في منازل لا يزيد ارتفاع سقفها عن مترين، ولا يدخلها الضوء ولا الهواء، وتأكلها الرطوبة والعتمة، يعيش ملايين الناس في شقق تحت الأرض، أو كما تسمى أقبية أو “بدورم”. ويقصد بها الشقق التي تقع بشكل كامل أو جزئي أسفل الطابق الأرضي. وتختلف أسباب الأشخاص الذين يعتبرون القبو خيارًا جيدًا للسكن، مع وجود خطين تحت كلمة خيار، لأنه في بعض الأحيان يغدو هذا القرار مرتبطًا بالوضع المادي، وليس بالرغبة الشخصية.
القبو.. ملجأ الحرب والغلاء
بالأساس، بُنيت الأقبية في أواخر القرن التاسع عشر كملاجئ مهمة لحماية الناس من الغارات والصواريخ الجوية خلال الحرب العالمية الثانية، في الدول الغربية. ثم استخدمت كمواقف السيارات أو غرف صيانة أو مساحات تخزين المعدات غير الضرورية أو كبيرة الحجم، ولكن مع تطور آلات الحفر والرافعات التي قللت الوقت والجهد البشري اللازم للحفر تحت الأرض، حظيت الأقبية بشعبية أكبر بالمقارنة مع السابق.
وإلى الآن لا تزال الأقبية بمثابة مأوى من الكوارث الطبيعية مثل الأعاصير، أو مخبئ من الحروب مثلما حدث في منطقة الغوطة الشرقية قرب دمشق العام الماضي، حين “أصبح العيش تحت الأرض في الغوطة الشرقية هو المعتاد، وإن بعض الأسر تعيش في مخابئ تحت الأرض منذ 4 أسابيع وبعض المخابئ فيها 200 شخص”. بحسب تقرير منظمة اليونيسف.
عدا عن تلك الأسباب، ازدادت الحاجة إلى الأقبية بسبب ارتفاع أسعار العقارات بشكل هائل في عدد من الدول، وخاصةً في العواصم والمدن الكبرى، وتحديدًا منذ بداية فترة الخمسينيات التي اعتبر حينها القبو بحد ذاته شقة منزلية، لأن أسعار استئجاره معقولة ومناسبة بالنسبة لمحدودي الدخل والطلاب. فلا شك، أن إمكانياتهم لا تسمح لهم بشراء منزل أو حتى استئجار شقة في إحدى طوابق البنايات السكنية العلوية.
في هذا الشأن، أجرى معهد لينكولين لسياسات الأراضي استطلاع للرأي شمل 200 مدينة، وخلص إلى أن تكاليف السكن في 90% من هذه المدن ليست في متناول المواطنين متوسطي الدخل. وبالتالي، ليس أمامهم خيارًا آخر سوى القبول في السكن بالأقبية. في المقابل، يمثل تحويل القبو من مساحة تخزين أو مرآب إلى شقة منزلية أو مكتب عمل، مصدر دخل إضافي لأصحاب المنازل والعقارات، وبالتالي ينظر إليه البعض كفرصة استثمارية حقيقية.
يمثل تحويل القبو من مساحة تخزين أو مرآب إلى شقة منزلية أو مكتب عمل، مصدر دخل إضافي لأصحاب المنازل والعقارات
إلى جانب انخفاض التكلفة، يُفضل البعض السكن في الأقبية لاتساع المساحة، بمعنى أن بإمكانهم استئجار منزل تحت الأرض، يتكون على سبيل المثال من 3 غرف أو أكثر، وبملبغ معقول، ولكنهم لن يستطيعوا استئجار نفس المساحة في الطوابق العليا، وهكذا يستفيدون من المساحة بتكلفة أقل. وكذلك يرى سواهم أن الشقق في الطوابق السفلية تمنح المزيد من الخصوصية للعائلات، حيث لا يوجد فيها نوافذ كبيرة أو مطلة على أحد، ولأنها تحتوي أيضًا -في بعض الأحيان- على مداخل خاصة بها.
الأثر الصحي والنفسي
وجدت دراسة أن سكان الأقبية أكثر عرضة لأمراض الجهاز التنفسي والأمراض الجلدية والحساسية وإصابات الحريق وأمراض العيون ومشاكل الأذن. كما قدمت الدراسة مجموعة من الخطوات للحد من هذه التأثيرات، وركزت على ضرورة التهوية بشكل أساسي، خوفًا من آثار الرطوبة وغياب الهواء النقي والعتمة على صحة ساكنيها، لأن هذه الظروف المعيشية تشكل فرصة ذهبية لجذب الآفات والجراثيم ونموها على جدران المنزل وأجسام المالكين والمستأجرين.
يُنصح السكن في قبو لا يقل ارتفاع سقفه عن مترين و 13 سم، مع ضرورة وجود نافذة في كل غرفة وأن يكون نصف طولها على الأقل فوق مستوى الشارع
إن غياب الإضاءة الطبيعية يؤدي إلى ظهور العفن في الخشب والسجاد، كما يطلقها جراثيما في الهواء والتي يمكن أن يتنفسها كل شخص المنزل وذلك قد يؤدي إلى مشاكل صحية، مثل: تهيج العينين والأنف والحنجرة والسعال وضيق في التنفس وأعراض الربو والحساسية.
