ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدار السنوات الاثنتي عشر الماضية، اعتاد يوسي على اتباع روتين بسيط: الاستيقاظ على الساعة السابعة صباحًا، وتأدية طقوسه الدينية، ثم تناول فطور الصباح حتى الساعة الثامنة. إثر ذلك يقضي 14 ساعة أو أكثر في دراسة النصوص اليهودية المقدسة، ثم يأخذ استراحة لتناول وجبة الغداء ويؤدي مزيدا من الصلوات.
لكن منذ شهر أيلول/ سبتمبر، قرر يوسي تخصيص جلّ وقته في قراءة كتب الرياضيات والبرمجة بدلا من الكتب الدينية، نظرا لكونه يرغب في الحصول على شهادة في علوم الكمبيوتر. في نهاية المطاف، يأمل في الحصول على وظيفة مع وكالة أمنية إسرائيلية، وربما الموساد، التي تعادل وكالة المخابرات المركزية في الولايات المتحدة. حيال هذا الشأن، قال يوسي، البالغ من العمر 29 سنة، الذي فضّل عدم ذكر اسم عائلته لأسباب أمنية: “بالتأكيد، لدي أحلام. أملك هدفا محددا وهو المساهمة في “إسرائيل”، وهذا الأمر يسمح لي بالقيام بذلك، لا سيما في مجال الدفاع”.
يشارك يوسي في برنامج يسمى “مشروع باردس”، الهادف إلى دمج يهود الحريديم -أو ما يُعرف باليهود الأرثودكس في اللغة العبرية- بشكل أفضل في الاقتصاد مع الحفاظ على هويتهم. بموجب التقاليد اليهودية، يتمثل الواجب المقدس للرجل في التعلّم، وهذا يعني بالنسبة للحريديم دراسة النصوص القديمة لإقامة علاقة أوثق مع الله. يمثل اليهود الأرثوذكس المتشددون أكثر من 10 بالمئة من سكان “إسرائيل”، لكن يكرّس نصف عدد الرجال تقريبا حياتهم للمنح الدراسية الدينية في حين تعمل زوجاتهم لدعم عائلاتهم.
يعيش يهود الحريديم في أحياء منفصلة في ميا شاريم في القدس، حيث يجول الرجال في شكل مجموعات مرتدين قبعات قاتمة اللون ومعاطف سوداء طويلة ولهم سوالف، الشوارع متجاهلين علامات التحذير المتعلقة بقانون اللباس، بينما يرشق الشبان السيارات التي تجرّأ أصحابها على الدخول يوم السبت اليهودي
أعلنت الحكومة أنها ترغب في ضم 63 بالمئة من رجال الحريديم في سن العمل إلى القوى العاملة بحلول السنة القادمة. ولكن هناك فرصة ضئيلة لتحقيق ذلك، حتى مع اعتقاد خبراء الاقتصاد أن تباطؤ النمو يعني أن “إسرائيل” تحتاج إلى مساهمة أكبر منهم. وفقًا لمعهد “إسرائيل” للديمقراطية، إذا كان جميع رجال الحريديم منتجين مثلهم مثل باقي الإسرائيليين، فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة في الاقتصاد تزيد قيمتها عن 5 مليارات دولار في السنة. وفي هذا الخصوص، أوضح مؤسس “مشروع باردس” موشيه كاهان أن “هؤلاء الأشخاص عباقرة وليس لديهم فرص. نحن نحاول منحهم شيئًا يتطلعون إليه”.
تابع كاهان دراسات دينية مماثلة للدراسات التي قام بها يوسي لمدة سنوات، ولكنه التحق بالأوساط الأكاديمية وحصل على درجة الدكتوراه في اللغات السامية. وسرعان ما خلص إلى أن الدراسة الدقيقة للنصوص الدينية لا تختلف عن تدقيق عمليات الاعتراض التي تقوم بها المخابرات بحثًا عن أدلة قد تعزز أمن “إسرائيل”.
قبل سنتين، بدأ تطوير مشروع باردس، الذي أطلِق في شهر أيلول/ سبتمبر. لقد حظي باهتمام رئيس الموساد يوسي كوهين، الذي يسعى إلى جذب المزيد من الحريديم إلى الوكالة في سوق عمل ضيقة. وقال كوهين في مؤتمر عُقد في شهر تموز/ يوليو الماضي مشيرا إلى “مشروع باردس”: “إننا نعمل على توسيع الدوائر الاجتماعية التي ينتمي إليها المنتسبون للموساد. وتتمثل نيتنا في دمج الحريديم في كل جزء من المنظمة”.
رجال متشددون يعملون في مكاتب بيز ماكس، وهي مساحة لتعاون اليهود الأرثودكس المتشددين في القدس.
