تواصل كرة الثلج تدحرجها في المشهد الإيراني متجاوزة السقف المتوقع قبل ثلاثة أيام حين اندلعت الشرارة الأولى للتظاهرات التي عمت البلاد تنديدًا برفع أسعار الوقود (زيادة أسعار البنزين بنسبة 50% حتى حصة 60 لترا في الشهر، وبنسبة 300% لمن يتجاوز هذه الحصة الشهرية التي تدعمها الدولة)، والتي أسفرت حتى كتابة هذه السطور عن سقوط 7 قتلى في الجنوب من بينهم 3 أفراد من قوات التبعئة العامة “الباسيج” وإصابة المئات فيما تجاوز عدد المعتقلين 180 شخصًا، هذا في الوقت الذي تذهب فيه تقارير أخرى إلى أن إجمالي عدد القتلى يتجاوز الأربعين.
ومع فشل جهود الاحتواء المبذولة من قبل السلطات الإيرانية صعد المرشد العام على لسان ممثله في ولاية فارس (جنوب غرب البلاد) آية الله لطف الله، من الخطاب الموجه للمحتجين حين ألمح إلى تدخل الحرس الثوري، لقمع الاحتجاجات في مدينة «شيراز»، إذا لم تتوقف بحلول نهاية اليوم الثلاثاء.
وأضاف لطف الله “إذا لم يوقف مجلس أمن الولاية الاحتجاجات بحلول الغد، فسننزل قوات الباسيج إلى الشوارع”، فيما نقلت وكالة مهر عن الحرس الثوري في وقت سابق قوله إنه يعتبر أن من “مسؤوليته الشرعية والقانونية الحفاظ على أمن البلاد وهدوئها واستقرارها، بالتعاون مع سائر القوات المسلحة والأمنية والشرطية”.
وردًا على تصاعد الحراك أشار المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، أن “البعض استغل القرار للقيام بأعمال شغب غير مألوفة، مثل حرق البنوك والهجوم على المراكز العسكرية والأمنية والبنى التحتية والممتلكات العامة”، موضحًا أنه “تم استخدام الأسلحة النارية والبيضاء ومهاجمة القوات الأمنية والشرطية وعمليات أخذ الرهان وقتلهم”، من دون الكشف عن عدد القتلى، متهما “المخربين بالسعي إلى خلق أجواء لا تسمع فيها أصوات المحتجين”.
حالة من القلق تخيم على المشهد الاحتجاجي الإيراني، ورغم أنها ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها الشارع رفضًا للسلطات وسياستها إلا أن تزامن هذا الحراك مع ما يحدث في العراق ولبنان يشى أن الأمر ربما يكون مختلفا، ورغم تقليل البعض من احتمالية إسفاره عن أي جديد إلا ان الكرة الملقاة في بركة السياسة الإيرانية الراكدة لن تنحصر موجاتها في القريب العاجل كما تتوقع السلطات الحاكمة.
خطوة لابد منها
من جانبها أكدت الحكومة الإيرانية أن قرار رفع أسعار البنزين كان ضروريًا في ظل العقوبات والضغوط غير المسبوقة على البلاد، لافتة على لسان المتحدث باسمها أنها حصلت على موافقة السلطتين التشريعية والقضائية والمرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، قبل اتخاذ القرار.
وفي محاولة لامتصاص غضب الشارع، تعهد الرئيس الإيراني حسن روحاني بتقديم مساعدات للفئات الاجتماعية المحرومة في محاولة لتقليل الآثار الناجمة عن ارتفاع أسعار البنزين، مؤكدًا على حق الشعب في الاحتجاج غير أنه في الوقت ذاته أشار إلى أن “إثارة الشغب ليست احتجاجا”، موضحا أنه “كان أمامنا ثلاثة خيارات لمواجهة الوضع الاقتصادي الصعب، هي: زيادة الضرائب، أو صادرات النفط، أو رفع أسعار البنزين، واخترنا الخيار الثالث”.
