغرب وأقل طائفية. وفي مواجهة حالة عدم اليقين التي يكتنفها رئيس الوزراء الجديد، دعا حسن دانييفار، سفير إيران في ذلك الوقت، إلى عقد اجتماع سري بين كبار الموظفين في السفارة الإيرانية، وهو مبنى ضخم محصن خارج المنطقة الخضراء ببغداد.
مع تقدم سير الاجتماع، بات واضحا أن الإيرانيين ليس لديهم أي سبب يدعوهم للقلق بشأن الحكومة العراقية الجديدة. علاوة على ذلك، رفض العبادي لكونه رجلا بريطانيا ومرشحًا من الأمريكيين. في المقابل، اعتقد الإيرانيون أن هناك عددا كبيرا من الوزراء الآخرين. واحدا تلو الآخر، ذكر دانييفار أسماء أعضاء الحكومة المذكورين في القائمة، مشيرا إلى علاقاتهم بإيران.
على غرار عبد المهدي، كان إبراهيم الجعفري، الذي شغل سابقا منصب رئيس الوزراء العراقي، ومنصب وزير للخارجية في أواخر سنة 2014، يحظى بعلاقة خاصة مع إيران. وخلال في إحدى المقابلات، لم ينف الجعفري أن لديه علاقات وثيقة مع إيران، لكنه قال إنه كان يتعامل دائمًا مع دول أجنبية لغايات تخدم مصالح العراق.
اعتمدت إيران على ولاء العديد من أعضاء مجلس الوزراء، حيث جاء في تقرير أن وزراء البلديات والاتصالات وحقوق الإنسان كانوا في وئام تام ووحدة مع شعبهم. وفي هذا الإطار، صرح وزير البيئة قائلا: “لقد قبل العمل معنا، على الرغم من أنه سني”. ومن جانبه، اعتبر بيان جبر، الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية في الوقت الذي تعرض فيه مئات السجناء للتعذيب حتى الموت بواسطة الصعقات الكهربائية أو بالرمي بالرصاص من قبل فرق الموت الشيعية، مقرّبا للغاية من إيران. وعندما يتعلق الأمر بوزير التعليم في العراق، جاء في التقرير أنه لن تكون هناك أية مشكلة معه”
تظهر هيمنة إيران على السياسة العراقية بشكل واضح في حلقة واحدة مهمة من خريف سنة 2014، عندما كانت بغداد مدينة في خضم دوامة متعددة القوميات. كانت الحرب الأهلية السورية مشتعلة في الغرب، واستولى مقاتلو تنظيم الدولة على ثلث العراق تقريبا، بينما عادت القوات الأمريكية إلى المنطقة لمواجهة الأزمة المتفاقمة.
في ظل هذه الفوضى، رحّب جبر، والذي كان يشغل آنذاك منصب وزير النقل، سليماني، قائد قوة القدس، في مكتبه. لقد جاء سليماني ليطالب بالتأييد: إيران بحاجة إلى الوصول إلى المجال الجوي العراقي لنقل طائرات محملة بالأسلحة وغيرها من الإمدادات لدعم نظام بشار الأسد السوري في معركته ضد المتمردين الذين تدعمهم الولايات المتحدة.
في هذه الصورة الصادرة عن مكتب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، اللواء قاسم سليماني، يجلس على اليمين، بجوار آية الله علي خامنئي في احتفال ديني في مسجد في طهران في 27 آذار/ مارس سنة 2015.
كان ذلك هو الطلب الذي وضع جبر في منافسة طويلة بين الولايات المتحدة وإيران، حيث كان مسؤولو إدارة أوباما يضغطون بقوة بهدف إقناع العراقيين بإيقاف الرحلات الجوية الإيرانية عبر مجالهم الجوي. في المقابل، وجد وزير النقل العراقي نفسه وجها لوجه مع زعيم فيلق القدس. وفي هذا الصدد، يستحضر سليماني قائلا، “لقد جاء إليّ وطلب مني السماح للطائرات الإيرانية باستخدام المجال الجوي العراقي للمرور عبر سوريا”.
