من الواضح أن زخم الاحتجاجات الإيرانية المشتعلة منذ منتصف ليل الخميس الماضي يتزايد يوما بعد الأخر، على عكس ما كان يراهن عليه قادة إيران بتراجع رقعة الحراك لاسيما بعد مساعي التهدئة التي بذلها ولا يزال الرئيس حسن روحاني بشأن توجيه الجانب الأكبر من الأموال المحصلة نتيجة قرار رفع أسعار البنزين، للفقراء والمحتاجين والذي قدرهم بـ 60 مليون مواطن.
الاحتجاجات وعلى غير ما ذهب الكثيرون لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن نظيراتها على مدار العامين الأخيرين، تحديدًا التي انطلقت شرارتها الأولى في 28 ديسمبر/كانون الأول 2017 في مدينة مشهد (شمال شرق)، إذ تعد وفق محللين استكمالا لموجة التنديد بسياسات النظام الحالي والذي زاد من تفاقم الأوضاع.
منظمة العفو الدولية، في بيان لها، أمس الثلاثاء، قالت إن ما لا يقل عن 106 محتجين لاقوا حتفهم في 21 مدينة في إيران خلال الاضطرابات الأخيرة، كاشفة أن أفراد من قوات مكافحة الشغب حاولوا تفريق المُحتجين، وأن قناصة أطلقوا النار على الحشود من أسطح المنازل وفي إحدى الحالات من طائرة هليكوبتر.
دلالات خطيرة عكسها بيان المنظمة الحقوقية الذي يشير إلى أنه في غضون أقل من أسبوع سقط 4 أضعاف ما سقط خلال احتجاجات 2017 والتي استمرت لعدة أسابيع سقط فيها 26 إيرانيًا، 9 منهم لقوا حتفهم بعد الاعتقال، وهو الأمر الذي يعطي الحراك الحالي زخما غير مسبوق ويفتح الباب على مصراعيه أمام كافة الاحتمالات.
قراءات عدة للمشهد تذهب في اتجاه أن قيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تواجه بسبب تلك الاحتجاجات أكبر تهديد لبقائها منذ حرب العراق في ثمانينات القرن الماضي، ورغم أن هذا الحراك ليس الأول من نوعه، لكن النظام الآن في مشكلة أصعب بكثير لأن التظاهرات الأخيرة تركز على القضية الأهم والأكبر بالنسبة لهم: الدعم الحكومي.
نجحت طهران خلال العامين الماضيين في تصدير صورة قدرتها على وأد غضب الشارع عبر سلسلة من الأساليب القمعية واستراتيجيات الترهيب التي لاقت تنديدًا حقوقيًا دوليًا، لكن ومع الاختلافات الواضحة بين المشهدين يبقى السؤال: هل تنجح ينجح النظام في قمع الاحتجاجات الحالية؟
حراك متوقع
المتابع للخارطة الإيرانية، الاقتصادية والسياسية، خلال الأونة الأخيرة يقف على حقيقة مفادها أن الغضب الحالي لم يكن مفاجئا وأن قرار الحكومة برفع أسعار الوقود كان متوقعا، لاسيما بعد الهزة العنيفة التي تعرض لها اقتصاد البلاد منذ انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب،أحادي الجانب، من الاتفاق النووي في العام الماضي 2018، وجدَّد على إثره العقوبات المفروضة على الإيرانيين.
منذ ثورة 1979 كان الإيرانيون ينظرون للوقود، المجاني تقريبًا، على أنه حق مكتسب، ساعدهم في ذلك الدعم المقدم من الدولة في هذا المجال، وهي الإستراتيجية التي وصفها البعض بـ “الرشوة السياسية” للشارع الإيراني، وفق ما ذهب صحيفة POLITICO الأمريكية في تقرير لها.
