منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لم ينقطع الحديث حول طبخته الجديدة للقضية الفلسطينية وللسلام في الشرق الأوسط، استبشر الإسرائيليون خيرًا، ومعهم بعض العرب، سُميت الطبخة مجازًا «صفقة القرن»، ولكن يبدو اليوم أنهُ مجاز ناقص ومعيب.
ترامب وإدارته وحدهم من يقلبوا الطبخة و يعدونها، وعلى مذاقات المطبخ الإسرائيلي وشهيته، وفي أحدث أطباقها وليس أخرها على ما يبدو، أعلن وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، أول أمس أن حكومة بلاده، وبعد دراسةٍ لجميع جوانب القرار القانوني بعناية، لم تعد ترى في إقامة مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية أي انتهاكًا للقانون الدولي، مستدركًا أن القرار لا يتطرق لما يسمى الوضع النهائي في الأراضي الفلسطينية، والذي تُشكل المستوطنات إحدى أضلاعه الأربع إلى جانب القدس واللاجئين والحدود، بل إن ذلك الوضع سيحدده الفلسطينيون والإسرائيليون وحدهم عبر المفاوضات.
وبذلك، تبدل الإدارة الأمريكية سياستها- النظرية على الأقل- تجاه المستوطنات وتوسعها، المرتكزة على الرأي القانوني الصادر عن وزارة الخارجية إبان عهد الرئيس جيمي كارتر عام 1978، والذي اعتبر حينها إقامة المستوطنات في الأراضي المحتلة ممارسة مخالفة للقانون الدولي ولا تتفق مع أحكامه.
وهو الرأي الذي لم يعده بومبيو في إعلانه الأخير إلا مجرد «إلهاءٍ»، مشيرًا إلى أن الأسئلة القانونية حول قضية المستوطنات يجب أن تنظر فيها المحاكم الاسرائيلية لا المجتمع الدولي، وهو بذلك يدعم شرعنة السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية واستيطانها على أراضيها، معتبرًا أن «تصنيف إقامة مستوطنات مدنية على أنه يتعارض مع القانون الدولي، لم يدعم قضية السلام».
رفض عربي وأوروبي وترحيبٍ إسرائيلي
وزارتا خارجية مصر والأردن، وردًا على القرار الأمريكي، أكدتا على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية فيما يتعلق بوضعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، باعتبارها غير شرعية وتتناقض مع القانون الدولي، واكتفت السلطة الفلسطينية ومعها الفصائل، بترديد تصريحاتٍ مشابهة على لسان مسؤوليها و ناطقيها.
ومن جهته رفض الإتحاد الأوروبي القرار، عبر بيانٍ أصدرته الممثلة العليا للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية فيدريكا موغيريني، محافظًا بذلك على مواقفه من قضية الاستيطان في المناطق المحتلة، والتي جاء آخرها قبل أسبوعٍ فقط، عبر قرار المحكمة العليا للاتحاد الأوروبي بإلزام دول الاتحاد بوسم السلع المستوردة من المستوطنات بملصق «منتج مستوطنات» لا «صُنع في إسرائيل». ومن المقرر أن يبحث مجلس الأمن الدولي، خلال جلسته الشهرية اليوم، إعلان واشنطن حول المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة.
منذ احتلالها عام 1967، وبغية إحكام الطوق عليها ومصادرة ما أمكن من أراضيها، سلك الإحتلال مساراتٍ ثلاث في الضفة الغربية، تمثلت في التمدد الاستيطاني في عمقها، وتقسيم أراضيها إلى مناطقٍ عسكرية ومحمياتٍ طبيعية، وتشييد جدار الضم والتوسع.
في المقابل، وعدا عن حفاوة الترحيب الاسرائيلي بالقرار، فإن بعض الصحف العبرية، أشارت إلى أن الإعلان عن القرار قبل يومين من الموعد النهائي المحدد لزعيم حزب “ازرق ابيض” بيني غانتس لتشكيل حكومة جديدة، يأتي بمثابة دعم لغريمه رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو في إحدى أصعب فترات حياته السياسية، إلا أن تلك الإشارة تبدو غير دقيقة بالنظر إلى الحديث عن أن الإعلان كان من المفترض أن يتم الأسبوع الماضي، ولكن جاء تأجيله بعد التصعيد الذي اندلع في غزة، إضافةً إلى ما أشارت إليه بعض المصادر من أن الإدارة الأمريكية كانت قد أطلعت غانتس على القرار قبل إعلانه. ولكن ذلك لا ينفي بالتأكيد، أن نتنياهو لن يفوت فرصة كهذه لتعزيز موقعه السياسي على الخريطة الداخلية.