استحضر جبر أن سليماني “جاء إليّ وطلب بأن نسمح للطائرات الإيرانية باستخدام المجال الجوي العراقي ليمر إلى سوريا”، وذلك وفقا لإحدى البرقيات. ومن جهته، لم يتردد وزير النقل، حيث بدت على سليماني ملامح السعادة. وتابع جبر قائلا: “وضعت يدي على عيني وقلت، “على عيني! كما تريد!”. بعد ذلك، أخبر جبر ضابط وزارة الاستخبارات قائلا: “بعد ذلك، نهض سليماني واقترب مني وقبّل جبهتي”. بالإضافة إلى ذلك، أكد جبر الاجتماع مع سليماني، لكنه قال إن الرحلات الجوية من إيران إلى سوريا تحمل الإمدادات الإنسانية والحجاج المسافرين إلى سوريا لزيارة البقاع المقدسة، لا الأسلحة والإمدادات العسكرية لمساعدة الأسد كما يظن المسؤولون الأمريكيون.
في تلك الأثناء، عُرف مسؤولون عراقيون بأن لديهم علاقات مع الولايات المتحدة تخضع لرقابة خاصة، واتخذت إيران التدابير اللازمة لمواجهة النفوذ الأمريكي. وفي الواقع، تُبيّن الكثير من الملفات أنه بينما التقى كبار الدبلوماسيين الأمريكيين خلف الأبواب المغلقة مع نظرائهم العراقيين في بغداد، كانت محادثاتهم تُنقلُ بشكل روتيني إلى الإيرانيين.
خلال سنتي 2014 و2015، عندما استقرت الحكومة العراقية الجديدة، التقى السفير الأمريكي، ستيوارت جونز، بشكل مكثف مع سليم الجبوري، الذي شغل منصب رئيس للبرلمان العراقي حتى السنة الماضية. وعلى الرغم من أنه سنيّ عُرف بعلاقته الوثيقة مع إيران؛ إلا أن الملفات تكشف في الوقت الراهن، أن أحد كبار مستشاريه السياسيين، المعروف باسم المصدر 134832، كان أحد مصادر المخابرات الإيرانية.
فضلا عن ذلك، ذكر المصدر لمستشاره الإيراني قائلا: “أنا حاضر في مكتبه بشكل يومي وأتابع، بعناية، اتصالاته مع الأمريكيين”. وفي هذا الصدد، قال الجبوري، خلال إحدى المقابلات، إنه لا يعتقد أن أي شخص في طاقمه كان يعمل كوكيل لصالح إيران، وأنه يثق تماما بمساعديه. (ورفض جونز التعليق على ذلك).
في شأن ذي صلة، حثّ المصدر، الإيرانيين على تطوير علاقات أوثق مع الجبوري، لجعل الجهود الأمريكية أقل حدة، ولإعداد طبقة جديدة من الزعماء السُّنة الشبان في العراق وربما بهدف تحقيق المصالحة بين السنة والشيعة. وحذر المصدر من أنه يتعين على إيران أن تتعامل بأسلوب معين لمنع رئيس البرلمان من “الانزلاق إلى موقف موال للولايات المتحدة، خاصة وأن المصداقية واتخاذ القرارات المتسرعة تعد من بين سمات سليم الجبوري”.
يكشف تقرير آخر أن نيجيرفان بارزاني، رئيس وزراء كردستان آنذاك، التقى بكبار المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين بالإضافة إلى العبادي، رئيس الوزراء العراقي، في بغداد في كانون الأول/ ديسمبر سنة 2014، ثم توجه على الفور للقاء مسؤول إيراني لإخباره بكل الأمور. ومن خلال المتحدث الرسمي، قال بارزاني إنه لا يتذكر لقاء أي مسؤولين إيرانيين في ذلك الوقت ووصف البرقية بأنها “واهية ولا أساس لها من الصحة”. وتابع بارزاني حديثه قائلا إنه “ينفي تماما” إخبار الإيرانيين بالتفاصيل حول محادثاته مع الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين. وفي بعض الأحيان، يجد الإيرانيون قيمة تجارية في المعلومات التي تلقوها من مصادرهم العراقية.
