منذ اشتعلت احتجاجات الربيع العربي، وحتى ظهور داعش وتمددها، بدا هذا المشرق عصيّاً على التنبؤ والاستشراف. وبالتزامن مع طغيان الظاهرة التلفزيونية، المتوائمة مع نمط الوجبات السريعة في التحضير والتقديم، تتعملق الظواهر، وتتغير الخرائط، وتنفجر المكبوتات، من دون أن تحظى بما يلزم من دراسةٍ متأنيةٍ، وفهمٍ لدواعي النشوء وسواقي التغذية والنمو. وبسبب ذلك، وخارج فضاء التجاذب الفكري والسياسي، لم يحظ التنظيم الذي طغى على المشهد السياسي في سورية والعراق، تحت اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بدراسةٍ بحثيةٍ موسعةٍ، تسعى إلى تفسير وتحليل أسباب نشوء وتشكّل هذا التنظيم، الذي غدا الأكثر غموضاً وتطرفاً وتمدداً وتقويضاً لجغرافيا الدولة الوطنية الحديثة.
ربما، ليس أيٌّ من التفسيرين، الاجتماعي السياسي والعقائدي اللاهوتي قادراً، بمفرده، على الإجابة عن تساؤلاتٍ مركّبة ترافق حضور هذا التنظيم و”تمدده”، وتزايد أعداد المنتمين إليه، وقوته المالية والإعلامية، بشكلٍ فاق توقعات أكثر المحللين مجازفة في استشراف ما يحدث في سورية والعراق.
في السادس من أغسطس/آب الجاري، كتب الدكتور عزمي بشارة مقالاً مهماً في صحيفة “العربي الجديد” بعنوان “من يقف خلف داعش؟ سؤال عقيم“، شرح فيه كيف بدا التراشق السياسي هو الطاغي في ثنايا البحث عن “الطرف” الذي يقف خلف تأسيس تنظيم داعش، باعتبار أن وجود طرف سياسي، دول على وجه الخصوص، أنشأ هذا التنظيم، للاستفادة منه في إفشال مشروع الخصوم، بات أمراً مُسلّماً به، وخارج دائرة التفكير والاختبار. فيما هو لا يعدو أن يكون تكراراً لما جرى كثيراً في التاريخ السياسي الحديث، من ناحية استثمار كل طرف ما هو متاح لتبشيع الخصم السياسي وشيطنته، واعتباره مصدراً لكل الشرور والموبقات.
وإذا كان الصراع السياسي المحتدم أنتج تراشقاً في الاتهام بالمسؤولية عن تأسيس هذا التنظيم، بهدف الإدانة، واستثمار المناخ الدولي القلق من تنامي ظاهرة الإرهاب، فإن لنشوء “تنظيم الدولة الإسلامية”، من دون شك، ظروفاً موضوعية، هي التي أدت إلى تشكّل هذا التنظيم ونموه وتمدده، وهي المساحة التي لم تحظ بعد بما تستحقه من تقصٍ وتحليل. وقد ألمح الدكتور بشارة إلى بعض هذه الأسباب في مقاله القصير. وإذا كان النزوع المؤآمراتي والخصومة السياسية هما اللذان أنتجا سؤال: من يقف خلف داعش؟ فإن الهمّ المعرفي والبحث عن مصلحة الجماعة العربية ومستقبلها هما اللذان يضعاننا، اليوم، أمام سؤال: كيف تشكّلت داعش؟
ولا يمكن استسهال الإجابة عن هذا السؤال، بمجرد اعتبار داعش تطوراً منطقياً للسلفية الجهادية، ولا بكونها امتداداً طبيعياً للمدرسة الوهابية النجدية، ولا باعتبارها نتيجة متوقعة لتنامي الاستبداد والتهميش والحروب والبطالة التي سادت دوائر واسعة من المجتمعات العربية.
من المؤكد أن لنشوء داعش علاقة بذلك كله. لكن، لا يمكن لأيٍ من هذه القوالب التفسيرية أن تقدم إجابات متماسكة لأسئلةٍ كثيرة ممتدة بحجم الجغرافيا التي بات يهيمن عليها هذا التنظيم.
محاولة توصيف..
