نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، مؤخرًا، مقالًا بعنوان صارخ: “الجيل الأكثر وحدة”، جادل مؤلفوه بأننا في خضم وباء يشعر فيه الناس بالوحدة أكثر من أي وقت مضى. كما جرت العادة، مثل الأفراد غير المتزوجين مركز الاهتمام والحجة هنا بسيطة: وهي أن العازبين الذين ليس لديهم أحد في حياتهم يلجأوا إليه في أوقات الحاجة، هم أكثر وحدة من المتزوجين.
مع ذلك، يخلط مؤلفو التقرير بين الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم وأولئك الذين يشعرون بالوحدة، حيث أن الإحصائيات التي يستشهدون بها عن شعور الناس بأنهم وحيدون لا ترتبط في الأغلب بالناس الذين يعيشون بمفردهم. وتشير الإحصائيات، على سبيل المثال، إلى أن “واحدًا من كل 11 أمريكيًا في سن 50 وما فوق يفتقر إلى قرين أو شريك أو طفل على قيد الحياة”، وذلك استنادًا إلى مكتب تعداد الولايات المتحدة. لكن فشل المؤلفون في إثبات أن هذه الأرقام ترتبط “بالمشاركين الذين أفادوا بأنهم يشعرون بالوحدة غالبًا” والتي أخِذت من المسح الاجتماعي (8.3 بالمئة ضمن طفرة المواليد و5.6 بالمئة ضمن الجيل إكس)، علما بأن أولئك الذين أبلغوا عن شعورهم بالوحدة قد يكونون متزوجين.
بدلا من ذلك، اعتمد مؤلفو المقال الرسوم البيانية للدراستين الاستقصائيتين في إطار موحّد، كما لو أنهما مرتبطتان. لكن في الواقع، تستند نتائج الدراستين إلى مجموعتين مختلفتين ولا يمكن مقارنتهما أو اعتمادهما معًا.
العازبون في الحقيقة اجتماعيون للغاية
تكشف نظرة خاطفة على البيانات الموجودة شيئًا قد يفاجئ مؤلفي مقالة “وول ستريت جورنال”، وهي أن الأشخاص غير المتزوجين وخاصة المستقلين على المدى الطويل هم الأفراد الأكثر إنشاءً لشبكات من العلاقات والأكثر نشاطًا اجتماعيًا. ومع أخذ جميع المتغيرات الأخرى بعين الاعتبار (العمر والجنس والتعليم والدخل وما إلى ذلك)، أظهر تحليلي لأكثر من 300 ألف شخص من 31 دولة أن الأرامل والمطلقين وغير المتزوجين يجتمعون مع أصدقائهم بنسبة 17 و20 و45 بالمئة على التوالي، بشكل أكثر تواترا مقارنة بأقرانهم المتزوجين. أما أولئك الذين يختارون الزواج، فيقعون في ما يسميه الباحثون الزواج “الشحيح”، حيث يكرس الأزواج معظم وقتهم لعائلاتهم ويقطعون العلاقات مع الأصدقاء والأقارب. وهذا بدوره يجعلهم يشعرون في الغالب بالوحدة أكثر من العازبين.
تعتبر الوحدة مشكلة منفصلة عن العزوبية. وفي الواقع، قد تكون العزوبية هي الحل
مما لا شكّ فيه، أن مجلس الشيوخ الأمريكي كان محقا بشأن تنظيم جلسة استماع للتركيز على عواقب العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة. وتستحق رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الثناء لترشيحها وزيرا لشؤون الوحدة. على الرغم من ذلك، تعتبر الوحدة مشكلة منفصلة عن العزوبية. وفي الواقع، قد تكون العزوبية هي الحل، وهو أمر مفاجئ بقدر ما قد يبدو.
حسب جون كاتشوبو، مؤلف كتاب “الوحدة” – وهو واحد من الكتب الأكثر شمولا حول هذا الموضوع- فإن “البقاء وحيدا والشعور بالوحدة غير متشابهان، لكنهما موصومان في مجتمعنا … والأشخاص الذين يفضّلون العزلة يبحثون عن العلاقات بدافع الشعور بالذنب – لكنهم يشعرون بالذنب حتى بمجرد دخولهم في علاقة. أما الشخص العازب السعيد فيتمتع بصحة جيدة تماما مثل أي شخص متزوج سعيد”. ويمكننا إدراك دقة ملاحظات كاتشوبو من خلال النظر إلى العديد من التعليقات على تقرير صحيفة “وول ستريت جورنال”، حيث أن العديد من القراء غير المتزوجين أفادوا بأنهم سعداء بالوحدة.
قد يكون العازبون هم الحل
عند مقارنة الاختلافات في السلوك الاجتماعي بين الأزواج بين سنة 1980 و2000، وجد الباحثون أن احتمال مشاركة الأزواج في سنة 2000 في مجموعة واسعة من الأنشطة الاجتماعية -بما في ذلك زيارة الأصدقاء والعمل على الهوايات المشتركة والخروج- كان أقل مقارنة بمجموعة 1980. وفي الوقت نفسه، أصبح الأفراد غير المتزوجين ماهرين أكثر في بناء الشبكات الشخصية.
بناء على ذلك، من الواضح أن الأفراد المتزوجين هم أولئك الذين أصبحوا أكثر عرضة لمخاطر الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية مع مرور الوقت، وليس الأفراد غير المتزوجين. في المقابل، يبدو أن الأفراد العازبين الذين يتزايد عددهم كانوا يتأقلمون بل ويزدهرون في العقود الأخيرة. وهذا يعني أن الاتجاه المتزايد للأشخاص الذين يفضلون الوحدة قد يكون مصدرا للأمل وليس لليأس. ويكمن التفسير وراء هذا الاتجاه الملحوظ في ما يطلق عليه الباحثون وصف الأفراد “المتصلين بالشبكات”.