كشف تقرير قدمه مستشار الجبوري أن الولايات المتحدة مهتمة بالوصول إلى حقل غني للغاز الطبيعي في آكاس بالقرب من الحدود العراقية السورية
في هذا السياق، كشف تقرير قدمه مستشار الجبوري أن الولايات المتحدة مهتمة بالوصول إلى حقل غني للغاز الطبيعي في آكاس بالقرب من الحدود العراقية السورية. وأوضح المصدر أن الأمريكيين قد يحاولون في نهاية المطاف تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، وهو سوق رئيسي للغاز الطبيعي الروسي. ومن جانبه، كتب ضابط وزارة الاستخبارات، في دهشة من أمره، برقية إلى طهران، جاء فيها: “من المستحسن أن يقع استخدام المعلومات المذكورة أعلاه بشكل متبادل مع الروسيين وسوريا”. وكُتِبت هذه البرقية بمجرد أن بدأت روسيا بتكثيف تدخلها بشكل كبير في سوريا، تزامنا مع استمرار إيران في تعزيز قواتها العسكرية هناك، لدعم الأسد.
على الرغم من أن إيران كانت في البداية تشكّكُ في ولاءات العبادي، إلا أن تقريرا كُتب بعد بضعة أشهر من وصوله إلى رئاسة الوزراء أشار إلى أنه كان على استعداد تام لإقامة علاقة سرية مع المخابرات الإيرانية. ويفصل تقرير صدر في كانون الثاني/ يناير سنة 2015، لقاء خاصا بين العبادي وضابط بوزارة الاستخبارات يُعرف باسم بروجردي، عُقد في مكتب رئيس الوزراء “دون تواجد سكرتير أو شخص ثالث”.
خلال الاجتماع، هدف بروجردي إلى مباحثة الخلاف السني – الشيعي في العراق، في محاولة لتقصي مشاعر العبادي فيما يتعلق بالموضوع الأكثر حساسية في السياسة العراقية. في هذا السياق، قال ضابط المخابرات، وفقا لما جاء في البرقية: “في الوقت الراهن، يجد السنة أنفسهم في أسوأ الظروف حيث فقدوا ثقتهم بأنفسهم”. وأضاف الضابط قائلا: “يعدّ السُّنة متشردون ومدنهم مدمرة، وينتظرهم مستقبلهم الضبابي، بينما يستطيع الشيعة استعادة ثقتهم بأنفسهم”. وواصل بروجردي قائلا إن الشيعة في العراق “يقفون على أعتاب نقطة تحول تاريخية مهمة”. إلى جانب ذلك، يمكن للحكومة العراقية وإيران “الاستفادة من هذا الوضع”. ووفقا للبرقية، عبّر رئيس الوزراء عن “موافقته التامة”. في المقابل، رفض العبادي التعليق على ذلك.
قوات الأمن العراقية تعتقل المشتبه بهم التابعين لتنظيم الدولة خلال اشتباكات في جرف الصخر في 17 آذار/ مارس سنة 2014.
تغيّر من الحلو إلى المرّ
منذ بداية حرب العراق سنة 2003، نصّبت إيران نفسها حامية للشيعة في العراق، وقد استخدم سليماني، أكثر من أي شخص آخر، فنون التجسس المظلمة والعمليات العسكرية السرية لضمان بقاء القوة الشيعية في الصدارة. وفي الحقيقة، كان ذلك على حساب الاستقرار، حيث حُرم السّنة بشكل دائم من حقوقهم ومن التطلع إلى مجموعات أخرى، على غرار الدولة الإسلامية، لحمايتهم.