سأحاول، فيما يلي، أن أسجل ملامح في الخطاب السياسي والسلوك الميداني لتنظيم “الدولة الإسلامية” اللذين يجعلانه، في تقديري، متمايزاً عن التنظيمات الجهادية التقليدية، وخارج قوالب التفسير المألوف لنشوء هذه التنظيمات:
1- فمن ناحية، نحن أمام “تنظيم عقائدي وسياسي”، يمثل أقصى حالات التوحش والساديّة والغلو الديني والعنف العسكري، إلى درجة بدا معها تنظيم القاعدة، الذي تسيد زمناً المربع الأخير في اليمين الديني والسياسي، معتدلاً وقابلاً للحوار، بل وصلت المفارقة إلى درجة أن غدا خطاب القيادات الشرعية التاريخية لتنظيم القاعدة لا يفتأ يُحذّر من الغلو والتكفير وفكر الخوارج الذي يرونه تجلى بأبشع صوره في سلوك تنظيم داعش.
2-ومن ناحية أخرى، ومع كل هذه الصلابة العقائدية، نحن أمام تنظيم يمثل حالة متقدمة من البراغماتية والانتهازية السياسية، في سلوكه على الأرض، وفي اختياره معاركه، وفي تقديره الأوزان العسكرية للدول والقوى المحيطة به، والتعامل معها وفق ذلك. ولهذا السلوك البراغماتي شواهد كثيرة. منها ما فعله تنظيم الدولة الإسلامية، حين بقي، أكثر من عام، يخوض معارك شرسة ضد الفصائل الثورية في سورية، وكثيرٌ منها منتمٍ بشكل ما، يزيد أو ينقص، للسلفية الجهادية، في حين أن جبهاته الواسعة مع النظام، الذي يعتبره نُصيرياً كافراً، هادئة، ومعاركه معه لا تكاد تُذكر.
ولو نظرنا إلى خريطة المساحات التي يهيمن عليها تنظيم داعش في سورية، لوجدنا أن جميعها مساحات مُنتزعة من الفصائل الثورية، لا من النظام السوري. وفي المقابل، نجد أن النظام السوري تجنب، عمداً، خلال هذا العام، الدخول في أي مواجهات تُذكر، أو قصف المواقع والمدن التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (يمكن المقارنة مثلاً بين قصفه حلب والرقة)، بل كان النظام يتعمّد، كما في شواهد كثيرة، مقاتلة وقصف أي فصائل ثورية تدخل في مواجهات ومعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية، وكأنه يخوض معه المعركة نفسها. أيضاً، رأينا مقدار تشدد تنظيم الدولة الإسلامية في هدم كل المراقد والمزارات والأضرحة، حتى تلك التي تُنسب إلى الأنبياء والصحابة، باعتبارها مظاهر شركيّة. لكن، حين تعلق الأمر بضريح جد العثمانيين “سليمان باشا” الموجود داخل سورية، وفي المناطق الخاضعة لتنظيم الدولة الإسلامية، فلم يكتفِ التنظيم بالامتناع عن هدمه، بل سهّل دخول القوات التركية للضريح وحماها. وحتى الآن، تقوم قوات داعش بحمايته، ولم تتعرض له بالهدم.
أيضاً، فيما يخص علاقة تنظيم الدولة الإسلامية بالفصائل المسلحة في سورية، ففي وقت تخوض فيه داعش معارك شرسة، لا تخلو من نزعات انتقامية، وإعدامات ميدانية، وقطع رؤوس أسرى، وخطاب تكفيري حاد مع فصائل محسوبة على السلفية الجهادية، مثل جبهة النصرة وأحرار الشام وسواهما، فإن التنظيم، في المقابل، قَبِل بمبايعة فصائل مسلحة وولائها، هم أقرب لقطاع طرق وجباة أموال ومليشيات ارتزاق، وكثيرٌ من هذه الفصائل بايعت تنظيم الدولة الإسلامية، لدوافع مادية، أو للاحتماء بها، من العقاب الذي فرضته عليها الهيئات الشرعية (كما تكرر ذلك مراراً في ريفي حلب ودير الزور وسواهما). ومن الشواهد أيضاً، يمكن أن نذكر قدرة تنظيم الدولة الإسلامية على معرفة المناطق التي تُمثل خطوطاً حمراء لدول مؤثرة وعدم اقتحامها (كما في أربيل التي تُمثل خطاً أحمر أميركياً، وبغداد ومناطق الكثافة الشيعية في العراق التي تُمثل خطاً أحمر إيرانياً)، فضلاً عن عدم فتح هذا التنظيم جبهات مع قوات النظام السوري، سوى باستثناءات محدودة، على الرغم من الحدود الواسعة بينهما. لذلك، تجد أن كل المدن التي تخضع، الآن، لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، هي مدن مُنتزعة من الفصائل الثورية، ولم تنتزع داعش أي مدينة من النظام السوري، لأنها، في الأصل، لا تخوض معارك معه. وثمة شواهد أخرى عديدة على هذا السلوك المفرط في البراغماتية لتنظيم الدولة الإسلامية.