بات من الواضح أن البنزين لم يكن وحده السبب وراء تلك الانتفاضة التي عرًت وبشكل كبير شعبية النظام المزعومة، لاسيما وأنه لم يصمد حتى الأن في الحفاظ على الإنجاز الأكبر الذي طالما استند إليه في الترويج لنفسه وهو الاتفاق النووي
الصحيفة أشارت إلى أن “إيران صاحبة ثالث أكبر احتياطيات نفط في العالم، كانت تتمكن عادة من شراء ميزة سياسية، أو بالأحرى صمت الشعب، من خلال ضخ مبالغ كبيرة في دعم منتجات الطاقة، والطعام والمياه” وقد صنفت الدولة على أنها صاحبة أكبر دعم لمنتجات الوقود الأحفوري في العالم، بقيمة بلغت 69 مليار دولار في 2018، وفق الوكالة الدولية للطاقة.
الشعب الذي اعتاد على مجانية الوقود لم يتحمل الزيادة الأخيرة والتي رفعت سعر غالون البنزين إلى 50 سنتا، ورغم أنه يعد بعد تلك الزيارة بين الأقل تكلفة مقارنة بأسعاره في دول العالم الأخرى، إلا أن الإيرانيين لم يقبلوا هذه الخطوة التي كشفت وبشكل واضح عن بركان الغضب المهيمن على الشارع الإيراني.
تزايد رقعة الاحتجاجات في مختلف المدن الإيرانية
بات من الواضح أن البنزين لم يكن وحده السبب وراء تلك الانتفاضة التي عرًت وبشكل كبير شعبية النظام المزعومة، لاسيما وأنه لم يصمد حتى الأن في الحفاظ على الإنجاز الأكبر الذي طالما استند إليه في الترويج لنفسه وهو الاتفاق النووي الذي تنفك عراه شيئا فشيئًا.
هذا بجانب الفشل في تحقيق الطفرة الاقتصادية ولا التحرر من العقوبات التي تعهد بإلغائها، هذا في الوقت الذي يتصاعد فيه الغضب بسبب السياسة الخارجية والأموال الطائلة التي تسحب من خزانة الدولة لخدمة الأجندات السياسية في بعض المناطق الساخنة في المنطقة رغم ما يعانيه الشعب من تقشف واضح.
وقد اعترف روحاني في خطاب ألقاه في مدينة كرمان جنوب شرق البلاد، خلال الأسبوع الماضي، أن البلاد تواجه «أصعب أيامها» منذ ثورة 1979، إذا تكافح البلاد لبيع النفط في الأسواق الدولية والحفاظ على حركة ناقلات النفط، ومن دون الدخل الذي كانت تحققه البلاد من صادرات النفط، لم يعد دعم الوقود الآن قابلاً للاستمرار، وعليه سعى لتبرير قرار رفع الأسعار، مضيفا أنه قرار ضروري ولا يمكن تأجيله.
خبرة في قمع الاحتجاجات
في أواخر 2017 خرج المئات في تظاهرات متباعدة في مدينة مشهد اعتراضا على الوضع الاقتصادي المتردي وارتفاع أسعار بعض السلع اليومية، وما هي إلا بضعة أيام إلا وامتدت الاحتجاجات من ثاني أكبر مدن إيران إلى جميع المدن والمحافظات تقريبا، وذلك قبل أن تتطور فيما بعد إثر مشاركة بعض القادة السياسيين والدينيين وإطلاقهم لدعوات لتنفيذ إصلاحات عاجلة.
تصاعدت كرة الثلج وقتها بصورة لافتة للنظر، فبعدما كان الهتاف بشأن زيادة الأسعار والمطالبة بالتراجع عن قرارات الزيادة، تجاوز ذلك إلى الهتاف ضد الحكومة والمطالبة بإسقاط النظام، وصولا إلى رفع شعار “الموت للديكتاتور” أثناء إسقاطهم ملصقاتٍ تحمل صورة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، فيما أخذت مناحى أخرى تتعلق بالاعتراض على توجهات وسياسات الدولة الخارجية، حيث تساءل البعض: لماذا تموِّل إيران وكلاء في سوريا ولبنان والعراق وغزة بينما يواجه الإيرانيون أنفسهم عجزاً اقتصادياً”.
