من محطته بالمدرج الصغير، في عمادة شؤون الطلبة بالجامعة الأردنية، انطلق قطار “أسبوع الفلسفة الأردني” في نسخته السادسة، مخترقًا آفاقًا فكرية حقيقية، لا تقل في جديتها وأهميتها عن تلك المطروحة في أقسام الفلسفة التخصصية بالعالَم العربي، آخذًا على عاتقه طرح السؤال وبعض الجواب، مستنيرًا بشعار الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري “أما اليقين فلا يقين وإنما.. أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا”.
بيد أن هذا القطار الجامح، بقيادته الشابة، يبدو أنه واجه، على عادة كل المشروعات الطموحة في عالمنا العربي، بعض التحديات الإجرائية التي كان ينبغي له التخلص منها أولًا، قبل الشروع في جولته التي ابتدأها بـ”الوضع الفلسفي، والحدث السياسي، والمطحنة الثقافية” وبعضٍ من فلسفة “الألم”، فكيف كان ذلك؟
مشكلات ينبغي تجاوزها
“مشكلات أكاديمية وإدارية”، هكذا وصف لنا أحد منسقي البرنامج تلك التحديات التي كانت تقف في طريقهم وكادت أن تحولَ دون تنظيم الفعالية، كما كان مقررًا لها، حيثما دأبوا على إقامتها في مقر الجامعة الأردنية.
وبحسب العضو الذي تحدث إلى “نون بوست” مفضلًا عدم ذكر اسمه، فإن ماراثون الأسبوع الفلسفي صُمم منذ عام 2014 كي يتوافق زمنيًا مع اليوم العالمي للفلسفة، الذي يحل كل عامٍ في الخميس الثالث من نوفمبر، حيث راود القائمين على الفكرة آنذاك حلمُ إبراز فلاسفة الأردن الشباب على صفحة “اليوم العالمي للفلسفة” على “فيسبوك”، فقرروا أخذ زمام المبادرة والبدايةَ على طريقتهم، بشكل غير رسمي، لحين اكتمال التجهيزات والإجراءات التي تجعلهم جزءًا من هذا الاحتفال السنوي بشكل رسمي، كما هو الحال في معظم جامعات العالم.
واحدة من أهم المحاضرات التي قدمت خلال الأسبوع وأكثرها تفاعلًا وحضورًا، كانت ورقة “الفلسفة والإرهاب في زمن العولمة النيوليبرالية” للدكتور حسن أبو هنية
وحتى اللحظات الأخيرة من تدشين الأسبوع، كان مقررًا أن تُعقد فعالياته، التي تقوم على تدبير ساعتين يوميًا لعرض ورقةٍ بحثية في أحد الحقول الفلسفية أو تلك تتقاطع معها من مباحث العلوم الإنسانية، خارج الجامعة، ولكنهم، تمكنوا بعد جهد جماعي من تنفيذ فكرتهم داخل الجامعة وتجاوز تلك العراقيل الموضوعة أمامهم، لأن “إقامة الأسبوع خارج الجامعة كانت ستعتبر تحولًا سيئًا في مسيرته، وإخلالًا بمبادئه التي وُلدت معه منذ المشاركة الأولى، وانتزاعًا لرونقه وشخصيته”.
الفلسفة والطب النفسي
كان أسبوع الفلسفة هذا العام مزدحمًا بالورقات العلمية المهمة، إلا أن إحدى أهم ملامح هذه النسخة، كانت محاولة التأسيس لفلسفةٍ نفسية جادة وجديدةٍ، من خلال ثلاث ورقات قُدمت على مدار الأسبوع.
الأطروحة الأولى في هذا الشأن، قدمها أكاديمي جمع بين أحد الحقول العلمية شديدة التخصص (طب الأسنان) وأكثر المجالات النظرية اللغوية رحابةً وشمولًا (الدراسات الثقافية والنقد الأدبي)، دكتور عبد الله البياري، حيث تؤصل تأملاته كطبيب سابق للألم، من منظور ديني، ابتداءً بحادثة قطف أول البشر، آدم عليه السلام، التفاحة، مخالفًا أوامر ربه، باحثًا من خلال هذه الحادثة في جذور الألم.
