ما بين النهرين، برزت إمارة “بورغواطة” عهد العصور الوسطى على الساحل الأطلسي للمغرب، ليمتد حكمها لأكثر من ثلاثة قرون، فكان من أنشأها هو طريف أبو صالح الذي اختلفت المصادر بشأن أصله، فهو إما مسلم أو يهودي من ولد شمعون بن يعقوب أو أمازيغي. لاحقًا سيخلفه نجله صالح الذي وضع أسس ديانة “بورغواطة” بعد عودته من رحلته إلى أرض المشرق، فعُرف عنه إلمامه بالسحر والفلك والتنجيم، ليدّعي نفسه آخر الأنبياء الذين اصطفاهم الله، فزعم أنه المهدي المنتظر، ليرحل مع اقتراب مَنيّتِه واعدًا أتباعه بعودته في آخر الزمن.
فدّان المغرب وطريق التجارة
“تامسنا” أو “الشاوية” – كما تعرف حاليًّا – كانت موطن إمارة بورغواطة، وهي أراض سهلية خصبة تمتد بين نهري أبي رقراق شمالًا وأم الربيع جنوبًا، وتوجد بها كذلك غابات ومروج جعلتها منطقة زراعية، إذ تُعتبر منذ ذلك العهد وإلى الآن فدان المغرب وخزان حُبوبه، وموقعها الإستراتيجي الذي يطل على بحر الظلمات أو المحيط الأطلسي كما كان يسمى في الأزمان الغابرة، جعلها منفتحة على الخارج وخاصة الأندلس عبر موانئ سلا والرباط وأنفا (الدار البيضاء حاليًّا).
حدود دولة “بورغواطة”
“صورة الأرض” لصاحبه ابن حوقل، هو أول مصدر تاريخي تحدث عن هذه الإمارة الغريبة، حيث يشير إلى النشاط الاقتصادي واسع النطاق الذي شهدته بورغواطة، إذ كانت منتجعًا لأقوام من أهل سجلماسة وأغمات وسوس الذين كانوا يفدون إليها بالتجارة مما ترتب عليه استقلال بورغواطة بمقوماتها الاقتصادية.
سهول منطقة الشاوية
كانت أرضًا غنية فلاحيًا وما زالت كذلك، ومعبرًا للطرق التجارية البرية من شمال المغرب إلى جنوبه، الشيء الذي وفّر الدعائم الأساسية للحكام الذين تربعوا على عرش بورغواطة، وجعلها هدفًا للطامعين من الأعداء والإمارات المجاورة وحتى من القبائل والأفراد، فكانت أولى المواجهات مع دولة الأدارسة عهد المولى الإدريس الأول ونجله الإدريس الثاني، لأنهم اعتبروا سكان هذه الإمارة مجوسًا وحقّ فيهم الجهاد من أجل ضمهم إلى الإسلام، لكن غاراتهم المتوالية فشلت في تحقيق هدفها المنشود.
عقيدة مضادة.. هرطقة ومجوس
عقيدة مضادة سنتها الديانة البورغواطية جعلت معتنقيها شعبًا بهوية مستقلة كما تصوروها بعقائد غريبة ومُتطرفة، إلى درجة أن كثيرًا من الباحثين اعتبروهم خارجين عن تعاليم الإسلام ووصفوهم بالهرطقة والمجوسية، في حين أن فئة قليلة من الباحثين دافعوا عن هذه العقيدة ونسبوها إلى الإسلام، ورأى بعض المؤرخين في دين بورغواطة نوعًا من المقاومة الأمازيغية ضد بعض الفاتحين العرب الذين مارسوا التعسف باسم الإسلام.