رغم النجاح الذي حققته السلطات في إخماد خطورة تلك الاحتجاجات إلا أنها فشلت في القضاء عليها بالكلية
سقف الطموحات تصاعد وقتها يوما تلو يوم، فما كان محرما بالأمس ما عاد اليوم، لكن الأمور لم تأت كما كان يتوقع البعض، فبعد أسابيع قليلة من اندلاع الاحتجاجات التي سقط فيها 26 متظاهرًا وفق بيانات العفو الدولية، خمدت جذوة الحراك بصورة تدريجية حتى تلاشى خطرها.
المنظمة في تقريرها بشأن هذا العام (2017/ 2018) كشفن أنه قد “اعتُقِل أكثر من 7000 آلاف متظاهر وطالب وصحفي وناشط بيئي وعامل ومدافع عن حقوق الإنسان، بمن فيهم محامون وناشطات نسويات وناشطون مدافعون عن حقوق الأقليات ونقابيون، والكثير منهم اعتُقِل بطريقةٍ تعسُّفية” وهو الرقم الذي أحدث ضجة كبيرة في المحافل الدولية في هذا التوقيت.
الرئيس الإيراني حسن روحاني
اعتمدت السلطات الإيرانية لإخماد تلك التظاهرات على استراتيجتين، الأولى: اتخاذ خطوة للوراء لاحتواء الغضب وإطفاء جذوته، وذلك عبر التراجع عن بعض قرارات زيادة أسعار السلع، وهو القرار الذي نجح في تفتيت لحمة الحراك الذي وجد في هذه الهبًة الشعبية فرصة مواتية للإطاحة بالنظام الحالي.
أما الإستراتيجية الثانية فاعتمدت على الترهيب، وذلك عبر الدفع بعشرات الآلآف من أفراد الأمن المدججين بالسلاح للشارع لتطويق التظاهرات وتفريقها بالقوة، واعتقال عدد كبير من المشاركين فيها، فضلا عن التنكيل برموزها في رسالة تخويف واضحة لكل من يفكر في الانخراط في مثل هذه التحركات، رافق ذلك قطع وسائل الاتصال والتواصل، الشبكي والهاتفي، لتطويق التفاعل بين المواطنين.
ورغم النجاح الذي حققته السلطات في إخماد خطورة تلك الاحتجاجات إلا أنها فشلت في القضاء عليها بالكلية، إذ استمر بعض الأفراد والمجموعات المُنسَّقة من المعارضين في المطالبة علانيةً بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية طوال عام 2018، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية العام الأخير نُظِّمت مظاهرات سلمية في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب وأكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، فرَّقتها السلطات باستخدام الذخيرة الحية والغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، وفقاً للتقارير الإعلامية والحقوقية.
الأمر ذاته تكرر في 2009 حين اندلعت واحدة من أكبر حركات الاحتجاج في تاريخ إيران مابعد الثورة، تلك الاحتجاجات التي طالبت بتغيير النظام بسبب مزاعم بأن الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد قد زوّر الانتخابات، ورغم ما شهده هذا الحراك الذي سمي وقتها بـ “الحركة الخضراء” من مقتل العشرات على أيدي قوات الأمن، إلا أن نجاد أكمل مدته وقضى بعدها ولاية رئاسية ثانية.
هل تنجح هذه المرة؟
التساؤل الذي يفرض نفسه الأن: هل تنجح الخبرة الطويلة للسلطات الإيرانية في قمع الاحتجاجات في وأد الحراك الحالي؟.. فبالنظر إلى التفاصيل يلاحظ أن ذات الاستراتيجيات المتبعة يعاد تدويرها مرة أخرى، لاسيما المتعلقة بالترهيب، وهو ما كشفت طهران النقاب عنه منذ الوهلة الأولى حين أصدرت بعض الولايات تحذيرًا بتدخل قوات الباسيج التابعة للحرس الثوري لفض التظاهرات والتعامل مع المشاركين فيها.