3-لا يمكن اعتبار تنظيم الدولة الإسلامية مجرد تطور طبيعي للسلفية الجهادية، أو للمدرسة الوهابية، ففي وقت تتباين فيه المرجعيات المدرسية للسلفيات الجهادية في العالم العربي (مثلاً جماعة الجهاد في مصر اتكأت في تأصيلها مواقفها على نصوص ابن تيمية وفتاويه، مع استلهامٍ لأفكار المفاصلة لدى سيد قطب.
في المقابل، كانت التنظيمات الجهادية في الجزائر والمغرب تعتمد على تراث المذهب المالكي، في تأصيل التكفير والقتال، خصوصاً التراث الذي تكوّن، في المرحلة التي هيمنت بها الدولة الفاطمية على المغرب العربي الذي ينتمي معظم سكانه للمذهب المالكي، فتراكم تراثٌ لفقهاء مالكية يكفّر السلطة الفاطمية، ويدعو إلى الخروج عليها. فيما كانت التنظيمات الجهادية في الشام والعراق والخليج أقرب لاستلهام نصوص المدرسة النجدية الوهابية في التكفير والقتال). لكن تنظيم الدولة الإسلامية يبدو خارج هذه الدوائر جميعها، فهو تنظيم، على الرغم من امتداده وكثرة المنتمين إليه، لم يُصدر تنظيراً شرعياً تأسيسياً موسعاً لمواقفه العقدية والسياسية، يمكن الاعتماد عليه ودراسته، وما أصدره لا يعدو أن يكون تأصيلاً لاحقاً ذا طابعٍ تبريريٍ جدلي، كما لا تنتسب لهذا التنظيم أيٌّ من الشخصيات الشرعية المعروفة، والمؤثرة في الوسط الجهادي، ويخلو من أي شخصية شرعية لها وزن. بل إن جميع الشخصيات الشرعية التاريخية المرموقة في الوسط الجهادي، أو المؤثرة عليه (من أمثال أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وأبو بصير الطرطوسي، وسليمان العلوان، وهاني السباعي، فضلاً عن زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري) أصدرت بياناتٍ متعددة، تُحذر من غلو تنظيم الدولة الإسلامية، وتساهله في التكفير وسفك الدماء، وعدم شرعيّة إعلانه الدولة ثم الخلافة.
4-وفي مقابل خلو تنظيم الدولة الإسلامية من شخصيات شرعية معتبرة، تتصدر السلّم القيادي لهذا التنظيم شخصيات عسكرية، معظمهم كانوا ضباطاً في الجيش العراقي البعثي زمن صدام حسين، (مثل حجي بكر، وأبو مسلم التركماني، وأبو عبد الرحمن البيلاوي، وأبو أحمد العلواني، وأبو مهند السويداوي، ومحمد الندى الجبوري، وسواهم). فوجود مثل هذه الأسماء على رأس تنظيم الدولة الإسلامية، من دون أن يكون لها أي سابقة، أو تاريخ في العمل الجهادي، ومن دون أي مخزون شرعي أو “ثقافة جهادية”، أو تطور منطقي في تراتبية التنظيم والولاء، تبرر قيادتهم تنظيماً، يقع في أقصى يمين السلفية الجهادية، هو أمرٌ يثير أسئلة مشروعة عن الدوافع المحركة لهذه القيادات، وطبيعة هذا التنظيم وظروف تكوّنه، وعن مدى وجود “بنية نظرية صلبة” لدى هذه القيادات تُمثل محركاً رئيسياً للقيام بهذا “المشروع الجهادي”.
يمكن اعتبار ما سبق بعضاً من مناطق التمايز والاختلاف بين تنظيم الدولة الإسلامية وما ألفه الدارسون، على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، من تنظيماتٍ تنتمي للسلفية الجهادية. لذلك، حين نبحث في أسباب نشوء هذا التنظيم، ونقيّم خطابه الشرعي وسلوكه السياسي والعسكري، يجب أن نأخذ هذه التباينات بعين الاعتبار.
