بعد تصاعد أسهمه خلال الآونة الأخيرة إلى الحد الذي توقع البعض تهيئته لما هو أكبر، الأمر الذي أثار موجة غضب عارمة لدى الشارع خشية إعادة تدوير مصطلح “التوريث” سيء السمعة، يبدو أن نجل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والضابط بجهاز المخابرات العامة سيكون خارج اللعبة قريبًا.
بعد أشهر قليلة من قفزات الترقي التي قطعها محمود السيسي بسرعة البرق من المخابرات الحربية إلى المخابرات العامة ثم الرجل الثاني في الجهاز السيادي الأكبر في البلاد، نقل موقع “مدى مصر” عن مصدرين داخل الجهاز الذي يعمل به نجل الرئيس، أنه “سيكون مبعوثًا عسكريًا لمصر لدى روسيا، والقرار اتخذ، على أن يكون تنفيذه في 2020، بعد فترة ابتعاث قصيرة لمحمود السيسي من المخابرات العامة إلى المخابرات الحربية، يليها ترشيحه للمنصب الجديد”.
وبحسب المصدرين فإن القرار “صدر قبل أيام بندب محمود لأداء مهمة عمل طويلة في بعثة مصر العاملة في روسيا، وذلك بعدما أثرت زيادة نفوذه سلبًا على والده، فضلًا عن فشله في إدارة عدد من الملفات التي تولاها” غير أنهما لم يُحددا المدة التي سيقضيها في موسكو، لكنهما اتفقا على أنها مهمة طويلة الأجل قد تستغرق شهورًا، وربما سنوات.
القرار رغم ما يحمله من مفاجأة إلا أنه جاء بعد مشاورات مطولة داخل دائرة أسرة الرئيس والمجموعة الصغيرة المحيطة بها، وعلى رأسها اللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات العامة، واللواء محسن عبد النبي مدير مكتب رئيس الجمهورية، حيث اتفق جميع المشاركين في تلك المشاورات على أن بروز اسم نجل الرئيس على السطح كأحد أهم صناع القرار في مصر، وتواتر اسمه مؤخرًا في تقارير إعلامية عربية وعالمية، أضر كثيرًا بصورة الرئيس والأسرة، بل وبات يشكل تهديدًا واضحًا لاستقرار النظام بشكل عام، وذلك بحسب الموقع المصري.
وكان نجل الرئيس قد فرض اسمه مؤخرًا على الأضواء لدوره البارز في العديد من الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية التي كان لها التأثير الأقوى في ترسيخ أركان نظام والده وتعبيد الطريق له نحو البقاء في الحكم حتى 2034، هذا في الوقت الذي تعرض فيها خلال الفترة الأخيرة لوابل من الاتهامات بالتورط في العديد من قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
الفشل في إدارة الملفات
فشل السيسي الابن في معظم الملفات التي أوكلت إليه في منصبه الجديد كانت الدافع الأساسي لإخراجه من المشهد بصورة تدريجية، يأتي على رأسها ملف الإعلام، الذي يسيطر عليه مباشرة منذ أكثر من عام، وهي الفترة التي فقد خلالها كثيرًا من تأثيره، لدرجة دفعت السيسي إلى انتقاد الإعلام علانية أكثر من مرة.
يذكر أن جهاز المخابرات العامة ومنذ 2017 سعى إلى فرض قبضته على منظومة الإعلام في مصر، متبعًا في ذلك عددًا من الإستراتيجيات على رأسها الغلق والدمج وشراء نوافذ جديدة، هذا بخلاف دفع بعض رجال الأعمال الموالين لاحتكار سوق الإعلام بما يخدم مصالح النظام الحاكم.
ومع بداية العام الماضي بات الجهاز مالكًا لشبكة “دي إم سي” ومجموعة قنوات “أون” وتليفزيون “الحياة” وتليفزيون “النهار”، بالإضافة إلى حصة حاكمة في قنوات “سي بي سي”، فضلًا عن راديو “9090”، وعدد من المواقع الصحفية منها اليوم السابع وصوت الأمة والدستور وغيرها.
