نعيش اليوم في عالم تسيطر فيه أنظمة الحاسوب على معظم مفاصله، فقلّما نعثر على جانب من جوانب الحياة لم تدخل الحواسيب في صميم عمله، فنحن نشهد ولادة الثورة الصناعية الرابعة، أو ما يسمى بعصر “الذكاء الاصطناعي”.
عملاق التواصل الاجتماعي “فيسبوك” الذي بدأ في عام 2004 كتطبيق تواصل بين طلاب جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية، يتجاوز عدد مستخدميه اليوم على المليارين في جميع أصقاع الأرض.
وهذا الانتشار الكبير كان بسبب الاستغلال الأمثل من قبل شركة فيسبوك لخوارزميات الذكاء الاصطناعي، فابتكرت خوارزميات وتوصلت لطرق جعلتها تقفز إلى الصدارة بسرعة البرق.
القصة تعود إلى عام 2013، عندما طلب مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرج من قادة الشركة وضع خطة لضمان سيطرة فيسبوك على شبكات التواصل لمدة 20 سنة القادمة.
فخرج مستشاروه بتشكيل مركز أبحاث للذكاء الاصطناعي متطور تُوفر له كل وسائل الدعم فكانت النتيجة تأسيس (Facebook AI Research (FAIR.
Facebook AI Research (FAIR)
كان هدف شركة فيسبوك من تأسيس مجموعة أبحاث الذكاء الاصطناعي الخاصة بها والمعروفة اختصاراً ب (FAIR)، هو الحصول على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، في محاولة من الشركة لفهم آليات الذكاء، كي تتمكن فيما بعد من إنشاء آلات ذكية.
استمر نمو (FAIR) من مجموعة فرعية داخل شركة فيسبوك لتصبح فيما بعد منظمة أبحاث دولية، لها مختبرات في مينلو بارك ونيويورك وباريس ومونتريال وسياتل وبيتسبيرج ولندن، وتوضح FAIR، إن جعل الآلات ذكية يمثل تحديًا علميًا وكذلك تحديًا تقنيًا، فهو يتطلب فهم آلية الذكاء عند الإنسان، والتفريق بين الذكاء والفهم والعلم والمعرفة والعديد من الأسئلة الجدلية.
مستوى الذكاء الذي وصلت إليه FAIR
استطاعت FAIR بعد سنوات من الأبحاث الطويلة تطوير خوارزميات دقيقة للتعلم العميق والتعلم غير الخاضع للإشراف -أي أن الآلة تعلم نفسها بنفسها- لكن ما أثار حفيظة بعض المتخوفين من التطور في تقنيات الذكاء الاصطناعي، هو ما كشفته FAIR عن مستوى التخاطب بين الروبوتات التي صممتها.
حيث قامت الروبوتات بالتخاطب فيما بينها بلغة غريبة لم يستطع أحد فهمها، ومقدار استجابة الروبوتات والتفاعل فيما بينهم على ضوء هذه اللغة الغريبة أثار زوبعة من الانتقادات لـ FAIR، مطالبينها بالتوقف عمّا تجريه وأين تريد الوصول بهذا الذكاء!
بينما عللت FAIR سبب حدوث ذلك إلى أنّ الروبوتات تمت برمجتها لتتعلم أساليب التفاوض من تلقاء نفسها، لكن نسيَ المبرمجون تحديد لغة التخاطب الواجب تعلمها، فكانت النتيجة قيام الروبوتات بتأليف لغة مبسطة من وجهة نظرها تؤدي إلى نفس المقصود.
الآلات غبية حتى الآن
يقول ليكون، كبير خبراء الذكاء الاصطناعي في فيسبوك: “حتى الآن، حتى أفضل أنظمة الذكاء الاصطناعي غبية”، يعزو ذلك إلى اعتماد الآلات على أسلوب التعلم المسمى “التعليم الخاضع للإشراف”، بمعنى يتم تزويد الحواسيب بكم كبير من البيانات وتعطى رؤوس نقاط وبعدها يطلب من الحاسوب إكمال المهمة.
مثال ذلك يتم تغذية الحواسيب بصور قطط وكلاب لتتعلم ماهيّة القطط والكلام، بعد ذلك يعرض عليها صور جديدة ويطلب منها التعرف على القطط والكلاب، ويتطلب نجاحها تغذية الحواسيب بكميات هائلة من البيانات.