لم تكن مجرد دولة عادية بل كانت ذات قوة وبأس شديدين منذ نشأتها، خطيرة في تطلعاتها وأهدافها، خرجت عن تعاليم الإسلام واستطاعت البقاء حتى عصر الموّحدين، رغم محاولات القوى الإسلامية المتعاقبة على عرش المغرب التخلص من هذه المملكة التي ضمت 29 قبيلة، ولو أن القبائل التي كانت تحت نفوذها لم تتبع جميعها نفس الديانة البورغواطية، بل فقط 12 قبيلة اتبعت بينما 17 منها اعتنقت الإسلام لكنها سايرت لأن أهدافها كانت سياسية بحتة، بالتالي لعبت هذه الإمارة دورًا كبيرًا على المسرح السياسي، مسجلة مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب في العصر الإسلامي خلال القرن الثاني للهجرة.
استنتج أبو عبيد البكري أن هذه القبائل التي تبعت هراطقة بورغواطة، ضمنها عدد كبير من القبائل الأمازيغية التي حافظت على إسلامها الصحيح رغم تبعيتها لبورغواطة وخضوعها لها، فيقول المؤرخ والجغرافي الأندلسي: “وممن يدين لهم من المسلمين وينضاف إلى مملكتهم: زناتة الجبل وبنو يليت ونمالته وبنو واوسينت وبنو يفرن وبنو ناغيت وبنو النعمان وبنو أفلوسة وبنو كونة وبنو يسكر وأصادة وركانة وأيزمين ومنادة وماسينة ورصانة وترارتة، ومبلغ عددهم نحو اثني عشر ألف فارس، وليس في عسكرهم طبول ولا بنود” وفق ما جاء في كتاب “المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب”.
حملة عقبة.. أول احتكاك بالإسلام
استنادًا إلى رواية ابن خلدون الجديرة بالثقة، تنتسب بورغواطة إلى قبيلة مصمودة، فكان أول احتكاك مباشر لها بالإسلام، عندما أغار عقبة بن نافع على بلاد تامسنا بالسوس الأدنى في ولايته الثانية على المغرب وانتهت غارته السريعة بوقوفه على ساحل بحر المحيط ودخوله بفرسه في مياهه حتى بلغ الماء بطن الفرس، ولكن حملة عقبة كانت سريعة ولم تسفر عن انتشار الإسلام في هذه النواحي.
تمثال عقبة بن نافع في الجزائر
اختلف المؤرخون كثيرًا في تحديد طبيعة كيان بورغواطة في العصر الإسلامي، وتوضيح ما إذا كانت مجرد قبيلة عظمى من القبائل الأمازيغية أم دولة تحتفظ بكل خصائص الدول المستقلة؟ وتشير الظروف المحيطة ببورغواطة إلى أنها قبيلة أتاحت لها الظروف أن تصبح دولة قوية مستقلة، حافظ أبناؤها على الاستقلال بفضل ثرواتها الاقتصادية الهائلة وإمكاناتها العسكرية الوفيرة وقدرات أهلها العالية.
يرتبط السياق التاريخي لقيام إمارة بورغواطة بتعيين عبيد الله بن الحبحاب عاملًا على المغرب من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، لما عرف عن عزمه وكفايته في إدارة شؤون مصر، فامتثل ابن الحبحاب لأمر سيده ورحل إلى المغرب، ليسند فيما بعد ولاية سوس بما في ذلك منطقة تامسنا إلى ولده إسماعيل، في حين ولى عمر بن بعد الله المرادى على طنجة وما يليها من المغرب الأقصى، وعُرف عمر بشدة تعصبه للعرب على الأمازيغ، فاستفز مشاعرهم ما دفع هؤلاء إلى الخروج عليه.
العداء بين العرب والأمازيغ ونشأة “البورغواطية”
يرى عبد العزيز السالم أن خروج بورغواطة عن الدين الإسلامي وتعاليمه وتشريع ملوكها لعقائد جديدة، هي مزيج من أديان ومذاهب مختلفة، يؤكد فقر الفكر الإسلامي الصحيح عند سكان تلك المناطق وسطحية ما كانوا يعرفونه عنه، وعدم تعمقهم في فهم الشريعة الإسلامية بسبب حداثة عهدهم بالإسلام وضحالة ما تعلموه على فقهاء المسلمين في أصوله وقواعده.