ثم يأتي ملف الفنان المقاول محمد علي، الذي فشل نجل السيسي وفق مصدري المخابرات، في التعاطي معه، الأمر الذي وسع دائرة التعاطف مع التسريبات التي كشفها المقاول بشأن فساد بعض مشروعات القوات المسلحة، وهو ما أسفر عن استجابة عشرات آلاف المصريين لدعوات النزول في 20 من سبتمبر الماضي، وهي الخطوة التي هزت أركان النظام بأكمله، كونها جاءت في الوقت الذي توهم فيه بأن الأمور جميعها تحت السيطرة، فضلاً عن الشعارات المرفوعة التي كان على رأسها “ارحل يا سيسي”.
الرئيس يوافق على إبعاد نجله من المخابرات بعد سلسلة إخفاقات وأزمات داخلية هددت “استقرار النظام”
ومما عزّز من مظاهر الفشل كان إستراتيجية التعامل مع كرة الثلج المتدحرجة بسبب حراك 20 من سبتمبر، حيث فتح محمود الباب على مصراعيه أمام الاعتقال والتنكيل بمن شاركوا في التظاهرات، وهي الممارسات التي وضعت النظام في موقف حرج عالميًا وداخليًا، لا سيما بعد اعتراف النائب العام رسميًا بأن عدد من اعتقلوا تجاوز الألف مواطن وهو ما أسقط ادعاءات الداخلية الكاذبة.
وبينما كان يسعى السيسي نفسه لتجنيب التناول الإعلامي لأفراد أسرته لما في ذلك من تداعيات سلبية على صورته الخارجية، زج نجله بالعائلة كلها في مرمى الإعلام لا سيما الأجنبي منه، وذلك بعد الحركة الفاشلة التي قام بها الإعلامي المقرب من النظام، عمرو أديب، لإبعاد اتهامات ملكية محمود السيسي لمجموعه صيدليات 19011.
أديب روج في حلقة برنامجه “الحكاية” التي أذيعت في 22 من سبتمبر، لاستضافة “محمود عبد الفتاح السيسي”، وعلى الفور انبرت وسائل إعلام عدة لنشر خبر استضافة نجل السيسي لأول مرة، غير أن الأمور لم تكن كذلك، ليتضح بعدها أن المقصود هو العضو المنتدب لمجموعة الصيدليات التي انتشر حديث عن ملكية المخابرات لها.
الخطوة إن هدفت إلى نفي تهمة امتلاك نجل السيسي لتلك الصيدليات وتوجيه ضربة للإعلام التابع لجماعة الإخوان المسلمين إلا أنها جاءت بردة عكسية، حيث فتحت المواقع الإعلامية الخارجية النار على أسرة السيسي التي سُلط الضوء عليها وهو ما أثار حفيظة الرئيس ودائرته المقربة.
وعلى المستوى التنفيذي داخل جهاز المخابرات فهناك حالة من التوتر بسبب سياسات نجل الرئيس وإستراتيجيته في إدارة الأمور، خاصة عقب عملية التطهير التي شنها منذ وصوله للجهاز، حيث أطاح بمجموعة من كبار العاملين في الجهاز بدعوى أنهم “رجال عمر سليمان (الرئيس السابق للمخابرات العامة في وقت الرئيس حسني مبارك) ولا ولاء لهم للدولة الجديدة”، وفق المصدرين.
خارجيًا.. فشل السيسي الابن في تحقيق أي إنجاز في عدد من الملفات الخارجية التي تولاها، وهو ما أغضب السيسي الذي قلص صلاحياته وصلاحيات رئيس جهاز المخابرات نفسه، عباس كامل، رغم العلاقة الوطيدة التي تجمعه به، وهو ما تترجمه بعض الشواهد منها أنه لم يرافق وزير الخارجية سامح شكري، في عدد من المهام التي كلف بها، التي كان بعضها معلنًا، فيما يتعلق بملف سد النهضة، وبعضها غير معلن، فيما يتعلق بملف العلاقات الخارجية.
وإزاء سلسلة الإخفاقات المتتالية لمحمود، توصلت المناقشات العديدة التي دارت في دائرة الرئيس الصغيرة إلى ضرورة إخراج نجل السيسي من المشهد بشكل لائق، يهدئ من حدة الانتقادات الموجهة إليه، وفي نفس الوقت يمنحه الفرصة لاكتساب خبرات جديدة، وهو السيناريو الذي نال رضا وموافقة الرئيس السيسي على الفور، ليختار أن يكون قرار النقل إلى روسيا التي تتمتع بعلاقة صداقة قوية مع مصر، فضلًا عن إعجاب المسؤولين بنموذج وخط بوتين السياسي.