لكن ما قمت به FAIR هو تطوير خوارزمية “التعلّم المعزز”، وهو تغذية الحواسيب بكميات صور كبيرة ويطلب منها على سبيل المثال معرفة صور القطط، دون تحديد ملامح القطط مسبقاً كما الحال في النوع السابق.
تقوم الخوارزميات من خلال تحليل عدد كبير من الصور، بالتعلم من سياق الصورة -ما الذي يحتمل أن يكون موجودًا في صورة قطة، أو ما النص أو البيانات الوصفية التي قد تشير إلى أن الصورة تحتوي على قط.
هذا النوع من التعليم يمكن أن يساعد في تحسين أشياء مثل الكلام والتعرف على الأشياء، ويمكن أن يلعب دورًا مهمًا في تقدم الأبحاث في مجالات متنوعة مثل الفيزياء والهندسة والبيولوجيا والطب.
بعض الأمثلة للأدوار التي يلعبها الذكاء الاصطناعي في فيسبوك
1. تحويل الأفكار في الدماغ إلى نص
أعلن فيسبوك عن مشروع أطلق عليه “Facebook 8 Building”، الذي يتيح قياس الأفكار في الدماغ ومن ثم تحليلها وبعد ذلك كتابتها، وهو ما يمكن أن يحدث ثورة في عدد التطبيقات المحتمل إنجازها من خلال هذا المشروع.
فمثلاً يمكن أن تساعد ذوي الإعاقة على تحريك أطرافهم الصناعية عبر التفكير بالأمر فقط.
2. تخصيص المحتوى الذي تتابعه على التطبيق
إن المحتوى الذي يظهر أمامنا عند تصفحنا لفيسبوك لم يأت عبثاً، بل من خلال تحليل بياناتنا وآثارنا الرقمية ومتابعة سجل تفاعلنا على المنصة، كل ذلك يقوم AI بتحليله ومن ثم الخروج بخوارزميات تحدد لنا ماذا نشاهد في البدء وماذا نشاهده في الأخير.
3. الاستعانة بالذكاء لحظر الإباحية على المنصة
في بدايات انتشار التطبيق، كان حظر الإباحية يعتمد على بلاغات الناس عن مضمون المحتوى، وبعد ذلك يقوم بعض المشرفين في الشركة بمراجعة محتوى البلاغ ومن ثم حظره. لكن مع تجاوز عدد المستخدمين للمليارين يستحيل على الشركة توفير موظفين لمراقبة بلاغات هذا الكم المهول.
من هنا جاءت أهمية الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، فيقوم تلقائياً بالتعرف على المحتوى من خلال تحليل الصور ومقاطع الفيديو، وكان نسبة دقته حوالي 98%.
4. استخدام الذكاء الاصطناعي لحماية الخصوصية
يتعرض موقع فيسبوك بشكل عام وحسابات العاملين في الشركة إلى كم كبير من محاولات التهكير والقرصنة، فحساب مارك زوكربيرج لوحده يتعرض إلى 14 مليون محاولة اختراق في السنة، هنا يأتي الدور المهم لـ AR لتوفير الأمان المطلوب وسد الثغرات.
5. حظر المحتوى الإرهابي والمسيء
يواجه فيسبوك تحدياً كبيراً لأجل حظر المحتوى الإرهابي والمسيء، إذ تعرض قبل فترة لهجوم شديد بسبب انتشار بعض مقاطع الفيديو ذات المحتوى الإجرامي، كحالة إطلاق النار التي حصلت في مساجد نيوزيلندا من قبل أحد المتطرفين.
أقر مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرج بأن الشركة لا تزال بحاجة إلى إنفاق مبالغ كبيرة لاكتشاف المحتوى الخطير، وأن التحدي كبير ومستمر.
تستعين الشركة بالذكاء الاصطناعي لتدريب خوارزمياتها وتطويرها لاستكشاف محتوى الكراهية المنتشر على منصتها، لكن يتطلب منها توفير كميات كبيرة من البيانات لأجل التدريب.