كانت المجزرة التي راح ضحيتها السنة النازحون من المجتمع الزراعي في جرف الصخر سنة 2014 مثالا حيا على جميع أنواع الفظائع الطائفية التي ارتكبتها الجماعات المسلحة الموالية لفيلق القدس الإيراني، والتي مثلت إزعاجا للقوات الأمريكية خلال حرب العراق وعملت على تقويض جهود المصالحة. وبناء على ما توضحه التقارير الميدانية، امتلكت وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية مخاوف مشتركة مع الأمريكيين، وهو ما يشير إلى انقسامات داخل إيران فيما يخص سياساتها في العراق بين العناصر الأكثر اعتدالا في عهد الرئيس حسن روحاني والفصائل المسلحة مثل الحرس الثوري.
تزدان ناحية جرف الصخر بأشجار البرتقال وواحات النخيل، وتتخذ من وادي نهر الفرات شرق الفلوجة مكانا لها. واجتاح تنظيم الدولة هذه الناحية سنة 2014، ما منح المقاتلين موطئ قدم تمكنهم من شن هجمات على مدينتي كربلاء والنجف ذات الطابع القدسي. وتتمتع هذه المدينة بأهمية كبرى كونها تقبع في طريق يستخدمه الحجاج الشيعة إلى كربلاء خلال شهر محرم، والذي تدوم خلاله فعاليات إحياء ذكرى وفاة حفيد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، الإمام الحسين، والذي يحظى بتبجيل وقدسية متناهيتين لدى الشيعة.
استسلام الأسر العراقية للمقاتلين الشيعة والجيش العراقي عقب سيطرتهم على جرف الصخر وافتكاك سيطرتها من مقاتلي تنظيم الدولة في 27 تشرين الأول/ أكتوبر. ووفقا للجيش العراقي، استسلمت العائلات من أجل نقلها إلى مناطق آمنة.
عندما طردت الجماعات المسلحة الشيعية المدعومة من إيران المقاتلين من ناحية جرف الصخر في أواخر سنة 2014 في انتصارها الأول على تنظيم الدولة، أضحت شبيهة بمدينة أشباح. ولم تعد المدينة العراقية تشكل تهديدا على آلاف الحجاج الشيعة الذين يمرون بها، إلا أن فوز القوات الإيرانية كانت له تداعيات دفع السكان السنة المستسلمون ثمنا باهظا بسببها. ونتيجة لذلك، نزح عشرات الآلاف من السكان، كما عُثر على العضو السني الوحيد في المجلس الإقليمي مقتولا برصاصة في رأسه.
يصف أحد التسريبات الاستخباراتية الضرر الحاصل باستخدام عبارات وكأنما هي مقتبسة عن الإنجيل بالقول: “نتيجة لهذه العمليات، طُهِّرت المنطقة المحيطة بجرف الصخر من العملاء الإرهابيين، فهُجِّرت عائلاتهم ودَمَّرت القوات العسكرية منازل عائلاتهم في انتظار تدمير البقية. وفي بعض الأماكن، اقتُلِعت واحات النخيل وحُرِقت لمنع الإرهابيين من الاحتماء بها، كما كانت ماشية الأنام هائمة ومنتشرة ترعى الكلأ دون تواجد مالكيها”.
زادت عملية جرف الصخر وغيرها من الأعمال الدموية التي قادها وكلاء إيران ووُجِّهت من طرف طهران من عزلة السكان السنة في العراق، وذلك وفقا لأحد التقارير التي تشير إلى أن “تدمير القرى والمنازل ونهب ممتلكات السنة والماشية جعلت من حلاوة هذه النجاحات ضد تنظيم الدولة مرارة كبرى”. وينقل أحد المسربين في جرف الصخر تأثير الميليشيات الشيعية باستخدام عبارات صادمة: “في جميع المناطق التي تدخلها قوات الحشد الشعبي، فر السنّة من منازلهم وهجروها وتركوا ممتلكاتهم خلفهم لا يولون على شيء، ففضلوا العيش في الخيام كلاجئين أو مقيمين داخل هذه المخيمات”.