الفنان المقاول محمد علي
إبعاد الذراع اليمنى لـ”عباس كامل”
تزامنًا مع خروج نجل السيسي المفاجئ الذي شكل صدمة للكثيرين كشف أحد مصدري المخابرات العامة عن صدور قرار إبعاد مماثل، بحق المقدم أحمد شعبان، الضابط بالجهاز، الذي برز اسمه لسنوات كأحد مهندسي ملف الإعلام، بإرساله للعمل خارج مصر وتحديدًا في بعثة مصر باليونان، وذلك بعد شهور قليلة من صدور قرار بإنهاء خدمته بالقوات المسلحة.
ويعد شعبان الذراع اليمنى لكامل، الذي أثار موجة من الغضب بسبب تفرّده بالقرارات التي تتسم بالتخبط، ما أدى إلى خسائر في مجال الإعلام وغيره من الملفات التي يديرها ويتدخل فيها بطريقة فجة ومن دون دراسة، ومن ثم وقع الاختيار على إبعاده عن الجهاز خلال المرحلة القادمة.
بعض المصادر الإعلامية كشفت أن إخفاق شعبان في إدارة عدد من الشؤون المتعلقة بالعلاقات المصرية – الإماراتية ساهم في توليد احتقان كبير ضده، وهو ما دفع نجل السيسي إلى طلب تقرير رُفع بالفعل إلى مكتب الرئيس عن إخفاقات الرجل، في عدد من الملفات، في خطوة اعتُبر أنها ستقضي على المقدّم.
التسريبات تذهب إلى أن المقدم بات قاب قوسين أو أدنى من الرحيل، وتحديدًا عند انتهاء “منتدى شباب العالم” بنسخته الثالثة التي تُقام الشهر المقبل في شرم الشيخ، ويشرف هو على تنظيمه مباشرة عبر شباب “البرنامج الرئاسي” الذين اختارهم بنفسه ويتابع ما يقومون به.
قبل أشهر قليلة ما كان يمكن للرئيس أن يستمع لأي مقترح يطالبه بإبعاد نجله خارج البلاد، وتنحيته عن المشهد قليلًا، وهو الذي دفع به إلى مركز دائرة النفوذ في فترة استثنائية
العديد من المؤشرات تؤكد أن الذراع اليمنى لرئيس جهاز المخابرات العامة يفقد نفوذه رويدًا رويدًا، فلم تعد له الكلمة العليا في الملفين الإعلامي والفني كما كان في السابق، لا سيما بعدما أخفقت خططه المتتالية، بداية من شبكة قنوات “dmc” التي أطلقها، وصولاً إلى إدارته بقية المحطات التي تم الاستحواذ عليها خلال العامين الماضيين، وسُجّل عزوف المصريين عن متابعتها، الأمر الذي دفع القائمين عليها إلى تقديم محتواهم عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بإعلانات مدفوعة الأجر.
مؤشر آخر يتعلق بإعادة تعاون جهاز المخابرات مع الخبراء والمتخصّصين الذين جرى إقصاؤهم في السنوات الماضية لمصلحة “أهل الثقة” الذين استعان بهم شعبان من دون أن يُفلحوا في مهامّهم، وهو ما يعد ضربة موجعة له خاصة بعد فشل محاولاته لتشويه صورة المخضرمين منهم أمام الرأي العام عبر إثارة موضوعات قديمة، ساعده في ذلك سيطرته على بعض المواقع الإعلامية.
هذا بجانب عودة الشراكة الإنتاجية بين “إعلام المصريين” التي تمتلكها المخابرات و”العدل غروب” التي عوقبت العام الماضي ومُنعت من العمل بقرار شخصي من شعبان، ومن المقرر وفق ما ذهبت المصادر إلى أن “العدل غروب” لن تعود بمفردها، بل إلى جانبها شركات أخرى بالشراكة مع “إعلام المصريين” وليس كإنتاج منفرد، وهذا تنازل كان يرفض المقدم تقديمه قبل ذلك.