تنظر الورقة إلى الألم فلسفيًا باعتباره أحد أبرز تمظهرات إذابة الحدود بين ما هو مادي (الجسد) وما هو معنوي (الشعور) الذي لا يمكن رصده، ولكن يمكن وصفه باعتبار الإنسان كائنًا اجتماعيًا يروم تخفيف الألم باستخدام سرديةٍ يشاركها مع الآخرين، وهو ما يُنتج بدوره إشكالية: هل يمكن أن يشعر من نشاطره آلامنا بنفس شعورنا إذا لم يكن بمقدورنا أصلًا، نحن أصحاب الألم، تخيله، قبل تجربته. وبشكل نقدي، وعلى طريقة علم النفس الثقافي، تسائل الورقة “مؤسسة الطب الحداثية” التي تعتبرها “ابتلعت الجسد (مادةً ومعنى) لتطمس تاريخانيته وتغير شكل علاقته بالألم”.
الأطروحة الثانية في هذا المضمار، كانت من نصيب الدكتور مجد السليتي، وهي ورقة أكثر عموميةً من الورقة الأولى، ويمكن اعتبارها مظلةً تأسيسية لها، حيث تنتمي في موضوعها إلى فئة “التخصصات البينية” بشكل واضح، مُساهمةً في إعادة تشبيك العلاقة بين علم النفس (الطبي) والفلسفة. ومن ذلك على سبيل المثال طرح الإشكالات الفلسفية التي ترتبط بالمرض النفسي وأسبابه وتشخيصه وعلاجه، ثم رصد مراحل تطور الطب النفسي تاريخيًا، وتفاعله مع التطورات الاجتماعية والسياسية، تأثيرًا وتأثرًا، ساعيةً من خلال ذلك إلى محاولة استشراف مستقبل الطب النفسي.
الورقة الثالثة قدمها الطالب والمترجم مروان محمود، حيث يصفها في البداية بأنها “أفكار متقطعة وغير كاملة، وجزء من عملية تفكير مستمرة، تشكلت، تقريبًا، على مدى 11 شهرًا، في أثناء ترجمة كتاب “في اليقين” للودفيغ فيتجنشتاين”، ومع ذلك، تحدد الورقة موضوع عملها بوضوح في البحث وراء مفهومي “العقل” (الحس المشترك بلغة علم النفس)، وافتقاده (فقدان البداهة المرضي)، متأرجحةً في ذلك بين الفلسفة التي يمكن تصنيفها كمرض عقلي عند نزعتها التشككية الجذرية (ديكارت)، وعلم النفس الذي يطرح مفهومًا مقابلًا على نحو ما (السكيزوفرينيا)، وهي العملية التي تطور إلى التنقيب وراء مفهوم “الجنون” عند علماء النفس (لويس ساس)، والفلاسفة (ميشيل فوكو).
وفي النهاية، تزعم الورقة أنها ستقدم “وجهة نظر أولية، لطبيعة فلسفة جديدة، لا تخضع للنزعة العلمية، ولا لأنطولوجيا كلية، تنظر في كل ظاهرة إنسانية على حدة، وتدرس الإنسان على أنه حيوان ثقافي، وذو جانب بيولوجي”.
الفلسفة والإرهاب
واحدة من أهم المحاضرات التي قدمت خلال الأسبوع وأكثرها تفاعلًا وحضورًا، كانت ورقة “الفلسفة والإرهاب في زمن العولمة النيوليبرالية” للدكتور حسن أبو هنية، الخبير في الفلسفة السياسية، الذي ذاع صيته بعد تحليلاته الرصينة في مسائل: ظهور تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014 وتمدده في بعض الأقطار العربية خاصةً سوريا والعراق، ونجاحه في استقطاب عدد كبير من المقاتلين الأجانب.
