ولدت الدراما السورية وشكّلت نفسها ومؤسساتها من داخل المسرح السوري القديم الذي كان حاضرًا في القرن التاسع عشر. فبرزت ثلة من الممثلين والاستعراضيين السوريين الذين انتقلوا من مرحلة الهواية إلى الاحتراف بعد فترة تمهيدية طويلة امتدت لنصف قرن، إلا أن دعوًة من وزارة الثقافة السورية آنذاك كانت كفيلة بوضع البنية الأولية للتلفزيون والدراما السورية في آن واحد. إذ جُمعت باجتماع تمهيدي يشارك فيه نخبة من فناني المسرح السوري، بهدف تشكيل مجموعة تتفرغ للتمثيل باسم الدراما السورية.
ومن هنا كانت بدايات الدراما السورية التي أعادت تقديم سوريا للعالم العربي والعالم عبر مسلسلات متنوعة القوالب والأشكال فنية ودرامية، فقدمت من خلالها سوريا كلهجة وموروث ثقافي ومشاكل اجتماعية وسياسية إلى شعوب الوطن العربي كافة. وقد أثمرت جهود سنين طويلة بأعمال اتخذت لنفسها من الكوميديا السوداء صفًة أساسيًة واضحة نالت من الشهرة والتأثير ما بقي حاضرًا في أذهان المشاهدين.
أولى المحاولات
تقوم فكرة الكوميديا السوداء كاملة على مضمون يتناول موضوعًا حساسًا بالنسبة لجمهور معيّن، أو مثيرًا للجدل أو مزعجًا من ناحية ما، فيما يتم طرحه بطريقة مغلفة بالفكاهة والضحك فيكون الأمر أشبه بصدمة غير متوقعة للجمهور. وقد تتنوع المواضيع بين الشؤون الاجتماعية و السياسية أو حتى الدين والأيديولوجيا فيكون السيناريو بهذا نقدًا بناءًا كاملًا.
ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الأعمال، المسرحيات السورية القديمة التي تعتبر الآن بالنسبة للسوريين جزءًا من ذاكرتهم الفنية التي لا يمانعون في استحضارها وإعادة مشاهدة أعمالها عشرات المرات كونها نافذة على أحداث من الماضي، كمسرحية “غربة” التي عرضت لأول مرة عام 1976 من تأليف الكاتب الشهير محمد الماغوط، وأداء فرقة تشرين، تناولت أحداث الوطن العربي في فترة السبعينيات من سرقة وجهل ومشاكل سياسية، إذ نقلت المسرحية قصة قرية يعيش أهلها معتمدين على الزراعة إلا أن “بيك” يأتي وينصّب نفسه حاكمًا عليهم ثم لا يتهاون بسرقتهم وتركهم في جهل وجوع، بينما يستمر سيناريو المسرحية كاشفًا عن مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة تشغل سكان القرية.
بقيت “كاسك يا وطن” في ذاكرة السوريين وربما شعوب عربية كثيرة لسنوات طويلة لقدرتها على محاكاة الواقع السياسي وتصويره بشكله الحقيقيّ
ومسرحية “كاسك يا وطن” ذات الطابع السياسي الناقد بامتياز، وهي من أشهر المسرحيات السورية التي تستعرض حالة الشعوب العربية التي تعاني من قمع للحريات وتطبيع حكام الدول مع الاحتلال الإسرائيلي، والفشل الذريع للوحدة العربية. إلى جانب تفشي الفساد والمحسوبيات واعتقال المثقفين والأبرياء. كما تضمنت المسرحية التي عرضت لأول مرة في مدينة دمشق عام 1979، من كتابة محمد الماغوط أيضًا، وإخراج خلدون المالح مقاطع غنائية راقصة أداها ممثلوا الفرقة مما جعل منها مسرحية غنائية تحمل أنوعًا مختلفة من فن الاستعراض.
وقد بقيت “كاسك يا وطن” في ذاكرة السوريين وربما شعوب عربية كثيرة لسنوات طويلة لقدرتها على محاكاة الواقع السياسي وتصويره بشكله الحقيقيّ في تلك الفترة ووصولًا إلى هذا اليوم، بالأخص المشهد الشهير الذي يحادث فيه البطل -دريد لحام- والده الشهيد عبر سماعة الهاتف خيبة الوحدة العربية وتحرير فلسطين ونيل الشعوب العربية الحرية والعدالة.