في ذلك الوقت، يسترسل المؤرخ الإسلامي: “كان الخوارج قد شرعوا في التسلل إلى عمق البلاد المغرب لبعدها عن دائرة نفوذ الخلافة الأموية في المشرق الإسلامي، وبدأوا يبثون تعاليمهم التي تدعو إلى المساواة بين جميع الأجناس، مستغلين في ذلك العداء بين العرب والأمازيغ في المغرب، والنزاعات العصبية بين العرب القيسية والعرب اليمينية” حسب ما ورد في كتاب “من جديد حول بورغواطة: هراطقة المغرب في العصر الإسلامي“.
مؤسس “بورغواطة”.. يهودي اعتنق الإسلام
أجمع فريق من الباحثين على أن طريف، مؤسس دولة بورغواطة، هو نفسه طريف الذي عبر إلى الأندلس في سنة 91 هجرية على رأس حملة استطلاعية سبقت عبور جيش طارق بن زياد، وهو نفسه الذي تسمّت جزيرة طريف باسمه.
طارق بن زياد
لكن عبد العزيز السالم يرى أنه “ليس من المنطقي أن نربط بين طريف صاحب الحملة الاستطلاعية إلى الأندلس، وطريف مؤسس دولة بورغواطة الذي ظهر كحاكم سياسي فيما يقرب من عام 127 هجرية، لمجرد اشتراكهما في نفس الاسم”، مضيفًا “فقد يتفق أكثر من شخص في حمل اسم طريف في فترة زمنية متعاصرة أو متقاربة، وليس بالضرورة أن ينفرد شخص واحد بحمل اسم طريف خلال فترة زمنية تبلغ نحو ثلث القرن”، بالتالي يخلص الباحث إلى أن طريف اسم لشخصين مختلفين.
يعتقد صاحب كتاب “هراطقة المغرب” أن طريف مؤسس دولة بورغواطة كان أندلسيًا من أصل يهودي ومن برباط بالذات واعتنق الإسلام منذ بداية الفتح الإسلامي للأندلس ثم تحول نسبه البرباطي على لسان الأمازيغ إلى النسب البورغواطي.
صالح.. نبي وساحر ومهدي منتظر
أما نجله صالح بن طريف فقد ادعى النبوة، “فكان رجلًا خبيثًا يهودي الأصل، من ولد شمعون بن يعقوب عليه السلام، نشأ ببرباط من بلاد الأندلس، ثم رحل إلى المشرق، واشتغل بالسحر، فجمع منه فنونًا كثيرة” وفق ما جاء في وصف ابن أبي زرع في كتاب “الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس”.
صالح بن طريف
ويمضي المؤرخ المغربي في وصف صالح: “وقدم إلى المغرب فنزل بلاد تامسنا، فوجد بها قبائل من البربر، فأظهر لهم الإسلام والزهد والورع، وأخذ بعقولهم واستمالهم بسحره ولسانه، فأراهم من تمويهاته فاستغواهم بذلك وأقروا بفضله واعترفوا بولايته، ووقفوا عند أمره ونهيه، فادعى النبوة وتسمّى بصالح المؤمنين، وقال لهم: أنا صالح المؤمنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز الذي أنزله على محمد عليه السلام”.
يُفطرون رمضان ويُصلّون عشر مرات
كان من الضلال الذي شرع لهم صالح بن طريف، أنهم يصومون شهر رجب ويفطرون رمضان، وفرض عليهم عشر صلوات: خمس بالليل وخمس بالنهار، وأن الأضحية واجبة على كل من تبعه في الحادي والعشرين من شهر محرم، وشرع لهم في الوضوء غسل السرّة والخاصرتين، وصلاتهم إيماء لا سجود فيها، ويسجدون في آخر ركعة خمس سجدات ويقولون عند الطعام والشراب “باسم ياكش” (ياكوش Yakuc) وهو اسم الله كما كان سكان بورغواطة يقولونه بالأمازيغية.