ويبقى السؤال: كيف استطاع تنظيم الدولة الإسلامية امتلاك كل هذه القوة العسكرية، والامتداد الجغرافي، وتوفير هذا الكم من التمويل والتسليح، والقدرة العالية على التعبئة والحشد في مواقع التواصل الاجتماعي ومقاطع اليوتيوب والأفلام التوثيقية؟ وقبل ذلك كله، كيف استطاع كسب آلاف الأنصار والمقاتلين، مع وجود هذا الكم من التوحش والشغف بالقتل، وعلى الرغم من انتقاد واتهام جميع الشخصيات الشرعية المعتبرة للحالة الجهادية لهذا التنظيم؟ خصوصاً إذا ما قورن ذلك كله بالإمكانات المتواضعة للتنظيمات الجهادية الأخرى في الساحة السورية والعراقية.
استطاع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”، أن يمتلك قوة عسكرية، ويحقق امتداداً جغرافياً، ويوفر كماً لا يستهان به من التمويل والتسليح، إلى جانب كسب آلاف الأنصار والمقاتلين، ونجده اليوم حاضراً في نقاشاتٍ ومحاولات فهم متعددة، لذلك، وفي هذا الجزء من الورقة، وهو الثاني والأخير، سأحاول الإشارة، بشكل مختصر، إلى مسائل أحسب أنها ساهمت في ظهور هذا التنظيم بالشكل الذي نراه اليوم:
1- لتنظيم الدولة الإسلامية تاريخ معتبر في العراق، مَنَحهُ شرعية فكرية وميدانية، لا ينافسه عليها أي تنظيم جهادي في منطقة أخرى في العالم الإسلامي، خصوصاً أن الوجود الميداني العملي والهيمنة لسنين على مساحات واسعة من الأرض يضفي على التنظيم مشروعية واقعية، كثيراً ما تتجاوز في تأثيرها المشروعية النظرية والتراتبية التنظيمية في سُلّم الحركة الأم “قاعدة الجهاد”. لذلك، حين انتقد زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، دخول الدولة الإسلامية سورية، ودعاها إلى العودة إلى العراق، كان رد قيادات شرعية وإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية يرتكز على استعراض النجاحات والصعوبات والمواجهات التي عانى منها تنظيم الدولة، طوال ما يقارب العقد من وجوده في العراق، والدور المحدود، أو المعدوم، لأيمن الظواهري في هذا التأسيس. لذلك، اعتبروا أنه لا يملك الحق في فرض رأيه على تنظيمٍ لم يُسهم في صُنع نجاحاته، ولم يتحمل شيئاً من عبء تأسيسه ومواجهاته.
2- وامتداداً للفقرة السابقة، استطاع تنظيم الدولة الإسلامية أن يصنع، وعلى مدى سنين، حضوره وجمهوره وجاذبيته ومشروعيته الجهادية، لا على الشهادات والتزكيات المقدمة من القيادات التاريخية للسلفية الجهادية، ولا على “صحة الموقف الشرعي”، بل على “وهج الإنجاز”، وعلى اقتراب تحقيق الحُلم الجامح في المخيلة النضالية لشباب الجهاد بتأسيس “دولة الإسلام”. (مثلاً تنظيم القاعدة استطاع في الشهور التي تلت حصول “منجز” 11 سبتمبر أن يكسب كوادر ومنتمين له، أضعاف الذين استطاع اكتسابهم في عدة سنين، سبقت “11 سبتمبر” عبر الإقناع السياسي والشرعي، كل ذلك بسبب “وهج الإنجاز”). لذلك، لن تجد أن المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية معنيون كثيراً بالتنظير الشرعي لمواقفهم وأفعالهم، أو مهمومون بالجدل حول مسائل العذر بالجهل وإقامة الحُجّة ونواقض الإسلام وأحكام الردة، بقدر ما هم مهمومون بمطاردة خيال “إمبراطورية الخلافة” التي يُريدون أن ينفخوا في جسدها الروح من تحت ركام التاريخ، ويسعوا إلى إعادة رفع لوائها من جديد، ولو كان على جبلٍ من جماجم “إخوة المنهج”.
