منذ الأيام الأولى للتدخل الروسي في سوريا، هيمنت موسكو على الكثير من مفاصل الدولة السوريّة الاقتصادية والسياسية، ولم يكن ذلك ليحصل لولا تقديم هذه الموارد من قبل نظام الأسد الذي يدفع بخيرات البلد مقابل حمايته. حتى أن روسيا وصلت بتدخلها حد مناهج التعليم وتدريس لغتها في مختلف قطاعات التعليم، يأتي ذلك بعد سيطرتها على الغاز وتحكمها في التنقيب عنه، بالإضافة إلى توقيعها عقودًا طويلة الأمد لاستئجار الموانئ.
إلا أن موسكو لم تتوقف عند هذا الحد، إذ تشير التقارير إلى أنها تتجه نحو الآثار في البلد الذي تعاقبت عليه الحضارات، ويوجد فيه الكثير من الأماكن الأثرية. بدأ ظهور الاهتمام الروسي بالآثار السورية خلال المعركة ضد تنظيم “داعش” الذي سيطر على تدمر ودمّر العديد من معالمها الأثرية. وإلى جانب قوات النظام السوري دخل الجيش الروسي إلى تدمر بعد معارك عنيفة وأقام قاعدته العسكرية، ولم يقتصر الأمر على موسكو بل تجري المنافسة بينها وبين طهران على معالم البلد الحضارية طمعًا بالمال وتشويه التاريخ.
التنقيب عن الآثار في المياه
بدأ علماء آثار شبه جزيرة القرم التي أعادت روسيا ضمّها إليها في السنوات الأخيرة، بعثة استكشافية أثرية تحت الماء في سواحل سوريا، وقال رئيس قسم بجامعة “سيفاستوبول” الحكومية، فيكتور ليبيدينسكي إن لديه فرصة فريدة من نوعها لبدء البحث، وأنه أبرم بالفعل اتفاقًا مع دائرة الآثار والمتاحف التابعة لوزارة الثقافة السورية لتنظيم المهمة الأثرية”.
ويبدو أن حملة الاستكشاف قد بدأت فعليًا، إذ أن الخبراء قدموا إلى سوريا وبدأت الحملة بالفعل، ووضعت الخطط واختيرت معدات الاستكشاف الأثري تحت الماء وتمت الموافقة عليها من المختصين، وأعلن فيكتور “أن العمل الفعلي سيبدأ في الأشهر المقبلة”، وستبدأ أولى الرحلات الاستكشافية على ساحل البحر الأبيض المتوسط بمحافظة طرطوس.
وبالطبع لم يكن عبثيًا الاهتمام الروسي بمدينة طرطوس، التي تسيطر على مينائها والذي يعتبر منفذها الوحيد على المتوسط، كما أن قاعدتها “حميميم” التي تعتبر منطلق عملياتها العسكرية تتواجد فيها، ليأتي الآن دور التنقيب عن الآثار في بحرها الذي تبحث فيه موسكو عن الغاز أيضًا، وفي أحد الاتفاقيات بين موسكو ودمشق بند يسمح للروس استقبال وشحن كل ما يريدون من وإلى سوريا دون أي رقابة جمركية أو تفتيش من النظام السوري، وبذلك يكون متاحٌ للبعثات الروسية نقل أي شيء عبر الميناء الذي تسيطر عليه روسيا بدون عوائق.
وفي كانون الثاني الماضي، وقع حاكم مدينة سيفاستيبول الروسية، دميتري أوفسينيكوف، على اتفاقية للتعاون مع محافظ طرطوس، صفوان أبو سعدى، تؤسس للعلاقات بين المدينتين في المجالات التجارية والاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية والإنسانية والاجتماعية، ويتوقع العلماء الروس اكتشاف المدن الساحلية، التي لعبت دور الموانئ، خاصة في فترة الحضارة الفينيقية والعصور الوسطى التي اندثرت تحت الماء بسبب الكوارث الطبيعية.
وستركز البعثة التي تدعمها وزارة الدفاع الروسية، على دراسة طريق الملاحة القديم الممتد من شبه جزيرة القرم الروسية، إلى المراكز الرئيسية للحضارة القديمة على الساحل السوري. وسيتم تنسيق نشاطها في إطار رحلة لسفينة الدراسات المائية الروسية “دونوزلاف”، ويستخدم فريق البعثة معدات وأجهزة الغوص العميق التي تحملها السفينة.