صار سكان بورغواطة أعلم الناس بالنجوم وأحذقهم بالفضاء، وكانوا أجمل الناس رجالًا ونساءً، وكان يحلّ للرجل البورغواطي أن يتزوج ما شاء من النساء، لكن بنات عمه حرام عليه، ويحل له أن يطلق ويراجع زوجته ما شاء من المرّات في اليوم، فلا تُحرّم عليه بعد ثالث طلاق كما شرّع بذلك الإسلام.
قرآن أمازيغي بثمانين سورة
أما السارق فقد أمر هذا المُتنبي بقتله حيث وجد، وزعم أنه لا يطهره من ذنبه إلا السيف، وحرم عليهم ذبح وأكل الدجاج والديكة، كما أمرهم بلحس بصاق ولاة أمرهم، فكان صالح بن طريف يبصق في أكف أتباعه فيلحسونه تبركًا ويحملون البصاق إلى مرضاهم للاستشفاء به، وزعم أنه لا حاجة للاغتسال من الجنابة إلا من الجماع خارج إطار الزواج، كما وضع لهم قرآنًا باللغة الأمازيغية يقرأونه في صلاتهم ويتلونه في مساجدهم، حيث ادعى أنه نزل عليه وحيًا من الله تعالى في ثمانين سورة، ومن شك في ذلك فهو كافر.
قرآن بروغوطة ضم سورًا بأسماء الأنبياء وغيرهم، ومنها: “سورة آدم وسورة نوح وسورة أيوب وسورة يونس وسورة موسى وسورة هارون وسورة الأسباط وسورة فرعون وسورة بني إسرائيل وسورة الديك وسورة الحجل وسورة الجراد وسورة الجمل وسورة هاروت وماروت وسورة إبليس وسورة الحشر وسورة غرائب الدنيا” حسب ما أورده أبو عبيد البكري في كتاب المسالك والممالك.
الثورة الجديدة أو صحوة الموت
يبدو إسلامًا مشوهًا طُبّع بطابع أمازيغي محلي وانطوى على أفكار شيعية، مثل ادعاء صالح بأنه المهدي المنتظر، ولعل إنشاء البورغواطيين لمذهب خاص بهم نابعًا من عدم تمكن المبادئ الصحيحة للدين الإسلامي من نفوس الأمازيغ في غرب المغرب، فكانت بعض أصول هذا الدين إسلامية وأكثرها مما تأثروا فيه بمؤثرات وثنية عريقة، إلى جانب ما استقوه من أصول عبرانية، لكنهم في جميع الأحوال كانوا يؤمنون بوحدانية الله واعترفوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من الأنبياء، إلا أنهم أضافوا شعائر غريبة عن الإسلام أو تتعارض معه وذلك كرد فعل ضد سياسة الأمويين.
الكيان السياسي لبورغواطة انتهى على يد دولة المرابطين، فلم تظهر بعد ذلك كدولة لها حكامها، حيث تمكن المرابطون من القضاء على الأفكار الدينية الخارجة عن الإسلام، لكن سرعان ما سيظهر اسم بورغواطة مجددًا في مصادر التاريخ ضمن الثوار والمتمردين، ففي سنة 543 هجرية خرج مؤسس دولة الموحدين من مراكش عبد المؤمن بن علي لإخماد ثورة بورغواطة، انهزم فيها في بادئ الأمر، لكن سرعان ما رجحت كفته فتغلب عليهم وقتل كل رجالهم ولم يُبق إلا على الأطفال منهم، فكانت ثورتهم المتجددة بمثابة صحوة الموت.