وكشف روحاني أن المساعدات المالية النقدية ستدفع لـ18 مليون أسرة إيرانية، تشمل 60 مليون شخصًا، قائلًا إن عمليات الدفع ستبدأ اعتبارًا من مساء أمس الإثنين لـ20 مليون شخص، على أن يبدأ الدفع لـ20 مليون آخرين مع نهاية الأسبوع، ليدفع للـ20 مليون الآخرين مع بداية الأسبوع المقبل.
وتأتي مساعي الرئيس لإزالة تخوفات الشارع من أمرين، الأول التأكيد أن الحكومة ستدفع كل عوائد ارتفاع أسعار البنزين للمواطنين الإيرانيين، معلنًا أن ذلك “لن يكون أمراً مؤقتًا لأشهر محدودة”، مؤكدًا أن حكومته ستواصل ذلك حتى نهاية عمرها بعد عامين، والأمر الثاني هو عدم السماح بارتفاع أسعار السلع الأخرى نتيجة زيادة أسعار البنزين، وهو ما يقلق الإيرانيين، على خلفية تجارب سابقة.
وتناقضًا مع جهود التهدئة التي قادها روحاني جاء في بيان الحرس الثوري أنه سيتصدى “عند الضرورة بكل حزم وثورية لأي إخلال بالأمن وراحة وهدوء المواطنين”، مشيرًا إلى أن “الأحداث الأخيرة تزامنت مع هزائم العدو التاريخية والمذلة في مجال العقوبات والحرب الاقتصادية على إيران”.
الحرس اتهم ما أسماهم “العناصر المندسة والمعادية للثورة الإسلامية” بأنها “ركبت موجة الاحتجاجات الشعبية عبر دعم المسؤولين الأميركيين الخبثاء” محذرًا من التدخل بقوة لفض تلك التحركات إن لم يتم تفكيكها بنهاية اليوم، وهي التهديدات التي رفضها الشارع الغاضب جملة وتفصيلًا.
وفي الوقت ذاته لا يزال الإنترنت الدولي مقطوعًا في إيران بقرار من السلطات الأمنية، ولا يمكن لمستخدمي الإنترنت الوصول إلى شبكات التواصل والمواقع والوكالات الأجنبية، فيما “الإنترنت الوطني” الذي عملت الدولة على تأسيسه منذ سنوات في المتناول، ومن خلاله يمكن الوصول إلى المواقع الداخلية فقط.
مسؤول في وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات نفى أن يكون هناك دخل للوزارة بقطع الإنترنت الدولي، مضيفاً أن القرار اتخذه “مجلس أمن الدولة” (شاك) وأبلغ شركات الإنترنت بذلك، وتابع أنه “ليس واضحاً بعد موعد انتهاء القيود المفروضة على الإنترنت”.
https://twitter.com/Sepid_oo/status/1196647277563129856
اتهام لأمريكا
منذ الوهلة الأولى لاندلاع الحراك الجمعة الماضية ألقت طهران الكرة في ملعب المؤامرة الخارجية، متهمة أجهزة استخبارات بعض الدول الأجنبية بالوقوف وراء الاحتجاجات بدعوى إثارة الفوضى، وهو ما جاء على لسان رئيس مجلس الشورى الإسلامي الإيراني (البرلمان) علي لاريجاني، في تصريحات خلال جلسة للبرلمان، أمس الإثنين.
لاريجاني اتهم الولايات المتحدة الأميركية بالسعي لزعزعة أمن إيران، مضيفاً أن “النواب بتكاتف أكثر لن يفسحوا المجال لأميركا وعملائها المناهضين للثورة بإثارة الفوضى وضرب الاستقرار”، لافتا إلى التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حول الاحتجاجات في بلاده، متهماً إياه بـ”الانتهازية الحمقاء ودعم إحراق ممتلكات الناس بشكل سافر”.
رئيس البرلمان أوضح أن هدف واشنطن الأساسي من وراء موقفها الأخير “ليس إلا ضرب أمن إيران ومصالح الشعب”، مضيفاً أن نواب البرلمان سيتبعون المسار الذي رسمته تصريحات المرشد الإيراني علي خامنئي، و”يتابعون بجدية حل المشاكل الاقتصادية”.
