عادة ما يكون رؤساء الدول وملوكها، عنوان أمن البلاد وسلامتها ورمز وحدتها وسيادتها، لكن في المثال الذي سنتحدّث عنه اليوم في هذا التقرير، كان الرئيس أداة لتمزيق وحدة الدولة والشعب وسببًا مباشرًا في عودة “الغزاة” بعد خروجهم من البلاد.
نتحدث عن رئيس الصومال الأسبق “سادي بادي” الذي حكم الصومال على ظهر الدبابات، وتحولت البلاد خلال فترة حكمه ساحة مفتوحة لتجارة المخدرات والسلاح والقرصنة الإقليمية والدولية، ولعمل مخابرات دول أجنبية أتت بها الأطماع إلى ربوع القرن الإفريقي.
انقلاب يقوده إلى الحكم
“سياد.. يا قائدنا المنتصر.. يا نبع المعرفة، يا أشجع الشجعان.. لقد مضيت بنا على طريق الازدهار الاشتراكي، حيث البهاء والأنوار الساطعة. إن شبابنا وشغيلتنا يتضافرون.. يقفون إلى جانب ثورتهم.. يعتدّون بما سيصدر عنها”.
هذه بعض كلمات نشيد “القائد المنتصر محمد سياد بري”، الذي كان واجبا على التلاميذ في مدارس الصومال ترديده كلّ صباح في الطابور المدرسي، والموظفون في أعمالهم، وحتى رواد دور السينما قبل بداية كل فيلم.
تولى سياد بري الحكم في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1969، على إثر انقلاب عسكري نفّذه هو وكل من اللواء صلاد جبيري خيديي وقائد الشرطة جامع قورشيل، بعد مرور يوم فقط على تشييع جنازة عبد الرشيد شرماركى رئيس الجمهورية الذى اغتيل فى 15 تشرين الأول/ أكتوبر بيد أحد رجال الشرطة أثناء جولة كان يقوم بها في مناطق الجفاف في شمال الصومال.
شكّل بري في ذلك الوقت مجلسًا أعلى للثورة، كانت أولى قرارات المجلس الثوري تغيير اسم البلاد إلى جمهورية الصومال الديمقراطية، إلا أنه وفي تناقض واضح كان أول أعماله إلقاء القبض على أعضاء الحكومة المدنية السابقة، وحضر الأحزاب السياسية، وحل البرلمان والمحكمة العليا، وتعليق الدستور.
عُرف نظام سياد بري الذي استمر 21 عاما، بأنه واحدا من أسوأ الأنظمة في مجال حقوق الإنسان في إفريقيا
تولى بري الحكم عن عمر ناهز 50 سنة، حيث ولد يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 1919 في شيلابو بمنطقة الأغادين، وهو ينحدر من قبيلة دارود. تلقى تعليمه الأساسي في مدينة لوق جنوب الصومال، ثم انتقل إلى العاصمة مقديشو التي كانت تحت سيطرة الاستعمار الإيطالي، وانضم إلى الشرطة الإيطالية، ثم انتقل إلى إيطاليا ودرس لمدة سنتين في مدرسة للشرطة.
بعد ذلك، عاد سياد بري إلى الصومال وانضم إلى الجيش وتدرج في المناصب حتى كان نائب قائد الجيش الصومالي عند استقلال الصومال عام 1960. وفي نفس العام اشترك في تدريبات مشتركة مع الاتحاد السوفيتي تعرف خلالها على المبادئ الاشتراكية والنزعة القومية وتبناها.
سجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان
بعد تمكّنه من السلطة، شكل سياد بري حكمًا عسكريًا صارما جاء عقب فترة من الحكم المدني الذي استمر قرابة تسع سنوات، فوأدا بذلك تجربة الحكم المدني دون أن تتاح لها الفرصة كاملة لجني ثمارها السياسية.