ماذا يقول القانون الدولي؟
وفقًا للمبادئ الدولية وأعراف القانون الدولي الإنساني، المتمثلة بالتحديد في اتفاقية (لاهاي 1907) وميثاق (جنيف الرابع 1949) حول قوانين الحرب، يُحظر على المحتل توطين سكانه في الأراضي المُحتلة، وهي الأراضي التي تحصرها القرارات الدولية في الأراضي المُحتلة عام 1967، حسبما جاء في القرار الاستشاري الصادر عن محكمة العدل العليا عام 2004، بشأن جدار الفصل في الضفة الغربية. وأكد على ذلك قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية، التي تنزع الشرعية القانونية عن الإستيطان أو الضم، وتطالب بإلغائه وتفكيك المستوطنات، كان آخرها قرار مجلس الأمن رقم 2334 الصادر في 23 ديسمبر/كانون الأول 2016 الذي طالب الاحتلال بالوقف الفوري لكافة الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية.
كانتونات الضفة في مواجهة دولة المستوطنين
منذ احتلالها عام 1967، وبغية إحكام الطوق عليها ومصادرة ما أمكن من أراضيها، سلك الإحتلال مساراتٍ ثلاث في الضفة الغربية، تمثلت في التمدد الاستيطاني في عمقها، وتقسيم أراضيها إلى مناطقٍ عسكرية ومحمياتٍ طبيعية، وتشييد جدار الضم والتوسع. ومذاك، باتت المخططات الاستيطانية تحمل نفسًا توسعيًا متصاعدًا، فإما يُصادق الإحتلال على بناء مستوطنة جديدة، أو يقوم بإضفاء شرعية على بؤر استيطانية قائمة، أو يعلن أراضٍ فلسطينية كأراضي «دولة اسرائيلة». وإضافةً إلى إنشاء الوحدات السكنية المُستعر داخل التجمعات الإستيطانية، وتحويل البؤر إلى مستوطنات، فإن الاحتلال يستغل مشاريع البنية التحتية المرتبطة بالمستوطنات، مثل الطرق الالتفافية والحفريات الأثرية والسياحية، بهدف توسيع المستوطنات وربطها ببعضها، وبالتالي تحقيق توغل أكبر وتشديد الخناق أكثر وأكثر على مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة.
وبلغ التمدد الاستيطاني أوجه الأقصى خلال الفترة الواقعة بين عامي 1990 و2000، أي بين التوقيع على اتفاقيات أوسلو واندلاع الانتفاضة الثانية. حيث بلغ عدد مستوطني الضفة الغربية عام 2000 حوالي 205 ألف مستوطن، بارتفاع بنسبة 230% عن العام 1990، الذي كان وصل عدد مستوطني الضفة خلاله حوالي 88 ألف. فيما ارتفع عدد المستوطنين في القدس الشرقية من 132 ألف في العام 1990 إلى 174 ألف مستوطن عام 2000، بنسبة ارتفاع بلغت 31%. وتشهد السنوات الأخيرة ازديادًا مطردًا في عدد قاطني مستوطنات الضفة الغربية بما فيها القدس، إذ يبلغ عددهم اليوم حوالي 824 ألف مستوطن، يقطنون 198 مستوطنة، و220 بؤرة استيطانية أخرى، يمتد نفوذها على مساحة 541 كيلو متر مربع، تمثل ما نسبته 9.6% من مساحة الضفة الغربية.
وتأتي مستوطنة (موديعين عيليت) المقامة فوق أراضي قرى غرب رام الله على رأس المستوطنات من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عدد مستوطينيها حوالي 73 ألف، تليها مستوطنة (بيتار عيليت) جنوب غرب القدس، بعدد مستوطنين يقارب 60 ألف، فيما يبلغ عدد سكان مستوطنة (معاليه أدوميم) شرق القدس 41 ألف، كثالث أكبر المستوطنات من حيث عدد السكان.
