للحدّ من التأثير التركي.. ألمانيا تتجه لتدريب أئمة المساجد

تعتقد السلطات الألمانية أن التأثير التركي الكبير في بلادها يعود في جزء هام منه إلى أئمة المساجد الذي ينحدر أغلبهم من أصول تركية، وللحدّ من هذا التأثير المتنامي في المجتمع والأوساط السياسية والاقتصادية والفنية الألمانية، ترى السلطات ضرورة تغيير سياساتها مع المساجد عبر تدريب الأئمة على البرنامج الذي تراه ألمانيا صالحًا وليس البرنامج الذي يحمله الإمام من بلده أو البلد الذي تعلم فيه قواعد الإسلام، وتطبيق سياسات جديدة حتى وإن كان فيها تحايل على الدستور.
“ديتيب” في قفص الاتهام
ترى سلطات هذا البلد الأوروبي، أن للاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية المعروف اختصارا بـ “ديتيب” دور كبير في تنامي التأثير التركي في ألمانيا، فأغلبية الأئمة العاملون هناك ينتمون إلى “ديتيب“. ويعد هذا الاتحاد الذي تأسس بمدينة كولونيا عام 1984، أكبر مظلة إسلامية في ألمانيا تضم 900 مسجد تتوزع على الولايات الألمانية الـ16، بأئمة أتراك مدربين وممولين من الدولة التركية.
وتتبع هذه المنظمة الإسلامية غير الحكومية لهيئة الشؤون الدينية في تركيا (ديانت)، وهي من أكبر المنظمات الإسلامية في البلاد، وتضم ديتيب في عضويتها 930 جمعية بعدما كان العدد لا يتعدى 135 جمعية فقط عند تأسيس المنظمة، والجمعيات المنضوية تحت لواء الاتحاد مستقلة عنها قانونيًا وماليًا، لكنها تشترك معها في الأهداف.
تشير المنظمة في موقعها الرسمي إلى أنها تهدف إلى تطوير وتقديم الخدمات الدينية وتعزيز الحوار بين الأديان والثقافة والنهوض بالتعايش بين الناس من مختلف الأديان والثقافات، كما أنها تعمل على تنسيق الأنشطة الدينية والاجتماعية والثقافية للجمعيات المنضوية تحت لوائها في ألمانيا.
وتدير المنظمة عددا من المؤسسات الدينية والاجتماعية، غير أن الحكومة الألمانية أصبحت تنظر إليها بعين الريبة، بعد أن كانت تعدّها إحدى أبرز الشركاء لها في قضايا الحوار مع الأقلية المسلمة في البلد. نتيجة ذلك راجعت الحكومة الاتحادية سبق آلية الدعم المعمول بها مع المنظمة، ولم توافق منذ سنة 2017 على طلبات جديدة لدعم مشاريع تابعة لديتيب وحده.
رغم منع الدستور الألماني الحكومة من التدخل في الشؤون الدينية للمجتمع، فإن حكومة ميركل مصرّة على التدخّل في عمل الأئمة وتكوينهم
سبق أن تلقت ديتيب أموالا في السنوات الماضية من صناديق مالية مختلفة تابعة للدولة الألمانية، على رأسها صندوق خاص بالدعم في إطار الخدمة التطوعية لدى الجيش الألماني، وبرنامج “أن تعيش الديمقراطية” الذي تشرف عليه وزارة شؤون الأسرة الألمانية.
ويدّعي الألمان أن هذه المنظمة الإسلامية المستقلة، تتبع مباشرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي تخدم توجهه ومساعيه الكبيرة لإخضاع الأشخاص ذوي الجذور التركية في ألمانيا والمسلمين ككل لنفوذه وتأثيره.
يذكر أنه يعيش في ألمانيا نحو ثلاثة ملايين من ذوي الأصول التركية من أصل 15 مليون تركي مهاجر، وهو ما يجعلهم يشكلون المجموعة الكبرى من بين المهاجرين الأتراك خارج البلاد، ومن بين هؤلاء نحو 27% لهم وجود منذ ثلاثين عاما أو أكثر، إضافة إلى 5% يعيشون بألمانيا منذ حوالي عشرة إلى ثلاثين عاما.
وتمثّل هذه الجالية، أحد عناوين القوة التركية الناعمة في ألمانيا، وتؤيد نسبة كبيرة منها حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتعود بدايات تشكل النواة الأهم لهذه الجالية إلى ستينيات القرن الماضي حين اضطرت ألمانيا الغربية تحت وطأة نقص اليد العاملة الماهرة والحاجة لإعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية إلى استقدام مئات آلاف العمال من دول عديدة -منها تركيا- ضمن ما عرف وقتها ببرنامج “العمال الضيوف”.
تدريب الأئمة
هذا التأثير الكبير لهذه المنظمة وهؤلاء الأئمة التابعين لها، جعل الحكومة الألمانية تبحث عن آلية للحد منه، ومن المنتظر أن تبدأ ألمانيا بعد يومين تنفيذ برنامج لتدريب الأئمة المسلمين هناك، وسيشرف على تنظيم هذا المشروع مؤسسة تعليمية بدعم من وزارة الداخلية الألمانية.