الدراما.. مرايا
أما الأعمال التي أتت بعد تلك الفترة أيّ ما بين 1960- 2000 كانت قد شكلت صورة عن الدراما السورية لجيل الثمانينات والتسعينيات مثل مسلسل “مرايا” الكوميدي الناقد الذي استطاع عكس الصورة الواضحة لسوريا بمجتمعها واقتصادها وسياستها لأكثر من 30 عامًا منذ 1982 حتى 2011 من بطولة الممثل والمؤلف ياسر العظمة. تضمنت حلقاته مواضيع وتصنيفات مختلفة عن بعضها البعض فتارًة تتناول قضية اجتماعية تهمّ المواطن العربيّ، وتارًة تنقل تفشي المحسوبية والقمع واستحكام السلطة على حياة السوري. بالإضافة إلى تناولها بعضًا من قصص الأدب العالمي كقصص الاديب الروسي تشيكوف في حلقة “الرهان”.
إلا أن السيناريو كان دائمًا النقطة الفاصلة في جميع أجزاء المسلسل، إذ شكّل تحدّيًا في تناوله الكثير من المواضيع التي كان من النادر التطرق لها في تلك الفترات سواء كانت إثارة النقاش في أمور تعتبر “تابوهات” بالنسبة للمجتمع أو تستعرض حال مؤسسات الدولة كغياب الرقابة وانتشار الرشاوى و السرقة واختلاس الأموال من خلال الخوض في كوميديا سوداء هزلية تحرك المراكب الواقفة.
وتعدّ “موظف معتّر” واحدة من حلقاته المميزة التي ظهر فيها جليًّا فرد السلطة الحاكمة سيطرتها على حيوات العاملين والموظفين في كل القطاعات وإجبارهم على المشاركة في المسيرات والاحتفالات القومية مقابل إبقاءهم على رأس أعمالهم، فما ينتهي الحال بالموظف المأمور إلا أن ينفذ طلبات الحكومة حتى وإن كانت تنافي مبادءه أو توجهاته.
وقد استطاع المسلسل باستمراريته عبر أجزاء ممتدة، ومقارباته لواقع الناس وأحوالهم، الوصول إلى شريحًة واسعة من المشاهدين إلى جانب تصنيفه العائلي. كما أنه كان بداية الاحترافية للكثير من الممثلين والمخرجين المبتدئين في بداياته أمثال المخرج حاتم علي، والممثل عابد فهد والممثلة كاريس بشار إلى جانب الممثل القدير فارس الحلو. فيما تناوب على إخراجه 6 من كبار المخرجين السوريين هم هشام شربتجي، عدنان إبراهيم، مأمون البني، حاتم علي، سيف الدين سبيعي، وسامر برقاوي.
ضيعة ضايعة
“الثورة الرقمية جعلت أشياء كثيرة لم نكن نتصور حدوثها قبل عدة سنوات أمرًا ضروريًا لحياتنا اليوم، لا يمكن أن نتخيل حياتنا بدونها، باختصار يمكن القول أن الإنسان أصبح عبداً للتكنولوجيا بكل ما تعنيه كلمة “عبد” من معنى. وكما هي العادة في كل المجازر التي تحدث هناك ناج وحيد…. أم الطنافس الفوقا“.
بهذه الجملة الوافية يبدأ واحد من أفضل مسلسلات الكوميديا السوداء السورية منذ بدايات الدراما السورية حتى يومنا هذا. مسلسل كوميدي يحمل لهجة أهل الساحل السوري. ساخرًا من غش الفقير وطمع الدولة في أموال المواطنين ومراقبة تفاصيل حياتهم بتقارير مفصلة عن كل خطوة يخطونها بعيدًا عن المخفر. تم عرضه الأول على قناة أبوظبي عام 2008 ثم تلاه جزء آخر وهو الأخير في 2010 أيّ ما قبل إندلاع الثورة السورية بقليل.
شخصيات مسلسل ضيعة ضايعة
صوّرت مشاهد المسلسل كافة في واحدة من أجمل المناطق الجبلية في سوريا في قرية السمرا التابعة لمنطقة كسب في محافظة اللاذقية والتي تحولت لاحقًا إلى معلم سياحيّ يزوره محبوا المسلسل من سوريون وعرب خلال عطلهم الصيفية. يتضمن المسلسل بجزئيه الاثنين 57 حلقة تختلف عناوينها حسب القصة إلا أنها ترتكز على مغزى واحد يحاول المسلسل إيصاله للمشاهد وهو حنين الإنسان المعاصر للعودة للطبيعة الأم والتخلص من كل أنواع العبودية سواء كانت من السلطة أو التقنية فيصوّر تعايش الإنسان في محيط صغير هو القرية بينما تحاول كلًًّا من العولمة والسلطة تنغيص هذه الوحدانيّة.
يتميز ضيعة ضايعة بمحافظته على أكبر قدر ممكن من عادات وأساليب عيش السكان وطبائعهم في تلك المنقطة أبرزها اللهجة المحكية فيه، إذ يتحدث الممثلون لهجة بعض مناطق الساحل السوري، والتي يتضمنها مفردات غاية في الطرافة بينما يتم شرحها إلى اللغة العربية الفصحى أسفل الشاشة.