آثار تدمر وترميمها
في عام 2016 طرحت روسيا مشروعًا لإعادة إعمار مدينة تدمر وجميع الأماكن الأثرية، من جانبها أعلنت “أكاديمية العلوم الروسية”، أن جهود بعثة الخبراء الروس التي أرسلتها إلى تدمر أثمرت عن تشكيل نموذج ثلاثي الأبعاد عن المدينة الأثرية. وكان المدير العام لمتحف أرميتاج الوطني الروسي ميخائيل بيوتروفسكي قال إن “وزارة الثقافة الروسية تعكف على إعداد اتفاقية مع متحف الإرميتاج الوطني والمؤسسات الثقافية الأخرى إضافة إلى الاتفاق مع منظمة اليونيسكو بشأن ترميم الآثار التي طالها الإرهاب في سوريا”.
الجدير بالذكر أن تنظيم “داعش”، دمّر كثيرًا من المعالم التاريخية في مدينة تدمر التي تعتبر من أهم الأماكن الأثرية التي تعود للحضارة الرومانية في مدينة حمص السورية، إلا أن التنظيم لم يكن الوحيد المتسبب في الدمار إذ أن الطائرات الروسية التي شاركت إلى جانب قوات النظام السوري بقتال التنظيم، دمرت بعضًا من الأماكن التاريخية.
وفي تقرير سابق لـ “ديلي تلغراف“، يننقل عن أعضاء في جمعية حماية الآثار السورية، قولهم إن قوات الأسد سمحت باستمرار نهب التراث مقابل الحصول على الرشوة، وقال شيخموص علي، رئيس الجمعية، التي تتخذ مركزًا لها في ستراسبورغ، “لقد ازدهر الحفر غير القانوني رغم تغير الأطراف التي تسيطر على تدمر”، مضيفًا أن “التجارة في الآثار مستمرة، ويديرها التجار أنفسهم الذين استطاعوا التعامل مع تنظيم الدولة والنظام السوري والروس، ويقومون برشوة الضباط والجنود ليغضوا الطرف عنهم”.
إلى ذلك فإن الجيش الروسي قام ببناء قاعدة عسكرية في مدينة تدمر، ضمن المدينة الأثرية المصنفة على لوائح التراث لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “الاونيسكو”، ومن دون الحصول على إذن من “السلطات المعنية”، وتحتوي القاعدة الروسية على دفاعات جوية وعربات مدرعة، بالإضافة إلى مهبط طائرات مروحية مُنشأ حديثاً
التنافس الإيراني الروسي
بدأت مؤخرًا الميليشيات الإيرانية وعلى رأسها ميليشيا النجباء وفاطميون حملة تنقيب جديدة عن الآثار في المنطقة الأثرية في مدينة تدمر وصحرائها الشرقية الممتدة باتجاه دير الزور، وبحسب صحيفة “القدس العربي“، تم رصد آليات للحفر استقدمتها الميليشيات إلى المنطقة مع حظر على المناطق التي تنقب فيها، وتعرضت لجنة من مديرية المتاحف والآثار السورية للاعتداء من قبل الميليشيات، بعد محاولتها الدخول إلى منطقة المدينة الأثرية.
إلى ذلك لم يتوقف التنافس في نهب الخيرات السورية بين روسيا وإيران فمن نهب النفط والغاز والسيطرة على المنافذ الحدودية، إلى المعالم التاريخية لحضارات البلد، وأشارت تقارير إلى عمليات إيرانية تتم عن طريق خبراء للتنقيب عن الآثار ضمن 16 موقعاً أثرياً في مدينة درعا في الجنوب السوري، وبحماية من قوات الفرقة الرابعة المقربة بشكل كبير من إيران وميليشياتها.
من جهته، قال رئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، أسامة قاضي، إن “التوجه الروسي نحو آثار تدمر، يوضع في خانة الصراع الروسي-الإيراني على النفوذ في سوريا”، مضيفًا: “إلى جانب أهمية تدمر كواجهة حضارية، فإن موقعها القريب من مناجم الفوسفات وحقول الغاز، يجعلها أولوية لدى روسيا، ومن هنا تحاول موسكو إرسال رسائل لإيران فحواها أن الحاكم الفعلي لسوريا والمتحكم بقرارها السياسي والاقتصادي هي روسيا بامتياز”.
إلى ذلك وفي مسيرة الأزمة السورية، تعرضت آثار البلاد للنهب والتدمير من كافة الأطراف، وكانت الحرب سبيلًا مربحًا لتجار الآثار العالميين الذي استفادوا من القطع والمجسمات التاريخية، ولم تسلم أي منطقة من النبش والتهريب بدءًا من درعا والسويداء في جنوبي سوريا إلى شمالي البلاد حيث تسيطر المارضة المسلحة والتي هي الأخرى بدورها وبصفقات سرية تتاجر بآثار البلاد لتمويل نفسها.