أيضاً من التحديات كان نشر بعض المحتوى بلغات أقلّ شيوعاً من اللغات المتداولة، الأمر الذي قاد الشركة إلى إضافة لغات جديدة إلى مترجمها.
6 إطلاق برنامج للموضة مستند على الذكاء الاصطناعي
طوّر باحثون خدمة Facebook Fashion وهي خدمة مخصصة للموضة، وهو نظام يقوم بإجراء تعديلات على الزي عبر كاميرا التطبيق، وتقديم اقتراحات لجعل الزي أكثر أناقة.
7. تطوير الألعاب
ساهم فيسبوك بتطوير نظام الألعاب عبر دعمها بخوارزميات متطورة من الذكاء الاصطناعي، حيث أنشأ نظام Pluribus AI تمكن من التغلب على بطل العالم في البوكر.
وقال نعوم براون، عالم الأبحاث في فيسبوك: “إن لعب لعبة تضم ستة لاعبين بدلاً من لاعب واحد يتطلب تغييرات أساسية في كيفية تطوير الذكاء الاصطناعى لاستراتيجيتها في اللعب. نحن سعداء بأدائها ونعتقد أن بعض استراتيجيات بلوريبوس للعب قد تغير الطريقة التي يلعب بها المحترفون اللعبة”.
في السابق كان الذكاء الاصطناعي مصمم للتغلب على لاعب واحد، بينما هذا النوع الجديد فصمم للتغلب على 6 لاعبين مما يعني أنه قفزة كبيرة في مستوى ذكاء الحواسيب، مما يسهم في تطوير منتجات كثيرة في الواقع المادي.
8. الترجمة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي
يوجد قرابة 800 مليون مستخدم من مستخدمي فيسبوك لا يتكلمون باللغة الإنكليزية، لذا تحتم على فيسبوك إضافة لغات الترجمة لتمكين المستخدمين من قراءة المنشورات بلغات أخرى. في هذا المجال تعاونت فيسبوك مع مايكروسوفت منذ عام 2011 لإضافة الترجمة. كذلك أضافت شركة فيسبوك نظام Deep Text وهي خوارزميات للتعرف على اللغات العامية وترجمتها ضمن السياق الصحيح.
9. خرائط فيسبوك
أنشأ فيسبوك نظام خرائط خاص به معتمد على صور الأقمار الاصطناعية وتحليلها في أنظمة ذكاء اصطناعي، ويتم مقارنتها مع مسارات المستخدمين، ساهمت الخرائط في تحديد طرق ومواقع كثيرة بشكل أكثر دقة من جوجل.
10. تطوير انظمة الفحص الطبي
في عام 2018 طوّرت شركة فيسبوك نظام fastMRI بالتعاون مع جامعة نيويورك، وهو نظام تصوير بالرنين المغناطيسي سريع، ويهدف هذا المشروع البحثي المشترك إلى زيادة سرعة هذه الأداة التشخيصية التي يمكن أن تنقذ الحياة باستخدام التعلم العميق لإنشاء صور من بيانات ماسحة ضوئية أقل.
11. استخدام الذكاء الاصطناعي لمكافحة الانتحار
يعمل Facebook AR على تحليل سلوك المستخدمين والتنبؤ بحالات الانتحار قبل وقوعها، فهي تراقب وتحلل منشورات المستخدمين وتتابع تعليقاتهم للتنبؤ عن نية شخص ما للانتحار، فهي تركز على المنشورات التي تحتوي على حزن وتراقب رد فعل المعلقين.
هذا بالإضافة إلى تطبيقات كثيرة لا يتسع المجال لحصرها منها قراءة مضمون الصور ومحاربة التحيز، وأنظمة خداع آليات التعرف على الوجه.
أين تريد فيسبوك الوصول
تجري شركة فيسبوك في سباق محموم مع عمالقة التكنولوجيا الآخرين مثل جوجل و آي بي إم للسيطرة على السوق الحالي، فشركة فيسبوك تضم تحت ذراعها أكثر من 160 شركة تقنية، بين شركات كبيرة وأخرى ناشئة.
وبلغت نفقات الشركة على الاستحواذ حتى الآن 168 مليار دولار، وتهدف الشركة إلى ربط كل شخص على هذا الكوكب من خلال التكنولوجيا المملوكة للفيسبوك في غضون 100 عام القادمة.