وبينما يشكّل سيناريو الحلقات والشخصيات الموجودة الحلقة الأهم فيه؛ إذ تعبّر شخصية “أسعد” المواطن السوري الساذج، الطيب الذي يحب مساعدة الجميع من حوله. أما “جودة” فيمثل المواطن الطمّاع والمحتال الذي يريد الخير لنفسه فقط بينما يحاول باستمرار استغلال جاره الطيب “أسعد”. أيضًا تتوسع دائرة الشخصيات وصولًا إلى المخبر الذي يراقب حياة أهل القرية وحتى زائريها بهدف كتابة “التقارير” ورفعها للسلطة. أما شخصية “أبو نادر” فهي تجسيّد لرجل الشرطة الذي ملّ من استقرار القرية فبدأ يتسلّى في حيوات المواطنين بحثًا عن أي جريمة يثبت بها سلطته، كما تنقل الشخصية صورًة عن الحكومة المتقاعسة عن أداء واجباتها تجاه الشعب.
تشترك كل هذه الأعمال بصفة الكوميديا السوداء التي بدت ملامحها طاغية بشكل واضح أحيانًا أو متخفّي أحيانًا أخرى
أما المختار “عبد السلام البيسة” فهي شخصية تنقل صورة الرجال المؤثرين في محيطهم بعد أن فقدوا قيمتهم كسلطة إقطاعية لم يعد لا الناس ولا الحكومة بحاجة إليها. أما الشخصية الأخيرة والتي تظهر بين حلقة وأخرى هي شخصية “أبو شملة” مهرّب بضائع كبير بين سوريا وأوروبا، يحظى بالنفوذ والسلطة رغم كونه خارج عن القانون، ويهابه حتى رجال السلطة ذاتها.
الرسائل السياسية
تشترك كل هذه الأعمال بصفة الكوميديا السوداء التي بدت ملامحها طاغية بشكل واضح أحيانًا أو متخفّ أحيانًا أخرى. إذ برزت حاملًة أشكالًا مختلفة بين نقد للواقع السياسي أو الحالة الجمعية التي تمرّ بها فئة معينة كالموجودة في مسرحية كاسك يا وطن والواضحة في اسم المسرحية بحد ذاته قبل الخوض في تفاصيل السيناريو حتى. فقد عبّر الاسم عن حالة من الانهزام وفوات الأوان لتدارك خيبة الوطن العربي في استعادة أمجاده من توحّد الدول العربية وتحرير فلسطين من دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب وضع المواطن العربي المكلوم على شهدائه في سبيل اللاشيء. بينما قدمت المسرحية كل هذه العناصر بصيغة كوميدية سوداوية.
عالج ضيعة ضايعة إطباق السلطة الحاكمة في سوريا إلى جانب العولمة وتأثير عصر التقنية على حياة الناس
أما في سلسلة “مرايا” كان الأمر مختلفًا نظرًا لقدرة المسلسل على استمراره بتقديم المنوع والمعاصر لكل مرحلة في وقتها المناسب من خلال أجزائه التي تتجدد كل موسم تقريبًا. وقد تجلّت الكوميديا السوداء في هذا العمل في حالة الاندهاش التي كان يعبر عنها البطل -ياسر العظمة- في مشاهد كثيرة ناقلًا ردة فعل المشاهدين أمام مسائل معينة بطريقة كوميدية.
وقد استطاع مسلسل ضيعة ضايعة بدوره، بالسيناريو المختلف وشخصياته المسقطة على الواقع تقديم كل هذه التفاصيل دفعة واحدة بأفضل ما يمكن للكوميديا السوداء أن تكون عليه من استهزاء وتهكم ونقد، حين عالج إطباق السلطة الحاكمة في سوريا قبضتها على المواطنين إلى جانب العولمة وتأثير عصر التقنية على حياة الأفراد في المدينة.
وقد تأثر المشاهد بهذا النوع من الأعمال بشكل كبير أولًا لقربها من الناس وواقعهم الحقيقي دون ملاحقة تفاصيل التمثيل كمظاهر الأزياء والحياة الرغيدة أو قصص الفقر المضني أو حتى النهايات السعيدة.
الإنتاجات السورية هي الأغنى دراميًا في المنطقة بلا شك في الكوميديا السوداء، وحتى بعد عام 2011، ظهرت عدة أعمال من وحي الفجيعة التي حلت بالشعب السوري، مثل: مسلسل ضبو الشناتي، ومسلسل الواق واقن وببساطة، وغيرها، إلا أن المأخذ الذي يمكن أن يسجل على معظم أعمال الدراما السورية هي انحيازها لصف السلطة في كثير من حلقاتها، أو تعميتها على المتسبب بالكارثة أو حتى تحميل الضحية جريرة ما وقع عليه من ظلم وجور.