تفرق ورقة حسن أبو هنية بين ما هو فلسفي، وما هو اجتماعي في “الإرهاب”، حيث يعتبر الباحث أن العلوم الاجتماعية تركز حصرًا على أسئلة من نوعية: تطور الإرهاب وأسبابه، بينما تحمل الفلسفة كعادتها همًا مغايرًا، وهو كبح جماح هذا الاندفاع البحثي والعودة إلى مربع صفر: “ما الإرهاب؟ وإلى أي مدى يمكن اعتباره مشروعًا؟”، ومن هذا المنظور الفلسفي، يؤكد أبو هنية أن ثمة عزوف عالمي مقصود عن سؤال “ما الإرهاب؟” إلى سؤال: “كيف نحارب الإرهاب؟”، باعتباره أمرًا معروفًا، فالإرهاب بات ذلك الذي “نعرفه ولا نُعرفه”، مشيرًا إلى أن هذا المصطلح من أكثر المفردات” تداولية” في الأفق السياسي والاجتماعي العالمي.
ويرصد أبو هنية نجاح المستفيدين من هذه الحالة غير المنضبطة أكاديميًا في التأثير على الجمهور العالمي، الذي تتولد في نفسه تلقائيًا حمولة شعورية سلبية، وإلزامٌ أخلاقي ذاتي واجتماعي بالإدانة، بمجرد سماعه لمُصطلح “الإرهاب”، انصياعًا للهيمنة الثقافية والإعلامية، مُحيلًا إلى “ألتوسير” الذي قسم أجهزة الدولة إلى أجهزة أمنية معنية بفرض الانضباط، وأخرى أيديولوجية تقوم بقولبة الإنسان منذ الطفولة (ميشيل فوكو أيضاً).
وبحسب “أبو هنية” فإن هذا المصطلح “الإرهاب” طرأ عليه” تطور دلالي”، ونفسي واجتماعي، حيث كان مرتبطًا في الماضي بحالة شعورية إيجابية تنتمي إلى مجال المقاومة الاجتماعية من ناحية، ومتعلقًا بالسياق الجغرافي والثقافي الأوروبي، غربًا مع الثورة الفرنسية وشرقًا مع الحركات الاحتجاجية الروسية من ناحية أخرى؛ وذلك قبل أن يشير إلى حمولة سلبية مرتبطة بالإسلام، والشرق الأوسط. لذلك يفكك الباحث في ورقته أسباب هذا التحول من خلال عدة مفاهيم مركبة، تبدأ بالإشارة إلى مقولات تفوق العرق الغربي على بقية الأعراق ومنها النظرة إلى الشرق الذي يحتاج القوة “لتحضره”، مرورًا بشروط عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة، وصولًا إلى “حدث” الـ11 من سبتمبر، فالعالم قبل هذا الحدث، ليس هو العالم قبله (كما يشير جاك دريدا).
وعلى طريقة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، يحاجج هنية عن مقولته النقدية “الإرهاب بات مرتبطًا بهوية الفاعل، لا ماهية الفعل”، من خلال التأكيد على أن الدولة الغربية الحديثة، أيضًا، منتج ديني اجتماعي، انتزع السيادةَ عن الله ومنحها إلى الإنسان (اللاهوت السياسي)، معتبرًا أن نفس الجُرم الذي قد ترتكبه “داعش” بالسكين وتشمئز له قلوب الجمهور، ترتكبه في نفس الوقت، الدولة الحديثة بالدرون والتوماهوك، دون أن يشعر الناس بنفس الغُصة والحمولات السلبية والإلزامية، فالدولة، باتت ذاك الكيان الذي يحتكر العنف، مشيرًا إلى أن الحالة الفلسطينية، خاصة غزة، تعتبر شاهدًا واضحًا على هذا التناقض.