وهذا ما يُفسر وجود أعداد كبيرة من المهاجرين غير العرب “شيشان وأوروبيين وسواهم” في صفوف تنظيم الدولة، وهم لا يتكلمون العربية، مما يشير إلى أن دوافع وجودهم مرتبطة “بالإيمان والوجدان” أكثر ارتباطها بالقناعة الشرعية.
3- الحروب بطبيعتها تمثل قمة الانفعال الوجداني والاستعداد النفسي لتبني أكثر الأفكار راديكالية وتشدداً. لذا، نجد أن بلداً، مثل سورية، كان خالياً من الوجود المنظم للإسلام السياسي طوال عقود، وفي الوقت نفسه، كان الخطاب العلماني هو الحاضر الوحيد في عمل المؤسسات ووسائل الإعلام الرسمية، إضافة إلى وجود تنظيماتٍ يساريةٍ وقوميةٍ، لها تاريخ طويل في الساحة السورية. ومع ذلك، حين بدأت الثورة، وبعد عامٍ من تحول الاحتجاج السلمي إلى عمل مسلح، ساد الفكر السلفي معظم الفصائل المقاتلة في سورية، وبدا سلوك “المزايدة في التشدد” ينمو كممارسة اعتيادية عند المنتمين لهذه الفصائل (بعض قادة أكبر الفصائل الثورية كانوا يُعلنون في بداية العمل المسلح أن مقصد ثورتهم وقتالهم هو التخلص من النظام الاستبدادي وبناء دولة ديمقراطية. لكن، بعد شهور، وبسبب تنامي الحالة السلفية، صار التصريح بذلك متعذراً، ويجرُّ على قائله مسرداً طويلاً من الاتهام والتكفير والطعن، وبات الهدف المُعلن للعمل المسلح عند معظم الفصائل هو “تطبيق الشريعة” و”بناء دولة إسلامية”، وغدت الديمقراطية نظاماً كفرياً، لا يتناسب مع بلدٍ مسلم. ومن زار المناطق المحررة واستمع لخطاب بعض الكوادر المقاتلة، يلمس بوضوح حجم الضغط المعنوي الذي يمثله الخطاب السلفي، حتى أنك قد تجد مقاتلين غير ملتزمين بأداء الصلاة، ومع ذلك هو يُصرّ على إعلان سلفيته!). فكان الفكر السلفي، بجرعاته المفرطة في اليقينية وخطابه الجهادي التضحوي، البيئة الملائمة للعمل المسلح ضد نظامٍ طائفيٍ، لم يتوانَ عن حشد كل أنصار الطائفة في مقاتلة خصومه “التكفيريين”.
4- وفي مقابل هذا السياق، وفي أثناء التصاعد المستمر لمؤشر البوصلة الفكرية في المناطق المحررة، باتجاه مزيدٍ من التشدد، كان الجناح السوري في تنظيم القاعدة “جبهة النصرة” يأخذ اتجاهاً معاكساً، ويتقدم بخطواتٍ نحو الاعتدال، حيث قرر التحالف مع الفصائل الثورية الأخرى، والاهتمام بالحاضنة الشعبية، وتأجيل “تطبيق الشريعة والحدود”، وإعلان أن هدف قتالهم هو “نصرة الشعب السوري المستضعف” لا “تأسيس دولة”. ذلك كله تم وسط حربٍ شرسةٍ، قادها النظام السوري، وقصف مستمر بالبراميل المتفجرة، وحشد ميليشياتٍ طائفيةٍ من دول أخرى، وارتكاب عشرات المجازر، في مناخٍ دموي وفّرَ بيئة ملائمة للمزاودة بالتشدد.. فكان تمدد “الدولة الإسلامية”، عند المهاجرين خصوصاً، على حساب “جبهة النصرة” متوائماً مع المناخ العام الذي يدفع باتجاه مزيدٍ من الغلو لا الاعتدال.
5-لا يمكن تفسير مقدار التوحش والعنف والساديّة والقتل على الهوية والإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث وتعذيب الأسرى والصلب الذي يمارسه تنظيم الدولة الإسلامية، من دون الحديث عن ظروف نشأة هذا التنظيم في العراق، وذلك لأن كل هذا التوحش الذي نراه، اليوم، في الساحة السورية، مجرد نقل جغرافي للأفعال ذاتها التي مارسها التنظيم في العراق، وكذلك لأن شخصيات الصف الأول في قيادة هذا التنظيم، وشخصيات كثيرة من الصف الثاني هم من العراقيين.
