تشكل السكنات الطلابية في تركيا وعاءً تجتمع فيه ثقافات بلاد الأناضول، ففيها تجد الطلبة القادمين من مناطق البحر الأسود والمتوسط، والقادمين من المناطق الشرقية والوسطى والغربية، ليشكلوا لوحة فنية تختصر فيها ثقافات تركيا المتنوعة.
وانطلاقًا من ذلك عكفت إدارة السكن الذي كنا نقطن فيه على تنظيم أمسيات ثقافية يقدم من خلالها طلبة كل منطقة أهم ما تحتويه ثقافتهم الخاصة. بعيدًا عن الأطعمة التي كانت تعد بواسطة طلبة السكن – لك أن تتصور فظاعة ذلك – فإن هذه الفعاليات كانت تشكل فرصة جميلة للتعرف على موسيقى وعادات أهل هذه المدن، وفرصة لسماع لهجات أهل المناطق المتمايزة عن اللهجة الإسطنبولية السائدة.
في إحدى هذه الليالي التي كانت مخصصة لاستعراض ثقافة أهل البحر الأسود “Karadeniz”، أثار انتباهي الطريقة التي تلعب فيها كمنجة أهل البحر الأسود “Karadeniz kemençesi” في أجواء الجلسة ناقلة إياها من حالة هستيرية يرقص فيها الشاب كمن مسته الكهرباء، إلى حالة مفرطة في الحزن والسواد.
إلى جوار ذلك شكلت هذه الليلة المرة الأولى التي استمع وأتعرف فيها على المغني التركي كاظم كوينجو، كان ذلك عندما أنشد الأتراك أغنية جمعت في إيقاعها بين السرعة والحزن، أدركت بلغتي البسيطة في ذلك الوقت أن كثيرًا من مفرداتها ليست من اللغة التركية، ما دفعني لسؤال صديقي القادم من أقصى الشرق التركي عن معاني الكلمات وإلى أي لغة تعود، أجاب بعدم معرفته لمعاني الكلمات لكنه أكد أنها قادمة من اللغة “اللازية”.
سنوات الطفولة: الكتاب والغيتار
ولد كاظم في مدينة أرتفين شمال شرق تركيا بالقرب من الحدود الجورجية التركية، في 7 من نوفمبر 1971، لعائلة مكونة من أخت وأربعة أشقاء، عرف عن والده تعلقه بالموسيقى الشعبية فسمي بالكمنجي يشار وذلك تيمنًا بالمغني التركي يشار تورنا، كما عرف عن والده حبه للقراءة وإقباله على الثقافة، الأمر الذي ولد شعورًا بالتميز لدى الطفل كاظم. وفي ستينيات القرن الماضي، انتمى والده جودات كوينجو إلى حزب العمل اليساري، مما عرضه للاعتقال على يد السلطات في أكثر من مناسبة، كان أهمها بعد انقلاب أيلول 1980 حيث مكث في السجن 6 شهور تعرض خلالها كبقية الأتراك للتعذيب البدني.
تركت هذه الأحداث أثرها على الطفل كوينجو، فإقبال والده على السياسة وانتماؤه لحزب يساري وتعرضه للأذى على يد السلطات دفع كاظم لاتجاهات سياسية غلب عليها الطابع اليساري، أما تعلق والده بالموسيقى فقد نمى لديه موهبة الغناء ورفع ذائقته الموسيقية، حيث حصل كاظم في سنوات طفولته على أول غيتار من عمه القادم من ألمانيا ومنذ ذلك الوقت ويداه لم تفلت الغيتار.
إسطنبول: من السياسة إلى الفن
حط كوينجو رحاله في مدينة إسطنبول عام 1989 لدراسة العلوم السياسية في جامعة إسطنبول التي شكلت لسنوات طويلة قلعة للحركة الطلابية التي نشطت بقوة في المجال العام، لكن كوينجو المحمل بروح تمرد أهل البحر الأسود وعنفوانهم، وصل إلى جامعة إسطنبول وقد أمست بيئة سياسية أصابتها عوامل التصحر نتيجة لإجراءات النظام العسكري بعد انقلاب أيلول 1980، فلم يجد كوينجو إلا الموسيقى لينخرط في أتونها، إذ ترك كوينجو الدراسة عام 1993 وانخرط في مجال الفن. ويروي كوينجو عن هذه المرحلة فيقول إنه في الأوقات الصعبة دائمًا ما كان يفكر في أن يصبح قائم مقام أو يشغل منصب حاكم، لكن دائمًا كان يضع علامة استفهام على هذا التوجه وإلى أين يمكن أن يصل؟ “وفي النهاية اخترت علامة السؤال وتجاوزت فكرة القائم مقام وغيرها”.
بدأ كوينجو مشواره الفني عام 1990 بالعمل في ورشة الفنون المعاصرة، حيث ألف ولحن موسيقى مسرحية “رعب الفاشية وبؤسها”، وفي العام 1991 دخل كاظم كوينجو عالم الموسيقى الاحترافي إذ أسس برفقة علي الفير فرقة موسيقية حملت اسم الفرقة الرافضة “Grup Dinmeyen” التي وصفها كوينجو بأنها فرقة هدفت إلى تقديم موسيقى ذات طابع احتجاجي.
