استكملت تونس في الشهرين الأخيرين، استحقاقاتها الانتخابية بنجاح، فقد انتخب التونسيون رئيسًا جديدًا لهم، وانتخبوا أيضًا برلمانًا جديدًا، وها هم الآن ينتظرون تشكيل حكومة سيكون الملف الاقتصادي أبرز أولوياتها بعد استكمال المسار السياسي في البلاد، خاصة في هذا الظرف الذي تمرّ به اقتصاد مهد الثورات العربية.
واقع اقتصادي سلبي
توقّعت حكومة يوسف الشاهد، أن تصل نسبة النمو الاقتصادي للبلاد لهذه السنة 3%، إلا أن هذه النسبة بعيدة عن الواقع، حيث أعلن صندوق النقد الدولي في تقرير حديث حول الوضع الاقتصادي في تونس أن نسبة النمو الاقتصادي التي ستسجلها لن تزيد عن 1.5% بنهاية السنة الحالية.
ووفقًا لبيانات نشرها معهد الإحصاء الحكومي، فقد سجّل الاقتصاد التونسي نموًا في حدود 1.1% خلال الأشهر التسعة الأولى من سنة 2019، وذلك بعد أن سجّل الناتج المحلي الإجمالي وفق بيانات المعهد الحكومي نموًا بنسبة 1% خلال الربع الثالث من العام الحالي، مقارنة بذات الفترة من سنة 2018، وبنسبة 0.2% مقارنة بالربع الثاني من 2019.
ترجع نسبة النمو الضعيفة المتوقعة إلى واقع الاقتصاد التونسي، حيث من المنتظر أن يبلغ عجز الموازنة في تونس 3.5 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2019، فيما بلغ مستوى الدين الخارجي مستويات غير مسبوقة؛ إذ بلغ 75% من الناتج المحلي الإجمالي في 2018، على أن تبلغ نسبتها سنة 2020 83% من الناتج الخام للبلاد وفق مشروع الموازنة للعام المقبل.
وتحتاج تونس إلى اقتراض 11.4 مليار دينار (4.02 مليار دولار) في 2020، وتشير الأرقام الواردة في مسودة مشروع الموازنة للعام المقبل، إلى أن تونس ستسدد ديونا بقيمة 11.6 مليار دينار، موزعة بين 7.9 مليارات دينار دين أصلي (2.8 مليار دولار)، و3.7 مليارات دينار (1.3 مليار دولار)، فوائد على الديون.
تعرف عديد المنشآت العمومية في تونس تدهورا في السنوات الأخيرة بعد أن كانت مصدر تمويل لميزانية الدولة
الأرقام السلبية لا تتوقف هنا، حيث سجّل التضخم خلال السنوات الثلاث الماضية في تونس معدلات قياسية لم تعرفها البلاد منذ سنوات، حيث ارتفع التضخم في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى 6.5%، فيما وصل معدل البطالة خلال الثلاثي الثالث من العام الجاري 15.1 % مقارنة بنحو 12% في 2010، ليبلغ عدد العاطلين عن العمل 628.3 ألف شخص، وفق ما كشفه المسح الخاص بالتشغيل الذي نشره، مؤخرا، المعهد الوطني للإحصاء.
الأرقام السلبية تظهر جلية أيضًا في تدهور سعر صرف العملة المحلية، فقد عرفت العملة المحلية تراجعا حاد بفعل سياسة التعويم الجزئي التي دعا إليها صندوق النقد، إذ تراجع سعر الدينار أمام الدولار بنسبة 107% منذ عام 2011 حتى بداية 2019، حسب البيانات الرسمية. ومع بداية 2011 بلغ سعر الدولار 1.42 دينار، ومع بداية 2019 ارتفع الدولار إلى 2.94 دينار، ليستقر حاليًا في حدود 2.89 دينار.
أما مقابل العملة الأوروبية الموحدة، فقد تراجع سعر الدينار بنسبة 76.8% خلال 9 سنوات، إذ بلغ سعر اليورو مطلع 2011 نحو 1.9 دينار، ثم قفز إلى 2.41 دينار في 2017، قبل أن يخترق حاجز 3 دنانير عام 2019، مسجلاً 3.363 دنانير.
تراجع مؤشرات الاقتصاد التونسي
فضلًا عن ذلك، تعرف عديد المنشآت العمومية في تونس تدهورًا في السنوات الأخيرة بعد أن كانت مصدر تمويل لميزانية الدولة، حيث سجّلت الشركة التونسية للكهرباء والغاز مثلًا نتيجة صافية سلبية في حدود 354 مليون دينار سنة 2016، بعد أن سجلت سنة 2010 نتيجة صافية سلبية في حدود 37 مليون دينار، وفق المكلف بمأمورية بديوان رئيس الحكومة شكري حسين.
أما بالنسبة إلى الشركة التونسية للخطوط الجوية فقد حققت في 2010 نتيجة صافية إيجابية بقيمة 2.3 مليون دينار وسجلت في 2016 نتيجة صافية سلبية بـ165 مليون دينار كما سجلت شركة فسفاط قفصة في 2010 نتيجة إيجابية بقيمة 375 مليون دينار لتسجل سنة 2016 نتيجة صافية سلبية بقيمة 109 مليون دينار، وفق نفس المصدر.