وكانت الولايات المتحدة قد نددت، أول أمس الأحد، باستخدام “القوة الفتاكة” و”القيود الصارمة على الاتصالات” ضد المتظاهرين في إيران، وفقا لبيان أصدرته ستيفاني غريشام، مسؤولة الإعلام في البيت الأبيض، وهو ما رفضته طهران معتبرة تلك التصريحات “انتهازية ومنافقة وتدخل في شأن إيراني داخلي”.
https://twitter.com/farnazfassihi/status/1196640115176722432
سيناريوهان للحراك
“لا يمكن فصل ما تشهده إيران من موجات احتجاجية هذه الأيام على خلفية قرار رفع أسعار الوقود ثلاثة أضعاف عما شهدته نهاية ديسمبر من عام 2017 من احتجاجات اجتاحت أغلب المحافظات والمدن الإيرانية” هكذا علق الكاتب الصحفي المتخصص في الشأن الإيراني، أسامة الهتيمي، على تطورات الحراك الإيراني.
الهتيمي في حديثه لـ “نون بوست” أشار إلى أن احتجاجات 2017 كانت أيضًا على خلفية تردي المستوى المعيشي وتفشي ظاهرة الفساد رغم أن إيران وقتها كانت تعيش بعيدًا عن قيود العقوبات الاقتصادية، التي رفعت بمقتضى الاتفاق النووي الموقع في يوليو 2015 وسرى تطبيقه بدءًا من يناير 2016 وقبل أن يتم استئنافها مجددًا في أغسطس من عام 2018.
لافتًا إلى أنه على الرغم من أن إيران نجحت بعد أسابيع من احتجاجات 2017 في أن تصور للمتابعين بأنها تمكنت من إجهاض هذا الحراك الشعبي إلا أن الحقائق كانت تؤكد أن هذا لم يكن إلا إدعاء، موضحًا أن الحالة الثورية في إيران لا تختلف كثيرًا عن غيرها من الحالات الثورية في العديد من البلدان.
الباحث في الشأن الإيراني توقع استمرار هذا الحراك الثوري مرجعًا ذلك لعدد من الاعتبارات، أولها إصرار الجماهير الإيرانية على مواصلة احتجاجاتها حتى تحقيق الأهداف، وعدم الانسحاق أمام آلة القمع النظامية التي يتعاطى بها النظام مع هذا الحراك، وثانيها قدرة القائمين على هذا الحراك على الصمود أمام كل محاولات النظام السياسي الإيراني لتفريغ هذا الحراك أو تسطيحه أو تشويهه واتهامه بالعمالة والخيانة.
أما الاعتبار الثالث فيتعلق بكيفية تعاطي المجتمع الدولي مع هذا الحراك والتعاطي معه بحساسية مفرطة إذ أن أي تدخل غير مدروس يمكن أن يمثل سقطة كبيرة لهذا الحراك أمام القدرة الهائلة للنظام الإيراني على توظيف عبارات وشعارات الوطنية والسيادة والاستقلال.
وعليه يرى أن المشهد الإيراني الحالي برمته أمام سيناريوهين لا ثالث لهما، الأول يتعلق باستمرار الاحتجاج نتيجة إصرار النظام على تطبيق الزيادة في الوقود والتي حتمًا ستنعكس سلبًا على أسعار بقية السلع والخدمات وهو ما يعني المزيد من المعتقلين فضلًا عن سقوط المزيد من القتلى والمصابين؛ لأنه ليس من المتوقع أن يتخلى النظام الإيراني على استخدام القمع والبطش في مواجهة هذه الاحتجاجات.
أما السيناريو الثاني هو نجاح النظام في ترهيب المحتجين وتفريغ الحراك من مضمونه عبر وسائل متعددة منها ما هو أمني ومنها ما هو مخابراتي لتعود الفعاليات الاحتجاجية إلى ما كانت عليه قبل التصعيد الأخير، منوها أنه من الصعب جدًا على النظام الإيراني التراجع عن قرار رفع أسعار الوقود، فالقرار لم يعد خيارا إراديًا لدى النظام، بل اضطر إليه اضطرارًا نتيجة ما يعانيه الاقتصاد الإيراني من أوضاع سيئة بعد تشديد إجراءات العقوبات وانخفاض تصدير النفط الإيراني.