ورغم منع الدستور الألماني الحكومة من التدخل في الشؤون الدينية للمجتمع، فإن حكومة ميركل مصرّة على التدخّل في عمل الأئمة وتكوينهم، وسيتم ذلك عبر تأسيس جمعية “مستقلة” لتدريب الأئمة سيكون مقرها في ولاية ساكسونيا السفلى.
مشاركة أردوغان في افتتاح مسجد كولن
وكانت جامعة هومبولت في برلين قد افتتحت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي معهدا للدراسات الإسلامية، كما تُدرس معاهد أكاديمية في مدن مونستر وتوبنغن وأوسنابروك وغيسن وإرلانغن نورمبرغ حاليا الدراسات الإسلامية، إلا أن جميعها لم يؤدّي المهمة المطلوبة منه، وفق العديد من الألمان، ذلك أن هذه المعاهد لا تُعلم المهام التي يؤدّيها الإمام في المسجد.
تتضمن الخطة الجديد التي تنوي الحكومة الألمانية تطبيقها لتعليم أئمة المساجد تصورها للإسلام” “إنشاء جمعية مسجلة بالتعاون مع المنظمات الإسلامية ومجتمعات المساجد المهتمة بالبرنامج”، وفق وزارة ساكسونيا السفلى للعلوم والثقافة.
تمويل المساجد
إلى جانب ذلك، قرّرت الحكومة الألمانية إطلاق مشروع تجريبي اسمه “مساجد من أجل الاندماج”، ستقدم وزارة الداخلية من خلاله ملايين اليورهات لعشرات المساجد، ويهدف هذا المشروع وفق القائمين عليه إلى دعم الإرشاد والعمل الاجتماعي وتعزيز الاتصالات بين المساجد ومحيطها المجاور.
ومن المقرر أن يذهب الدعم لنحو خمسين مسجدا و”بيوت الجمع” العلوية، والتي لن يتم اختيارها من قبل اتحادات إسلامية كبيرة، بل من قبل أربع منظمات، وهي: المؤسسة الألمانية للأطفال والمراهقين، ومعهد غوته، ومؤسسة أوتو-بينيكه، والجمعية الألمانية للرفاهة المتكافئة.
هذه الاجراءات المتعدّدة، تسعى من خلالها السلطات الألمانية إلى تقليص نفوذ الأئمة القادمين من خارج البلاد خاصة الأتراك منهم والحدّ من تأثير أنقرة على مساجد المسلمين في البلاد
نقلا عن مصادر من وزارة الداخلية قالت “دويتشه فيليه” الألمانية إن تنظيم هذا المشروع التجريبي، سيكون على عاتق الهيئة الاتحادية لشؤون الهجرة واللاجئين بمساعدة مجلس استشاري يضم خبراء من منظمات إسلامية وإدارات وأوساط علمية ومدنية. ويمتدّ دعم المساجد على مدار الأعوام الثلاثة المقبلة بمخصصات تصل إجمالا إلى نحو سبعة ملايين يورو.
فرض تعلّم الألمانية
يبدو أن الحكومة الألمانية لن تكتفي بهذا الحد، فها هي تعتزم إلزام علماء الدين، كأئمة المساجد المستقدمين من الخارج، بتعلم اللغة الألمانية قبل السماح لهم بدخول البلاد، وفقا للمتحدث باسم الداخلية الألمانية.
ومطلع هذا الشهر، قال المتحدث باسم الداخلية الألمانية إن الحكومة الاتحادية تعتزم فرض تعلم اللغة الألمانية على علماء الدين الراغبين في العمل في البلاد والوافدين من الخارج. وأضاف أن تعلم اللغة الألمانية سيصبح شرطا أساسيا لحصول الأئمة على تأشيرة لدخول البلاد. وتابع المتحدث أن الحكومة الاتحادية برئاسة المستشارة ميركل أعدت مسودة قانون بهذا الصدد ودفعت بها إلى البرلمان ـ بوندستاغ ـ لإقراره.
يتبع غالبية الأئمة العاملين في ألمانيا إلى الدولة التركية
تنص مسودة القانون التي تقدمت بها وزارة العمل، ووزارة الداخلية الاتحادية على أن هؤلاء الأئمة يمكن فقط أن ينجحوا في عملهم إذا كانوا منذ البداية يجيدون الألمانية، ما يسهل عليهم عملية التواصل مع أبناء الجالية الدينية والمحيط الاجتماعي بهم. كما تساهم هذه الخطوة في تعزيز عملية اندماج علماء الدين وأئمة المساجد في المجتمع الألماني.
هذه الاجراءات المتعدّدة، تسعى من خلالها السلطات الألمانية إلى تقليص نفوذ الأئمة القادمين من خارج البلاد خاصة الأتراك منهم والحدّ من تأثير أنقرة على مساجد المسلمين في البلاد، غير أن هذه الاجراءات من شأنها أن تزعزع الشعور بالأمان لدى العديد من المسلمين في هذا البلد الأوروبي.