ولأن العراق عاش عقوداً صعبة من العنف والاضطهاد والحروب والفقر والقتل على الهوية، لم تبدأ بتعاقب أنظمة ديكتاتورية، مارست أبشع أشكال القمع والتدمير المعنوي للمواطنين وعسكرة المجتمع، مروراً بالحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب الخليج التي أعقبها حصار اقتصادي خانق، فاحتلال أميركي أمعن في القتل والتعذيب، وليس آخرها تسليم البلد لنظام طائفي قمعي، دفع باتجاه قيام حرب طائفية دموية، قتلت عشرات الآلاف وهجّرت الملايين. ذلك كله انعكس، من دون شك، في أعماق تكوين الشخصية العراقية، وحقن التوحش والعنف عند فئاتٍ واسعةٍ من هذا المجتمع، يتجلى، أحياناً، تحت لافتة تنظيم الدولة الإسلامية، وأحياناً أخرى تحت لواء الميليشيات الشيعية التي لا يختلف مقدار توحشها عن ذلك القدر الذي يمارسه مقابلها السني. فالتوحش، هنا، ليس مرتبطاً فقط بنزعات ساديّة فردية، بل بـ “إستراتيجية عليا” شرّعها وانتهجها هذا التنظيم. لذلك، يتم دوماً تصوير عمليات القتل البشعة ونحر الرؤوس ونشرها عبر يوتيوب، بهدف ترويع الآخرين. وقد نجح تنظيم الدولة الإسلامية في ذلك بوضوح، حيث لا تجد تفسيراً منطقياً لهروب بعض الفصائل من مواجهتهم، وبيعة فصائل أخرى هم أبعد ما يكونون عن أيديولوجيا تنظيم الدولة، وكذلك هروب قوات النظام العراقي، كما في الموصل، وقوات البيشمركة، كما في سنجار وبادوش، إلا أنهم بالفعل “نُصروا بالرعب”.
في مقاله المشار إليه في سابقا، يقول عزمي بشارة، في سياق حديثه عن الكيفية التي يتكوّن بها الإنسان في بيئةٍ عاشت ظروفاً صعبة ومتلاحقة، كما في العراق: (يمكننا، مثلاً، أن نتخيّل إنساناً مر بأهوال سجون حكم البعث العراقي أو السوري، ثمّ عاش في ظل الاحتلال الأميركي الهمجي، وحاربه، ثم ذاق مرارة السجن في ظل نظامٍ طائفيٍّ سياسيٍّ بغيض، مثل نظام المالكي، بحيث أتت كل واحدة من هذه التجارب على مساحة خضراء في نفسه، وطمست لوناً من صورة الإنسان فيه). وكتب وائل عصام، في 7 يوليو/تموز الماضي، مقالاً نشره في صحيفة القدس العربي بعنوان “فصل المقال ما بين داعش والبعث من علاقة واتصال”، قال فيه في أثناء حديثه عن شخصية قيادية في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، يُدعى أبو عمر الكردي: (يقول لي أحد مرافقي من كان يُعرف بجزار القاعدة، أبو عمر الكردي، وهو من الذين أعدمتهم الحكومة العراقية، بعد أن نفذ أكثر من مئتي عملية تفخيخ، إحداها كانت عملية اغتيال الحكيم. يقول صديقه الذي كان يرافقه إن الكردي كان يصف نفسه “بالوحش”، ويقول: “تحولت لوحش. هل تعرف كيف يُمكن أن يُصبح الإنسان بعد اعتقاله في زنزانةٍ منفردة خمس سنوات؟!”، كان الكردي معتقلاً في جهاز الأمن في النظام العراقي من عام 1991 حتى 1995 بعد عودته من أفغانستان، وكان ينظر للبعثيين على أنهم من حولوه وحشاً). والأمر نفسه ينطبق على كثيرين من المهاجرين العرب وغير العرب، ومعظمهم مطلوبون في بلدانهم، وممن تعرضوا للاعتقال والتعذيب، أو ممن ينتمون إلى أسرٍ، عانى بعض أفرادها من التضييق الأمني والاعتقال والإذلال، فلم يعد لديهم ما يخسرونه، فكانت “الهجرة إلى الشام” ملاذاً لهم من جحيم أوطانهم، وأرضاً للجهاد والاستشهاد وتحقيق حلم الدولة، وميداناً للكرامة والثأر. فالقهر يقتل الجينات الإنسانية في داخل المقهور، فتُصبح كل أفعاله، مهما توحشت، مُبررة ومشروعة و”أخلاقية”، في سبيل تحقيق الأمنيات، والثأر من الخصوم والتاريخ والمجتمع.