في تلك الفترة، اختصر حاكم الصومال الجديد السلطة كلها في يده بشكل أضر بمستقبل البلاد، فأصبحت البلاد تحت حكم نظام عسكري استبدادي يتّخذ من الشيوعية فكرا، حتى أنه سهر على صور ماركس ولينين في الشوارع والأماكن العامة.
عُرف نظام سياد بري الذي استمر 21 عامًا، بأنه واحدًا من أسوأ الأنظمة في مجال حقوق الإنسان في أفريقيا، فقد كانت الحكومة زمن حكمه في حالة حرب دائمة مع الشعب، خلالها تم ارتكب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان خاصة في المناطق الشمالية للبلاد.
من بين تلك الانتهاكات، تعرّض السكان والبدو الذين يعيشون في الريف وفي المناطق الحضرية لعمليات القتل والاعتقال التعسفي والاحتجاز في ظروف بائسة، والتعذيب والاغتصاب. كما استخدم نظام بري سلسلة إجراءات عقابية ضد السكان من خلال القيود على حرية التنقل والتعبير واعتماد نمط من الترهيب النفسي، ودمر العديد من المدن (كما حدث في الشمال).
جاء سياد بري إلى الصومال عبر الدبابات
استخدم بري القانون ضد معارضي نظامه، حيث تم اعتقال المئات منهم والزجّ بهم في السجون بتهم تتعلق بتهديد الأمن القومي للبلاد، كما قام بإعدام العديد منهم دون أن يتم تقديمهم للمحاكمة، كما استهدف قبائل معينة منها قبائل المجارتين، والهوية، وإسحاق في الشمال.
ووصل الأمر بسياد بري إلى اغتيال ثلاثة من وزرائه دفعة واحدة كان على رأسهم اللواء جبيري نفسه، كما قام بإعدام خمسة من كبار الجنرالات في الجيش الصومالي بتهمة الانقلاب عليه وتهديد أركان البلاد.
حكم بري الصومال عن طريق حزب أسسه بنفسه وسماه -الحزب الوطني الاشتراكي الثورى- في تلك الفترة تسلّم سياد برى أكثر من منصب في الصومال حيث كان رئيس للدولة وقائد للجيش وزعيم للحزب الحاكم ورئيس للمحكمة العليا ورئيسًا للجنة الأمن والدفاع في الحزب الحاكم كما كان له حق انقاد أي قرار يصدر من مجالس الدولة المختلفة.
فساد ومحسوبية
ظلم سياد بري لم يكن من الناحية الحقوقية والسياسية فقط، فقد امتدّ إلى المجال الاقتصادي أيضا، حيث اعتمد النموذج الاشتراكي، وقام بمقتضاه بتأميم المصانع والمزارع الكبرى، وكذلك البنوك وشركات التأمين وموانئ توزيع النفط، إلا أن الفوائد لم تذهب للشعب بل إليه وحاشيته.
أدّى هذا الأمر إلى انتشار الفساد بين المسؤولين الحكوميين وكذلك إلى ضعف الأداء الاقتصادي، فارتفع الدين الخارجي بشكل أسرع من عائدات التصدير، وبحلول نهاية العقد بلغ ديون الصومال حد الـ 4 مليارات شلن مايعادل الأرباح خمسة وسبعين عاما من صادرات الموز.
وقّع نظام بري عديد الاتفاقيات مع جهات أجنبية لدعم اقتصاد البلاد، لكن جميع هذه الاتفاقيات فشلت في نهاية المطاف في تحسين الاقتصاد والذي تدهور بسرعة في عامي 1989 و1990، وأدى إلى نقص السلع البلاد، فعمّ الفقر والجوع في البلاد.
حرب أهلية
هذه الأعمال استفزت الجبهات القبلية، ودفعتها لحمل السلاح ودخول البلاد في فوضى الصراعات الداخلية والحرب الأهلية، فقد انتشرت حركات المقاومة المسلحة التي تدعمها أثيوبيا في أنحاء البلاد (أثيوبيا كانت في حرب مع نظام سياد بري في تلك الفترة).