وللحد من هذه التهديدات، يُنصح السكن في قبو لا يقل ارتفاع سقفه عن مترين و 13 سم، مع ضرورة وجود نافذة في كل غرفة وأن يكون نصف طولها على الأقل فوق مستوى الشارع، كما من المهم أن تكون جدرانها مقاومة للماء وارضياتها عازلة للصوت، بسبب الضجيج العالي الذي قد يصدر من الشقق في الطوابق العلوية.
وعلى صعيد الصحة النفسية والعقلية، سعت العديد من الدراسات الأسترالية والدولية إلى فهم العلاقة بين ظروف السكن والصحة العقلية. أظهرت إحداها، بعد متابعة من 205 إلى ألف و634 شخصًا، في جميع مراحل حياتهم -من الولادة إلى سن الرشد والشيخوخة، أن سوء أحوال السكن يمكن أن يؤدي إلى تدهور الصحة العقلية، ويشمل ذلك احتمالات أعلى للإصابة بالاكتئاب والتوتر والقلق، وتجربة مشاعر التعب والإرهاق واليأس.
بدأت بعض السلطات الأخرى في التساؤل عن إمكانية استغلال المساحات تحت الأرض لبناء منشآت مختلفة، كمراكز التسوق والشوارع، لحل أزمة الاكتظاظ السكاني وتخفيف الضغط عن سطح الأرض
بكلمات أخرى، تبين لنا هذه النتائج المنطقية، أن المنزل هو جزء أساسي من حياتنا، ومثله مثل المال والحب والوظيفة، يؤثر على سعادتنا وحالتنا المزاجية وطاقتنا، وكلما كان هذا الحيز الشخصي مريحًا، كلما انعكس ذلك على قدرتنا على النوم والتفكير وإنتاجيتنا بشكل عام.
الجزائر مثالًا
في تقرير بعنوان “سكان الأقبية في العاصمة.. أحياء لا تزورها الشمس”، كتبت فتحية زماموش، إعلامية وباحثة جزائرية، “ربما لا يعرف كثيرون ممّن يزورون العاصمة الجزائرية، أن هناك مدينة أخرى آهلة بالسكان، وحياة موازية تقع مباشرة تحت المدينة التي نرى بناياتها الشاهقات، فكثيرة هي العمارات التي تُخفي في طوابقها الأرضية أو أقبيتها، أحياءً سكنية لا تصلها الشمس ولا أعين المسؤولين”.
وأضافت “الحياة في أقبية العمارات، أو “لاكاف” كما يُسمّى بالدارجة الجزائرية، لا تختلف كثيرًا عن حياة التشرد في الشارع أو اللجوء، أو العيش في الأحياء القصدرية، فكل هذه الأحياء، يتقاسم سكّانها، المرض والمعاناة وقساوة الطبيعة، في انتظار خيارات قليلة جدًا للحصول على شقّة مريحة، ضمن برامج السكنات التي توزعها الحكومة”.
هناك ما يقرب من 500 عائلة في أقبية العمارات، شرق العاصمة، وتحديدًا في حي الجرف وسوريكال وببرج الكيفان ودرقانة.
منذ أكثر من 30 عامًا، ينتظر سكان هذه المنازل قرارًا أو ردًا من الدولة على احتجاجاتهم ومناشداتهم المستمرة لإدراجهم ضمن قائمة عمليات الترحيل ليتم نقلهم إلى مساكن لائقة. ولكن، بحسب الباحثة، فإن الترحيل يعني مشاريع سكنية جديدة ولكن مع مرور الوقت والمماطلة الحكومية، يتضح لاحقًا أن هذه المشاريع ما هي إلا أوهام يسوقها المسؤولون لقناطي هذه الأماكن من وقت لآخر. ومع ذلك، تجري بعض عمليات إعادة الإسكان لكن بأعداد قليلة جدًا وبوتيرة بطيئة.
إذ تشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من 500 عائلة في أقبية العمارات، شرق العاصمة، وتحديدًا في حي الجرف وسوريكال وببرج الكيفان ودرقانة. كما تبين أرقام أخرى وجود أكثر من ألف و23 عائلة موزعة في مناطق مختلفة من العاصمة، وهم الأسر التي تعيش بما يصفوه بـ “الكهوف”، وينتظرون إبعادهم عن هذه المناطق والمنازل المهمشة.
ختامًا، تعتبر هذه المساكن في بعض الدول غير قانونية للعيش أو العمل، بسبب المخاطر الصحية التي ذكرناها آنفًا. ولكن في الوقت نفسه، بدأت بعض السلطات الأخرى في التساؤل عن إمكانية استغلال المساحات تحت الأرض لبناء منشآت مختلفة، كمراكز التسوق والشوارع، لحل أزمة الاكتظاظ السكاني وتخفيف الضغط عن سطح الأرض. ما يعني أنه في المستقبل، لن يكون العيش تحت الأرض مقتصرًا فقط على فئة معينة من الناس، وقد يشمل الجميع، وخاصةً سكان المدن الكبيرة والمزدحمة.