في هذا الصدد، كانت وزارة الاستخبارات تخشى تبديد المكاسب الإيرانية في العراق انطلاقا من كره العراقيين للجماعات المسلحة الشيعية وقوة القدس الداعمة لهم. وفوق كل شيء، ألقى ضباطها باللوم على سليماني، الذين رأوا أنه يروج لنفسه بشكل خطير عن طريق التعويل على حملة مناهضة لتنظيم الدولة لإطلاق مسيرته في عالم السياسة في مسقط رأسه إيران. وينتقد أحد التقارير الذي يُشترط عدم مشاركته مع فيلق القدس هذا الجنرال بشكل شخصي بسبب التشهير بدوره الرائد في الحملة العسكرية في العراق، وذلك عن طريق “نشر صور لنفسه على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة”.
من خلال فعل ذلك، بدا جليا أن إيران تسيطر على الميليشيات الشيعية المروعة، لتقدم بذلك هدية محتملة لخصومها. وورد في التقرير أن: “هذه السياسة الإيرانية في العراق سمحت للأمريكيين بالعودة إلى بلاد الرافدين بشرعية أكبر، كما تتمنى المجموعات والأفراد من السنة التي قاتلت ضد الأمريكيين في السابق أن تتدخل واشنطن لتخليص العراق من بين براثن إيران، ويذهب البعض لتمني تدخل إسرائيل كذلك”.
تكافح إيران للحفاظ على هيمنتها في العراق، كما هو الحال مع الأمريكيين بعد غزو البلاد سنة 2003. وفي الوقت ذاته، يشعر المسؤولون العراقيون بقلق متزايد من تسبب الاستفزاز في العراق من أي جانب إلى اندلاع حرب بين الدولتين المتنافستين من أجل الهيمنة في وطنهم
في بعض الأحيان، سعى الإيرانيون إلى مواجهة الإرادة المعلولة المصاحبة لتواجدهم داخل العراق باستخدام حملات القوة الناعمة الشبيهة بمبادرات ساحات المعارك الأمريكية الساعية لكسب “العقول والقلوب”. ويسعى الإيرانيون إلى “الحصول على ميزة دعاية واستعادة صورة إيران بين الناس. ووضعت طهران خطة لإرسال أطباء الأطفال وأطباء النساء إلى القرى في شمال العراق لإدارة الخدمات الصحية، وذلك وفقا لتقرير ميداني يتيم، لكن يبدو أنه من غير الواضح ما إذا كانت هذه المبادرة قد تحققت.
كما هو الحال، ستستخدم إيران نفوذها لإبرام اتفاقيات وصفقات التنمية الرابحة. ومع اعتماد العراق على إيران للحصول على الدعم العسكري في حربه على تنظيم الدولة، يُظهِر أحد التسريبات أن فيلق القدس يحصل على عقود النفط وتطوي البنية التحتية من الأكراد العراقيين مقابل الأسلحة وغيرها من المساعدات. أما في الجنوب، مُنِحت إيران عقودًا لإقامة المجاري وتنقية المياه بعد دفع رشوة قيمتها 16 مليون دولار لأحد أعضاء البرلمان، وذلك وفقا لتقرير ميداني آخر.
أما اليوم، تكافح إيران للحفاظ على هيمنتها في العراق، كما هو الحال مع الأمريكيين بعد غزو البلاد سنة 2003. وفي الوقت ذاته، يشعر المسؤولون العراقيون بقلق متزايد من تسبب الاستفزاز في العراق من أي جانب إلى اندلاع حرب بين الدولتين المتنافستين من أجل الهيمنة في وطنهم. وفي ظل هذا الوضع الجيوسياسي المتقلب، تعلم العراقيون منذ زمن بعيد اتباع نهج براغماتي تجاه مبادرات جواسيس إيران، ويشمل ذلك حتى العراقيين السنة الذين ينظرون إلى إيران كعدو.
في وصفه لأحد مجندي الاستخبارات العراقيين الذي عمل سابقا لصالح صدام حسين ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية، كتب أحد الضباط الإيرانيين سنة 2014: “هو لا يؤمن بقدرات إيران فقط، بل إنه لا يعتقد أن إيران قد تكون لديها نوايا إيجابية تجاه العراق، لكنه جاسوس محترف وملم بواقع الشيعة في العراق وإيران وسيتعاون معهم لإنقاذ نفسه”.
المصدر: الإنترسبت