لكن الفرقة لم تعمر طويلًا، فبعد إصدار ألبوم واحد انفصل كاظم عن المجموعة نتيجة لرغبته في الغناء بلغته الأم “اللازية”، وفي العام 1993 أسس كاظم كوينجو برفقة محمد علي برش بشلي فرقة لغناء موسيقى الروك حملت اسمًا قادمًا من اللغة اللازية “أطفال البحر”.
أصدرت الفرقة ألبومات غنائية حملت أسماءً قادمة من اللغة اللازية، فأصدرت في العام 1995 ألبوم “لا ندري” وفي العام 1998 ألبوم “راحل”، بالإضافة إلى ذلك أحيت الفرقة عددًا من الحفلات الموسيقية في مختلف أنحاء تركيا، لكن الفرقة تفككت عام 1999.
وفي العام 2000 توجه كاظم كوينجو لأداء خدمته العسكرية حيث ودع للمرة الأولى شعره الطويل، وبعد عودته من الحياة العسكرية بدأ كاظم في الغناء منفردًا، فأصدر في إطار مشروع عناقيد الصنبور 3 أغانٍ، كما أخرج ألبومه “Viya” الذي نال نجاحًا واسعًا على إثره تعاقدت قناة D التليفزيونية مع كوينجو لإعداد موسيقى مسلسل “الوردة البيضاء” الذي ظهر كاظم في عدد من حلقاته. تتالت العروض التليفزيونية، وبحلول 2004 ظهر الألبوم الثاني لكاظم كوينجو وحمل اسم “هايدي HAYDE” وإلى جوار ذلك اشترك كاظم كوينجو مع الفنانة شوال سام وأصدر عددًا من الألبومات والأغاني المشتركة.
بعد وفاة كوينجو عام 2005 تم تجميع عدد من الأغاني التي سجلت في حفلات موسيقية أو بصورة منفردة في ألبوم حمل اسم “في مكان ما في الدنيا Dünyada Bir Yerdeyim” حيث صدر للنشر عام 2006.
كاظم كوينجو: في معنى أن تكون ثوريًا
“أنا موسيقي، وبعد ذلك أنا من أهل منطقة البحر الأسود، لكن قبل كل ذلك أنا ثوري. وأنا حقًا لا أتردد في إيضاح شيء أعرف أنه صحيح”، بهذه الكلمات عبر كاظم عن ذاته الثورية التي جعلت فنه رسالة وقيمة حالت دون أن ينجر خلف مغانم ونعم الشهرة والمال الذي عرف عنه زهد الشديد فيه.
استخدم كاظم الفن والغناء كوسيلة لمقاومة وضع قائم أضحت فيه هويته الأصلية ولغته الأم محط تهديد ضغط المجموع الذي يرى في أي تنوع تهديد وجودي، الأمر الذي شكل مصدر رفض لكاظم كوينجو الذي غنى بلغته اللازية الأم مستخدمًا أهم أدوات الموسيقى العصرية، فكان ثوريًا في موسيقاه التي استطاعت الجمع بين رتابة وتأني كمنجة البحر الأسود وحركية وقوة الغيتار الكهربائي، فهنا تكمن فرادة كوينجو، في قدرته على الجمع والتوليف.
أما على صعيد حياته الخاصة لم تمنع انشغالات الفن كوينجو أن يكون ناشطًا على الصعيد السياسي، حيث عرف عنه اشتراكه في عدد من الفعاليات والأنشطة السياسية التي غلب عليها طابع الاحتجاج والاعتراض، كما تعرض كوينجو في مرات عديدة للاعتقال والضرب على أيدي الشرطة التركية في أثناء مشاركته في عدد من الفعاليات الاحتجاجية.
ففي إحدى حفلاته الموسيقية أهدى كاظم إحدى أغانيه إلى ذلك الشرطي الذي ضربه في مخفر الشرطة، قائلًا “لعل أنغام الكمنجة تمس روح ذلك الشرطي”.
“… رغم كل ذلك شكرًا للدنيا التي سمحت لنا بالغناء”
“… رأينا الكثير من الأشياء السيئة، حروب ومذابح، وأطفال قتلى وقاتليهم. رأينا مجتمعات وأقوامًا سلبوا ذاتهم ولغاتهم وثقافاتهم. رأينا مدنًا وقرى وحيوانات التهمتها نار الحرائق. رأينا فقر الإنسان، وبكاء الأمهات والآباء، رأينا أطفالًا يركضون إلى حتفهم صاغرين. نحن ميتون، لكن رغم كل ذلك شكرًا للدنيا التي سمحت لنا بالغناء”.
هذه الكلمات لكاظم كوينجو، تلخص حياته التي لم يسمح السرطان لها أن تستمر لأكثر من 33 عامًا، استطاع خلالها تثبيت اسمه بين مشاهير منطقة البحر الأسود.
اليوم يستذكر الأتراك كوينجو كفنان ثائر “devrimci” لم يخدعه سراب الشهرة عن الالتزام تجاه قضاياه، ورغم مساهمة كوينجو في إحياء تراث شعب اللاز الذي ينتمي إليه، فإنه لم يكن عنصريًا بأي صورة من الصور بل كان ذا انتماء إنساني رافض لأي توجه عنصري أو قومي.