الإحصائيات الأولية للعفو الدولية بشأن عدد القتلى والجرحى والمعتقلين، تبعث برسائل ترهيب واضحة، مقارنة بما حدث قبل عامين، وهي الرسالة التي يؤكد فيها النظام أنه لم يسمح بأي محاولة لزعزعة مكانته أو تهديد عرشه، مكتفيًا ببعض الوعود والمهدئات الصادرة بحق الفقراء من الشعب.
الرهان هنا لا يخرج عن خطين متوازيين، الأول قدرة المتظاهرين على الثبات والصمود في مواجهة آلة القمع التي كشرت عن أنيابها بصورة واضحة، وهو الخط الذي يقلل الكثير من ترجيحه قياسا بالتجارب السابقة، فيما يأتي الخط الثاني متعلقا بالتدخل الدولي، وهو الاحتمال الأضعف في ظل ما تعانيه البلاد من انعزالية بيًنة خلال السنوات الأخيرة بسبب العقوبات المفروضة عليها والتي جعلتها غير مبالية مطلقا بما بموافق المجتمع الدولي.
الشعب الإيراني “قد لا ينجح هذه المرّة في التخلّص نهائيا من النظام، لكنه سينجح غدا أو بعد غد”.. الكاتب الصحفي خير الله خير الله
محمد مصطفى العمراني في صحيفة “السبيل” الأردنية يرى أن “إيران دولة مؤسسات ونظامها لن يسقط بهذه التظاهرات الحقوقية المشروعة التي هي حق للشعب الإيراني، وسيفشل البعض في حرفها عن أهدافها الحقوقية المشروعة مثلما فشلت العقوبات الأمريكية والحرب الاقتصادية المفروضة على إيران في تحقيق أهداف أمريكا وحلفائها في المنطقة، بل لقد أكسبت هذه العقوبات النظام الإيراني مناعة كبيرة ومنحته خبرة كافية بتجاوز هذه العقوبات”.
إلا أنه في الوقت ذاته يرى أن النظام الإيراني “فشل في محاربة الفساد في الداخل وإنهاء البيروقراطية والروتين والفساد المالي والإداري رغم محاولاته وجهوده التي يبذلها في هذا المجال” معربا عن توقعه لاتخاذ حكومة طهران قرار زيادة أسعار البزين بدعوى أنها وجدت نفسها مضطرة “لتغطية العجز الكبير في الموازنة العامة في ظل تراجع مبيعات النفط الإيراني وعجز الدول الأوروبية عن الوفاء بتعهداتها المالية لإيران وخضوعها للعصا الأمريكية”.
وفي سياق متصل يقول خيرالله خيرالله في “العرب” اللندنية أن الشعب الإيراني “قد لا ينجح هذه المرّة في التخلّص نهائيا من النظام، لكنه سينجح غدا أو بعد غد”، مشيرا إلى أن النظام “يمتلك آلة قمعية رهيبة”، مضيفًا أن البلاد دخلت “مرحلة لا عودة فيها إلى الخلف، نظرا إلى أنّ النظام القائم ليس قابلا للحياة مهما كانت القوة القمعية التي يمتلكها” ،ويتابع: “ما تشهده إيران هذه الأيّام هو تتويج لفشل نظام ليس لديه ما يصدرّه غير السلاح والبؤس والميليشيات والغرائز المذهبية”.
وبعيدًا عن التأويلات التي تتطرق لسيناريوهات الحراك الإيراني فإن الساحة قابلة لكافة الاحتمالات في حال خروج الوضع عن السيطرة وهو ما تظهر إرهاصاته ساعة بعد الأخرى، وتبقى معركة الشارع بين المتظاهرين وقوات الأمن هي الفيصل في الحسم، مع الوضع في الاعتبار تأثير المشهد العراقي واللبناني على مستقبل تلك الاحتجاجات بشكل أو بأخر.