ازداد دور الصداقة في الحياة اليومية بين العزاب، وأصبحت شبكات العلاقات الاجتماعية هي من تقدم الدعم
في حين كانت الأسرة ذات يوم تمثل الركن الأساسي لنظام دعم الفرد، حدث تحول نحو تنظيم المرء لحياته حسب وحدات التواصل الشخصية. ازداد دور الصداقة في الحياة اليومية بين العزاب، وأصبحت شبكات العلاقات الاجتماعية تقدم الدعم الذي اعتادت الأسرة على تقديمه. وتُوحّد دوائر الدعم العدد المتزايد من الأفراد المتصلين بهذه الشبكات.
في المقابلات التي أجريتها من أجل كتابي “العزوبية السعيدة”، استنتجت أن العديد من العزاب يمتلكون شبكات اجتماعية قوية من شأنها أن تدعمهم في حياتهم اليومية وفي أوقات الحاجة. حيال هذا الشأن، أخبرني فيل، وهو رجل عازب يبلغ من العمر 47 سنة من ولاية إنديانا: “أمتلك مجموعة واسعة من الأصدقاء، ولدي شبكة من الأشخاص الذين بإمكاني رؤيتهم والتواصل معهم بشكل مستمر”.
في بعض الأحيان، شكّلت هذه الأنواع من الشبكات السبب وراء تطلّع هؤلاء العزاب إلى البقاء لوحدهم في نهاية اليوم، حيث أنهم عندما يعودون إلى المنزل بعد أمسية مليئة بالضحك والفرح مع الأصدقاء، تكون فرصة موازنة ذلك الفرح مع بعض الوقت الهادئ الشيء الوحيد الذي يحتاجون إليه.
إن بقاء الشخص بمفرده لا يعني أنه وحيد أو أنه يرغب في الارتباط.
سألْت سارة ذات 44 سنة عما إذا كانت تشعر بالوحدة باعتبارها عزباء. فأخبرتني عن أكثر التجارب التي مرت بها وحدة، لكنها أشارت إلى أنها شعرت بالسلام حتى في ذلك الوقت: “أمضيت 17 يومًا في إسكتلندا، وكنت بمفردي لكنني لم أكن وحيدة. كانت هناك أيام وجدت فيها أشخاصا تحدثت معهم، لكنني لم أرَ شخصًا ما على الطريق في معظم الأوقات. لقد استمتعت بالمكوث لوحدي”. قد يفسر هذا التصريح الرائع بعض الدراسات التي تشير إلى وجود علاقة بين الشعور بالوحدة والعزوبية، باعتبار أن بقاء الشخص بمفرده لا يعني أنه وحيد أو أنه يرغب في الارتباط.
في دراسة أجريت على ألف طالب، أظهر الباحثون أن الطلاب كانوا متحيزين بشدة ضد العزاب، ووصفوهم بأنهم وحيدون وغير اجتماعيين. لذلك، لا عجب في أن بعض العزاب يستوعبون هذه الصور النمطية ويخضعون لها إذا طُلب منهم ذلك. ومع ذلك، تكمن الحقيقة في أن العزاب يتصرفون بشكل مختلف تمامًا عن التوقعات الاجتماعية المفروضة عليهم.
في إحدى الدراسات الطولية، طُلب من أكثر من ألفي مشارك في الاستبيان وصف جودة علاقاتهم مع الأصدقاء والعائلة، فضلا عن تواتر اللقاءات الاجتماعية التي يخوضونها على مدار ست سنوات. وفي وقت أخذ العينات الأولى، كان جميع المشاركين عازبين وتحت سن الخمسين. في النهاية، قُسّمت العينة إلى ثلاث مجموعات ضمّت العزّاب، والأشخاص الذين يعيشون علاقة لمدة أقل من ثلاث سنوات، والأشخاص الذين يعيشون علاقة مدتها من أربع إلى ست سنوات. وقد تبين أن أولئك الذين ظلوا عازبين قضوا المزيد من الوقت مع الأصدقاء والعائلة والأقران والجيران.
لقد حان الوقت حقًا للتوقف عن إلقاء اللوم على العزاب لبقائهم وحيدين
يوجد سبب وراء اختيار عدد متزايد من الناس في جميع أنحاء العالم البقاء عزابا. في الولايات المتحدة، من المتوقع أن لا يتزوج ما يقرب من ربع الشباب أبدًا، وفي أوروبا، تجاوزت نسبة المنازل المؤلفة من شخص واحد في العديد من المدن الكبرى 50 بالمئة بالفعل. توجد العديد من التفسيرات لهذه الأرقام، ولكن يجب أن نسأل أنفسنا عمّا إذا كان هؤلاء العزاب لا يمانعون التواصل عن طريق شبكات العلاقات الاجتماعية دون ارتباطهم بشخص ما.
يبدو أنه إذا أصبح العالم أكثر توجهًا للعزوبية، كما يوضح مؤلفو مقالة “وول ستريت جورنال” بحق، فقد يكون لدينا بالفعل سبب للأمل. يعتبر هؤلاء العزاب أكثر عرضة للتكيف الاجتماعي والتواصل والتطوع. لقد حان الوقت حقًا للتوقف عن إلقاء اللوم على العزاب لبقائهم وحيدين.
المصدر: سايكولوجي توداي