لطالما كان يهود الحريديم منعزلين عن المجتمع الإسرائيلي العلماني. في وقت تأسيس “إسرائيل” في سنة 1948، قدّم رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون تنازلات للزعماء الدينيين للحصول على دعمهم، بما في ذلك الإعفاء من المشروع العسكري للشباب في المعاهد الدينية. في ذلك الوقت، كان 400 باحث فحسب يستحقون هذا الإعفاء، لكن في الوقت الراهن، يُعفى حوالي 30 ألف رجل من الحريديم كل سنة من الخدمة العسكرية.
يعيش يهود الحريديم في أحياء منفصلة في ميا شاريم في القدس، حيث يجول الرجال في شكل مجموعات مرتدين قبعات قاتمة اللون ومعاطف سوداء طويلة ولهم سوالف، الشوارع متجاهلين علامات التحذير المتعلقة بقانون اللباس، بينما يرشق الشبان السيارات التي تجرّأ أصحابها على الدخول يوم السبت اليهودي. يذكر أنهم قادوا بنجاح حملة لإغلاق معظم وسائل النقل العامة والأعمال التجارية في “إسرائيل” من يوم الجمعة حتى يوم السبت، وكثيرا ما كانوا يحتقرون المواضيع العلمانية مثل العلوم واللغة الإنجليزية في المدارس.
في ظل امتلاكهم سبعة أطفال في المتوسط مقابل ما يزيد قليلاً عن طفلين لليهود الإسرائيليين غير المتدينين، فإن الحريديم المتطرّفين هم الفئة الأسرع نموًا في البلاد، وهم على المسار لتمثيل حوالي خمس السكان بحلول سنة 2040.
في الواقع، يشعر العديد من الإسرائيليين العلمانيين بالاستياء من جواز المرور الحر الذي تتمتع به فئة الحريديم، والإعانات التي يحصلون عليها لعائلاتهم الكبيرة ومدارسهم، إلى جانب منزلتهم المهمة في الحياة الدينية والسياسية. وقد سُلّط الضوء مؤخرا على محاولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتشكيل حكومة بالتحالف مع الحريديم المتطرّفين، والتي فشلت بسبب المطالبة بزيادة عدد رجال الحريديم في الخدمة العسكرية. ولكن حتى بعد الانتخابات المعادة في أيلول/ سبتمبر، لا تزال البلاد في مأزق سياسي.
توفّر مؤسسة كيماك غير الربحية منحا دراسية وخدمات التوظيف إلى الحريديم. كما بدأ معهد حريدي للشؤون العامة، وهي مجموعة مختصة في البحث الاجتماعي، هذه السنة برنامجًا لجلب المزيد من النساء الأرثودكسيات المتطوعات إلى شركات التكنولوجيا.
يعدّ “مشروع باردس” واحدا على الأقل من ضمن سدس البرامج التي تعمل على دمج الحريديم في المجتمع، نظرا لأن المزيد من الأرثودوكس المتطرفين يبحثون عن عمل إلى جانب بحث أصحاب العمل عن تجمعات موهوبة غير مستغلة.
في هذا السياق، توفّر مؤسسة كيماك غير الربحية منحا دراسية وخدمات التوظيف إلى الحريديم. كما بدأ معهد حريدي للشؤون العامة، وهي مجموعة مختصة في البحث الاجتماعي، هذه السنة برنامجًا لجلب المزيد من النساء الأرثودكسيات المتطوعات إلى شركات التكنولوجيا.
بالإضافة إلى ذلك، أنشأت منظمة تدعى “كاماتيك” مساحة عمل مشتركة للمتدينين ناسجة بذلك على منوال شركة “وي وورك” – مع الفصل بين الرجال والنساء مع مطبخ يحترم قواعد الكوشر. ومن جهته، صرّح مؤسس منظمة كاماتيك، موشيه فريدمان، بأن “الكثير من شباب الحريديم يريدون فرصة من أجل أن يكونوا جزءًا من القوى العاملة”. وتجدر الإشارة إلى أن نحو 50 طالبًا من طلاب باردس وقع اختيارهم من بين ألفي مترشح تقدموا لأسباب تتراوح بين الرغبة في إيجاد عمل هادف، والحاجة إلى كسب المزيد من المال لأسرهم، فضلا عن الرغبة في المساهمة في أمن “إسرائيل”.
في البداية، كان يوسي غير متأكد مما إذا كان ينبغي عليه تهميش دراساته الدينية، وحتى لو كان يسعى إلى إيجاد مهنة فهو لم يكن يعرف أي مجال ينبغي له أن يختار. ولكن بعد التشاور مع حاخامه، والتضرّع لمدة ساعة على قمة جبل الجرمق في شمال “إسرائيل”، حيث يُزعم أن حكيما يهوديا روحانيا قد دُفن هناك، قرر يوسي التوقيع. قال يوسي: “ينزعج بعض الناس من هذا. ولكن من غير المستدام أن تقتصر إعالة الأسرة على النساء. فالرجل يريد أن يفعل شيئًا بنفسه”.
الموقع: بلومبرغ