وعلى الصعيد الأخلاقي، يعتبر أبو هنية أن الإرهاب بوصفه عنفًا مجردًا هو اتساق مع تلك القراءة التي ترى التاريخ الإنساني سلسلةً من الحروب (بالمخالفة لكلود ليفي شتراوس)، وبما يحمله من حمولة ثقافية، فهو استجابة حتمية للشرط الحضاري الذي وضعه العالَم الغربي ومقولاته المؤسسة ومفاهيمه المهيمنة، كالنيو ليبرالية وما بعد الاستعمارية، التي تجمع بين رأس المال العابر للحدود والعسكرة المُفرطة، مؤكدًا أن هذا الرأي سائد بوضوح في الأوساط الغربية اليسارية، على غرار ما كتبه “آلان باديو” بعد 13 من نوفمبر 2015 محذرًا: “شرنا لم يأتِ بعد”.
لم يغب الأردن عن حضور الأسبوع الفلسفي المنعقد في أهم جامعاتها، حيث أخذت إحدى الورقات على عاتقها التصدي لسؤال: “الحالة الفلسفية في الأردن”.
الهم الأردني
بطبيعة الحال، لم يغب الأردن عن حضور الأسبوع الفلسفي المنعقد في أهم جامعاتها، حيث أخذت إحدى الورقات على عاتقها التصدي لسؤال: “الحالة الفلسفية في الأردن”، وتنطلق الورقة التي تطرحها أرزاق يوسف، باحثة ماجستير في الأنثربولوجيا ومتخصصة في التاريخ الشفاهي بجامعة اليرموك، من نقطة استقراء ورصد مسيرة التعليم الفلسفي في الأردن.
وتعتمد الورقة التي قدمتها الباحثة، مع أحد الباحثين والمترجمين الشباب (أحمد زياد) على تجارب مجموعة من الطلاب والأساتذة في دراسة الفلسفة، ساعيةً إلى تقييم التجربة الأردنية في هذا الصدد، ومُحاولةً استشراف مستقبلها، في ظل استمرار السؤال عن جدوى تدريس الفلسفة وطرق تدريسها ووجود قسم واحد لتدريسها في الأردن.
مستقبل الأسبوع
استطاع شباب الأسبوع الفلسفي الأردني تنظيم فعاليتهم في الجامعة، وتمكنوا في نفس الوقت من إعادة تقديم الفلسفة باعتبارها طريقة للتفكير والعمل أولًا، وبوصفها جزءًا من كل إنساني واجتماعي، يتكامل مع باقي الحقول العلمية الأخرى، عبر إثارة أسئلة الواقع ثانيًا، فقد حفل الأسبوع بمحاضراتٍ ثرية ومتنوعة لا تقل أهميةً عن تلك المشار إليها، منها ما يخص الجندر والثقافة كـ”تاريخ تمكين المرأة”، ومنها ما يخص الاجتماع العربي مثل”المجتمعات العربية والحداثة” و”التعددية الدينية”، ولكن إلامَ يطمحون بعد أن وصل الأسبوع إلى عامه السادس؟
أخبرنا مروان محمود، أحد أعضاء الأسبوع وصاحب الورقة الأخيرة، أنه “ينبغي لنا الآن فقط أن نحمد الله ونشكر الفريق على الجهد المبذول، فقد حققنا مكاسب عظيمة مثل طرح موضوعات لم تطرق في الفلسفة العربية من قبل، خاصة “الإرهاب والفلسفة” و”الحس المشترك والسكيزوفرينيا”، وقد حرصنا في اختيار المحاضرين أن يكون معظمهم أقل من الثلاثين للحفاظ على الطابع الشبابي للفاعلية، وفي المقابل، وجدنا أن الحضور من خارج الجامعة كان يقارب الحاضرين من الطلاب، إن لم يزد، كما لمسنا اهتمامًا واضحًا بالفاعليات من خارج الأردن”.
وفي حواره مع “نون بوست”، أكد مروان أنه “بعد التقاط الأنفاس ونهاية الأسبوع، سيكون لنا جميعًا جلسة تقييمية، لبحث تطوير هذا الأسبوع والمحافظة على مكتسباته، ومن حيث المبدأ، فقد طرحت فكرة إطلاق مجلة خاصة بالأسبوع، بعد أن قمنا بإتاحة معظم المواد مجانًا على الإنترنت”.