ردّ بري كان سريعا، فقد قام باتخاذ تدابير عقابية ضد من كان يدعم تلك الحركات محليا، وخاصة الحركة الوطنية الصومالية في المناطق الشمالية، حيث قام بقصف المركز الإداري للمنطقة الشمالية الغربية هرجيسا، وأدى القصف إلى سقوط ألاف القتلى.
لم يقتصر الوجود الأجنبي في الصومال على الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، بل تعداه فقد أصبحت البلاد مرتعا للمخابرات الأجنبية التي تسعى كلّ منها لحماية مصالحها في الصومال
عقب ذلك، تمرّد عديد الجماعات المسلحة ومنها: جبهة الإنقاذ الصومالي الديمقراطية، المؤتمر الصومالي الموحد، الحركة الوطنية الصومالية والحركة الصومالية الوطنية، جنبًا إلى جنب مع المعارضة السياسية غير المسلحة، وهي الحركة الديمقراطية الصومالية، والتحالف الديمقراطي الصومالي (SDA) وبيان المجموعة الصومالية.
أدى هذا في نهاية المطاف إلى اندلاع حرب أهلية عام 1991، وسقوط نظام بري وتفكيك الجيش الوطني الصومالي، فلجأ سياد بريأ إلى كينيا ثم نيجيريا، بعد ذلك بأربع سنوات توفي في العاصمة النيجيرية لاغوس، ودفن في مدينة غربهاري جنوب غرب الصومال، مخلفا وراءه بلدا منهكا بالحروب والفقر.
مرتع للمخابرات الأجنبية
سقوط سياد بري، لم يحمل معه استقرار البلاد، فالوضع الذي ترك فيه الصومال زاد من تأزيم الوضع أكثر، حيث أعلن الجزء الشمالي من الصومال (الصومال البريطاني قديما) انفصاله بصفة أحادية الجانب عن دولة الصومال تحت اسم جمهورية أرض الصومال في مايو من عام 1991، لكنه لم يحظى باعتراف دولي.
كما أعلنت عشيرتي “هارتي” و”دارود” عن قيام دولة منفصلة ذات حكم ذاتي في الشمال الشرقي للصومال أطلقوا عليها اسم أرض البونت فوق مناطق بأي وباكول وجوبا الوسطى وجدو وشبيلا السفلى وجوبا السفلى.
دخلت البلاد على إثر ذلك، في حرب أهلية، خاصة في مناطق الجنوب في جدو وباي وباكول وشبيلا السفلى وجوبا السفلى وجوبا الوسطى؛ وأسفرت عن سقوط الآلاف بين جريح وقتيل وتشريد مئات الآلاف ونزوح مثلهم، نتيجة الحساسية المفرطة بين العشائر وبعضها البعض بالإضافة إلى التكالب على السيطرة على الموارد الطبيعية والمناطق الرعوية الغنية.
أدت الحرب الأهلية المتواصلة في الصومال إلى تقسيم البلاد
أدت هذه الحرب الأهلية إلى تعطيل الزراعة وتوزيع الغذاء في الجنوب الصومالي، وتداعي سيادة البلاد، فبرزت مشكلة القرصنة قبالة شاطئ الصومال كنتيجة حتمية لانهيار وتضعضع السلطة الحكومية في مقديشو.
نتيجة هذا الأمر، سارعت الأمم المتحدة في إرسال قوات حفظ السلام هناك، فضلا عن قيام الولايات المتحدة بتزعم تحالف عسكري دولي بغرض إحلال الأمن في الجنوب الصومالي والارتقاء بالوضع الإنساني هناك وتسهيل وصول المعونات الإنسانية من الأمم المتحدة والدول المانحة.
لم يقتصر الوجود الأجنبي في الصومال على الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، بل تعداه فقد أصبحت البلاد مرتعا للمخابرات الأجنبية التي تسعى كلّ منها لحماية مصالحها في الصومال وفي منطقة القرن الإفريقي ذات الموقع الاستراتيجي الهام.