إن مخططات التوسع والضم لا تأتي إلا على حساب الفلسطينيين وأراضيهم، فخسر أهالي الضفة ممتلكاتهم ومصادر رزقهم، وفرضت القيود على وصولهم للخدمات الحياتية
والارتفاع المتزايد في عدد سكان المستوطنات، يعود بشكلٍ رئيس إلى عاملين، هما الهجرة إليها والزيادة الطبيعية فيها. ويحفزهما من الخارج، السياسات الاقتصادية الخاصة التي تعمل بها السلطات الاسرائيلية في المستوطنات (تخصيصٍ ميزانياتٍ مرتفعة، تقديم هبات مالية وضريبية، فتح استثمارات جديدة)، وعوامل بنيوية أخرى، مثل طبيعة المستوطنات وموقعها الجغرافي، والإمكانيات الاقتصادية التي توفرها، وارتباطها بسـوق العمـل الإسرائيلي واقتصاده عمومًا.
وبالتأكيد، فإن مخططات التوسع والضم لا تأتي إلا على حساب الفلسطينيين وأراضيهم، فخسر أهالي الضفة ممتلكاتهم ومصادر رزقهم، وفرضت القيود على وصولهم للخدمات الحياتية، ناهيك عن تعرضهم لإنتهاكاتِ مستمرة من قبل المستوطنين، بدءًا من إغلاق الطرقات ورشق الحجارة على السيارات والمنازل، ومرورًا بمداهمة القرى والأراضي، وإحراق حقول الزيتون والمحاصيل، وتدمير وإتلاف الممتلكات، وصولًا إلى الاعتداءات الجسدية، وإلقاء المولوتوف وإطلاق النار. كل ذلك، ترافق مع تقويض السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية لأي جهدٍ مقاوم ضد اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه في الضفة الغربية.
قرارات رمزية وواقع أشد قتامة
لا شك أن قرار الإدارة الأمريكية الجديد لن يُغير شيئًا من واقع أمر الاستيطان الذي ينهش الضفة الغربية والقدس المحتلة، إنما يأتي لُيرسّم الرؤية ويضفي شرعيةً جائرة على الواقع، وليعيد في ذات الوقت ترتيب وصياغة الأسس التي قد تجري بناءًا عليها أي مفاوضات سلام قادمة. وهي ترتيبات ليست مفاجئة، بومبيو ذاته، كان قد صرح قبل أشهرٍ عدة أن المستوطنات وفرض السيطرة الاسرائيلية على الضفة الغربية لن تكون عائقًا أمام خطة السلام الجديدة.
من جهةٍ أخرى، ومنذ مجيء ترامب إلى البيت الأبيض عام 2017، وافقت سلطات الإحتلال على بناء أكثر من 15 ألف وحدة سكنية في مستوطنات الضفة الغربية. ومنذ أبريل 2018 أوقفت الخارجية الأمريكية استخدام تعبير «الأراضي المحتلة»، حين الإشارة إلى الضفة الغربية، بما فيها القدس.
تزامن ذلك مع إعلان ترامب للقدس عاصمة للكيان في ديسمبر 2017، ونقل السفارة الأمريكية إليها من تل أبيب في مايو 2018، ومن ثم استهداف قضية اللاجئين عبر قطع الدعم عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بدايةً، ثم محاولة إلغاء تفويضها، عدا عن قطع المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية.
وأمام سياسات تهويد القدس وخطط شطب اللاجئين ومحو قضيتهم، وشرعنة التوسع الاستيطاني، والتلويح الاسرائيلي المستمر والجاد بضم مناطق (ج) التي تمثل 60% من الضفة مشكلةً بساطها الأساس، لا يكون للتصريحات الفلسطينية «النارية» الرافضة لكل ذلك أي قيمة أو ثمن، لأن «الكلام ببلاش» كما نقول.
ورفض المخططات وصدها، يحتاج قبل كل شيء لإرادةٍ جادة، تٌترجم لفعلٍ رافض ذي قيمة، وهو الأمر الذي ربما يحدث، حين تكف الحركة الوطنية الفلسطينية عن إضاعة وقتها وجهدها في مهاترات الانتخابات التشريعية والرئاسية تحت سقف أوسلو ومؤسساتها البالية، وتلتف إلى القضايا التي تمس الوجود الفلسطيني بأكمله.