وبالطبع، إن تشوه فطرة الإنسان وتوحشه ليس دوماً يرتبط بظلمٍ وقهر مرّ به، بل قد يكون ذلك بسبب نزوع شخصي، واستعداد نفسي للعنف، فالناس يتفاوتون في جرأتهم وشجاعتهم واستعدادهم للمغامرة والإقدام وقابليتهم للجريمة والعنف. لذلك، نجد أن أكثر من يمارس العنف والقمع والتعذيب، بطريقة ساديّة بشعة، هم عناصر الأمن والمخابرات في المعتقلات العربية، ومعظمهم لم يمر بتجارب اضطهاد، بل كان دوماً في مقام الظالم. 6-ولكون معظم الطبقة القيادية في تنظيم الدولة الإسلامية تتكون من شخصيات عسكريةٍ، لها خبرات قتالية طويلة، وليس لها سابقة في العمل الحركي والتربوي الإسلامي، انعكس ذلك، بوضوح، على التفوق العسكري والقدرة على التخطيط والمناورة والتكتيك، وفق ما يفرضه الميدان، وتتطلبه المعركة، وبكامل التحرر من القيود الأخلاقية والشرعية. وانعكس، أيضاً، على مقدار الاحتراف في تكوين إعلام حربي، ومكنة دعائية متفوقة، وإدراك الأهمية القصوى التي تمثلها مصادر التمويل “آبار نفط، بنوك، مخازن سلاح …إلخ”، وذلك كله تم بدرجة عالية من البراغماتية المرتبطة بـ “القدرة” لا “المشروعية”. أي أننا، هنا، أمام قوة منفصلة عن القيمة، فالقوة وحدها من تصنع معاييرها الخاصة للقيم والأخلاق.
سطور أخيرة
يمكننا، اليوم، أن نعتبر أن “داعش” يعيش مرحلة “الدعوة”، بكل تطرّفها ونضاليتها وعنفوانها، لا مرحلة “الدولة” بواقعيتها وحساباتها. وكأن شريط التاريخ يستعرض أمامنا ما فعله أبو مسلم الخراساني وأبو العباس السفاح، وجحافل الرايات السود وهي ترتكب المجازر في خراسان ودمشق، لتوطيد أركان دولة بني العباس.
فالأفكار و”التصورات الشرعية” ليست هي من يقود قاطرة داعش، لكنها مجرد مظلة لتسويغ الأفعال ومنحها مشروعية. وهذا لا يتنافى مع أن دوافع غالب الشباب المنتمي لهذا التنظيم هو الإيمان والرغبة بنصرة الدين وإقامة دولة الإسلام، والاستعداد للتضحية والاستشهاد في سبيل ذلك. وقد وجدوا في تنظيم الدولة الإسلامية الجماعة الأقدر على تحقيق ذلك.
قصة “داعش” ليست مرتبطةً فقط بهويات مغلقة، ودوغما متعالية، أنتجت هذا التنظيم الذي التَهَم مساحات واسعة من دولتين عربيتين بتسارع مخيف. ولا جماعة تعيش حُلم التاريخ، فجذبت أحداث الأسنان سفهاء الأحلام. بل هي، أيضاً، نتيجة واقعٍ عربي صعب، سُدت به كل نوافذ الأمل، وقُمعت به أشواق الشعوب نحو التحرر والكرامة، وأُهينت الشريعة، باستبعادها أو استخدامها، التي يفديها كثيرٌ من الشباب المؤمن بروحه ودمه وماله، فمثلت داعش لبعضهم ثورة من أجل استعادة “دولة الإسلام” من جديد، دولة اليوتوبيا وحُلم الخلاص، لكنها ثورة استصحبت فصولاً من فقهٍ سياسيٍ، نتج في زمن الاستبداد والمُلك العضوض، تُشرَّع فيه الغاية على حساب الوسيلة، وتُرتكب فيه الموبقات، تحت لافتة “المقصد الشرعي”.
نُشر هذا المقال لأول مرة على جزأين في صحيفة العربي الجديد