السيسي وعباس كامل
4 دلالات
كشفت تلك التصريحات التي نقلها “مدى مصر” ومواقع أخرى عن مصادر خاصة داخل جهاز المخابرات العامة عن حزمة من الدلالات ربما تعيد رسم خريطة العقل السياسي والتوعوي للمجتمع المصري الذي ظل طيلة السنوات الماضية أسير تصورات جاهزة تصب جميعها في نجاح نظام السيسي في إحكام قبضته على المشهد برمته.
الدلالة الأولى التي كُشف النقاب عنها حالة القلق التي تسيطر على دائرة السيسي الضيقة، التي تجلت في عدد من المناسبات الأخيرة لعل آخرها مؤتمر الشباب الأخير الذي عقد ردًا على تسريبات محمد علي، حيث بدا الرئيس قلقًا متوترًا على غير عادته لا سيما بعد تجاوب الشارع غير المتوقع مع المعلومات التي كشفت خاصة المتعلقة ببناء عدد من القصور الرئاسية في الوقت الذي يعاني فيه الشعب من تقشف واضح.
قبل أشهر قليلة ما كان يمكن للرئيس أن يستمع لأي مقترح يطالبه بإبعاد نجله خارج البلاد وتنحيته عن المشهد قليلًا، وهو الذي دفع به إلى مركز دائرة النفوذ في فترة استثنائية، ومن ثم فإن قبوله بفكرة كهذه تعكس وبشكل كبير حالة القلق التي تسيطر عليه بشأن مستقبله السياسي الذي يرى أن نجله ربما يضعه على المحك بسبب تصرفاته الأخيرة.
الدلالة الثانية تتعلق بحالة من التململ داخل جهاز المخابرات العامة، وهو الجهاز السيادي الأكبر في الدولة، ورغم موجات التصفية والتطهير التي قام بها السيسي وكامل ومن بعدهم محمود، فإن حالة من الغضب لا تزال تسيطر على قطاع كبير بداخله بسبب ممارسات نجل الرئيس.
تضحية السيسي بنجله ذي النفوذ الأكبر واستجابته لمقترح الإمارات يعد اعترافًا ضمنيًا وصريحًا بالفشل في مواجهة صحوات المعارضة المتباعدة
يذكر أن جهاز المخابرات العامة طالما شكل قلقًا كبيرًا للسيسي (ابن المخابرات الحربية) الذي سعى لسحب البساط من تحته طيلة السنوات الماضية وهو ما أثار حفيظة قطاع كبير بداخله، ولذا كان اختيار مدير مكتبه المقرب عباس كامل لرئاسته ضربة موجعة أراد من خلالها التخلص من هذا الصداع الذي يبدو أنه لا يزال موجودًا.
أما الدلالة الكبرى التي كشفتها تلك التسريبات فهي تتمثل في تغلغل النفوذ الإماراتي في المشهد الداخلي المصري، حيث جاء مقترح تنحية نجل السيسي من المشهد بإيعاز إمارتي صرف، حيث نقل الموقع المصري عن مصدر مقرب من حكام أبو ظبي، مفسرًا اقتراحهم على السيسي إبعاد ابنه عن المشهد السياسي قوله: “كان تقديرنا أن دور محمود السيسي في دوائر الحكم أصبح مثيرًا للمشاكل بصورة تُسيء لشعبية الرئيس داخل أروقة السلطة، وكانت النصيحة أنه لا ينبغي أن يكون للابن ظلال على وضعية رئيس الدولة، في تكرار لحالة جمال وحسني مبارك”.
تتشابك هذه الدلالة مع حزمة من مؤشرات التقارب الواضحة بين نظام السيسي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، الذي تربطه علاقات قوية بدائرة الرئيس، تجاوزت البروتوكولات السياسية إلى توغله في مفاصل الدولة المصرية لا سيما الجانب الاقتصادي بها، هذا بجانب سيطرته بشكل كبير على حصة ليست بالهينة في كعكة الإعلام الذي يسعى جاهدًا لتنفيذ أجندة أبناء زايد في المنطقة.
وفي الأخير فإن تضحية السيسي بنجله ذي النفوذ الأكبر واستجابته لمقترح الإمارات يعد اعترافًا ضمنيًا وصريحًا بالفشل في مواجهة صحوات المعارضة المتباعدة، التي رغم خفوت بريقها يبدو أنها أقلقت مضاجع السلطات الحاكمة التي كانت تعتقد أنها وبشكل نهائي نجحت في غلق منافذها كافة.