وبحسب تقارير لمنظمات مهنية، فإن 80% من المصانع التونسية مهددة بالإغلاق وتسريح الآلاف من العمال نتيجة تراجع إنتاجها، في حين أكدت مصادر رسمية أن ثلاثمئة مصنع للأحذية والملابس أغلقت أبوابها لتفاقم خسائرها، مما أسفر عن بقاء نحو 40 ألف عامل عاطلين عن العمل.
ضمن الواقع السلبي للاقتصاد التونسي أيضًا، سيطرة الاقتصاد الموازي عليه، ما جعل العلامات التجارية المقلدة تسيطر على نسبة مهمة من الأنشطة الاقتصادية في تونس، وعرفت هذه الظاهرة توسعًا كبيرًا ما جعلها تشمل كل أصناف المواد الاستهلاكية، مثل مكونات السيارات ومواد التجميل والملابس الجاهزة والجلود والأحذية والنظارات والمواد شبه الطبية والمواد السمعية البصرية، إلى جانب الصناعات الثقافية ومواد الصناعات التقليدية.
حلول وفرص عديدة
هذه المؤشرات الاقتصادية السلبية، من المنتظر أن تعمل الحكومة القادمة على تجاوزها، حتى لا تتفاقم أكثر وتؤدّي بالبلاد إلى متاهات يصعب حلّها، وكان رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي قد بدأ يوم الإثنين الماضي، في مشاوراته الحكومية، مؤكدًا أنه سيكون منفتحًا على كل الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية دون استثناء.
وكان الرئيس التونسي قيس سعيّد قد كلّف يوم الجمعة، الحبيب الجملي بتشكيل الحكومة التونسية وعرضها عليه للتشاور بشأن اختيار وزيري الدفاع والخارجية كما ينص الدستور التونسي. وجاء التكليف بعد أن وقع اختيار حزب حركة النهضة الفائز بأغلبية الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على الحبيب الجملي لرئاسة الحكومة المقبلة.
ويتطلّب خروج تونس من وضعها الاقتصادي الصعب برنامجًا حكوميًا جديًا يحمل حلولًا واضحة تتقيّد بها جميع الأطراف السياسية في البلاد، في مقدمتها المشاركين في الائتلاف الحاكم المرتقب، فالوضع لا يحتمل مزيد التريّث.
هذه الحلول وغيرها، من المؤكّد أنها ستعرض على طاولة الحكومة المرتقبة للحبيب الجملي، لكن الإشكال يكمن في التطبيق، فالحلول موجودة منذ مدّة لكن إرادة التطبيق غائبة
من بين هذه الحلول، إصلاح المالية العمومية من خلال القيام بإصلاحات هيكلية متعددة الجوانب لخفض نسب الدين العام وزيادة إيرادات الدولة، والابتعاد عن الحلول الترقيعية التي تثقل كاهل المواطن التونسي من دون أن يكون لها أي فائدة.
وترى الجهات المانحة أن إصلاح المالية العمومية يحتاج إلى قرارات جريئة منها وقف التوظيف في القطاع الحكومي، وخفض كتلة الأجور التي ارتفعت إلى 15% من الناتج الإجمالي للبلاد، إلى جانب خفض نسبة الدعم أو حتى التخلي عنها.
من الحلول التي تطرح لإنقاذ الاقتصاد التونسي، الحدّ من ظاهرة التهرب الضريبي الذي ارتفعت معدلاته في تونس في العام 2019 وصارت تمثل أكبر خطر يهدد اقتصاد البلاد ويؤثر سلبًا على الميزان التجاري وحجم الاستثمارات الخارجية.
وتشكو المنظومة الجبائية في تونس من اختلالات عدة، بما في ذلك تعدد النصوص القانونية التي فاق عددها 500 إجراء ضريبي منذ عام 2011 دون أن تساهم تلك الإجراءات في الحد من ظاهرة التهرب. وتجاوزت نسبة الضغط الجبائي في تونس 23% في العام الحالي بعد أن كانت في حدود 19% في عام 2010، مما يجعل البلاد تحتل مراتب أولى في التهرب الضريبي في القارة الإفريقية.
تمتلك تونس بيئة خصبة للاستثمار
فضلا عن ذلك، على الحكومة التونسية المقبلة عصرنة الإدارة والتقليص من متطلباتها والعراقيل التي تعطل كل المبادرات، ودعم كل آليات تمويل المؤسسات الصغرى والمتوسطة وضخ موارد عمومية وتشجيع الخواص على دعم الشباب وفتح فرص شغل أمامهم لتقليل الضغط على الدولة.
على الحكومة التونسية أيضا أن تهتم بالقطاعات المنظمة، حتى تضع حدا للقطاعات الموازية التي أضرت باقتصاد البلاد، وساهمت في مزيد تدهوره في السنوات التي أعقبت ثورة يناير 2011، إلى جانب الاهتمامات بالقطاعات ذات القيمة المضافة العالية.
من آليات تحريك الدّورة الاقتصادية و خلق نمو اقتصادي في البلاد، التشجيع على الاستثمار، وتتوفر في تونس فرص كبيرة للاستثمار الخاص الأجنبي والوطني، خاصة في قطاعات الطّاقة و البنية التحتية و الطّاقة الشّمسية.
هذه الحلول وغيرها، من المؤكّد أنها ستعرض على طاولة الحكومة المرتقبة للحبيب الجملي، لكن الإشكال يكمن في التطبيق، فالحلول موجودة منذ مدّة لكن إرادة التطبيق غائبة ما يجعل الإشكاليات في تواصل ومؤهّل لمزيد التمكّن من اقتصاد تونس.