معظم سكان الأرض يتجهون اليوم للعيش في المدن الكبيرة بشكل غير مسبوق، فبينما كان نصفهم يعيشون في المدن حسب إحصاءات الأمم المتحدة عام 2008، من المتوقع أن تزداد نسبتهم إلى 70% عام 2050، عندما يبلغ تعداد قاطني الأرض قرابة العشرة مليارات، حيث تزداد الهجرة من الريف إلى المدن بسبب توافر فرص العمل بشكل أكبر وانتشار المدارس والجامعات وتوافر الخدمات على نحوٍ أفضل من الريف.
مشاكل المدن الكبيرة
اكتظاظ السكان في المدن الكبيرة له مشكلات وتحديات كبيرة تواجه القائمين على إدارة تلك المدن، وتلك المشكلات تزداد في الدول النامية أكثر من الدول المتقدمة، إذ يواجه قادة تلك المدن تحديات تناقص الموارد وزيادة عدم المساواة في الدخل وتقلّص الميزانيات ومشاكل توفير وحدات سكنية، إضافة لمشاكل بيئية وصحية كثيرة.
الأحياء الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية، التي تضم ثلث سكان المدن الحضرية في العالم، لديها بنية تحتية وأنظمة صرف صحي متخلفة وتشكل أرضًا خصبة للأمراض المعدية
العيش في المدن والأحياء الفقيرة يعرض السكان لمخاطر صحية جمّة، فالاكتظاظ الكثيف وتوسع وسائل النقل لسد حاجة ازدياد الناس، كلها أسباب تؤثر على تلوث الهواء، وتسعة أسباب من أصل عشرة للوفاة حول العالم تأتي بسبب الأمراض التنفسية المزمنة والحوادث المرورية.
الأحياء الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية، التي تضم ثلث سكان المدن الحضرية في العالم، لديها بنية تحتية وأنظمة صرف صحي متخلفة وتشكل أرضًا خصبة للأمراض المعدية.
قد يؤدي العيش في المناطق الحضرية المكتظة إلى تفاقم الأمراض غير المعدية، فيرتبط تلوث الهواء بأمراض القلب والرئة، كما أن عدم توافر الغذاء الصحي والمساحة الخضراء يسهم في السمنة ومرض السكري، كما يمثل العنف وحوادث النقل والازدحام مخاطر كبيرة على السلامة الجسدية والصحة العقلية.
كيف يمكن للتكنولوجيا المساعدة؟
في حين أن حل مشاكل المدن الكبيرة ليس عملية سريعة أو بسيطة، إلا أن التكنولوجيا توفر مجموعة من الطرق الجديدة لمعالجة بعض أكثر القضايا إلحاحًا التي يواجهها العالم، ومع تزايد عدد السكان في المناطق الحضرية، من الضروري التركيز على كيف يمكن أن يساعد الابتكار التكنولوجي في تحقيق مستقبل مستدام.
يساعد الابتكار التكنولوجي على حل أو المساهمة بحل معظم المشاكل التي تواجه الناس، فبصمة التكنولوجيا واضحة في كل مجال دخلته، ومن المجالات التي يمكن أن يكون التقدم التكنولوجي فيها بمثابة المخلص:
1- التعليم
تتيح التكنولوجيا خدمة التعليم عن بُعد عبر تطبيقات الفيديو، مما يكسر جدران الصف التقليدي، الأمر الذي يساهم بتقليل الهجرة نحو المدينة لأجل طلب التعليم، وفي نفس الوقت يرفع المستوى الثقافي للمجتمع في المدينة.
2- الفقر
يوفر الإنترنت المزيد من فرص العمل ويسمح للتجار بالوصول إلى المزيد من الأسواق، كما يسهم في فتح أبواب التسوّق الرقمي، الأمر الذي يوفر المزيد من فرص العمل.
3- التغيّر المناخي
يمكن للتكنولوجيا القفز بخطوات كبيرة تجاه تحسين المناخ، حيث طوّرت التكنولوجيا وحسّنت من طرق توليد الطاقة وتقليل انبعاثات الوقود وتوفير استخدام الماء والكهرباء عند الناس.
4- النقل
يمثل النقل في الوقت الحاليّ 23% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية المرتبطة بالطاقة، فتقدم السيارات الكهربائية حلًا واعدًا لهذه المشكلة، حيث تتوافر بطاريات أكثر كفاءةً، ويمكن لأجهزة الاستشعار المدمجة في الطرق أيضًا مراقبة وقوف السيارات وتدفق حركة المرور للحد من الازدحام والتلوث.
5- السلامة العامة
يمكن لمجموعة من التقنيات أن تساعد في زيادة السلامة العامة في جميع أنحاء العالم، ويمكن أن تتيح اتصالات وتطبيقات الطوارئ القائمة على الموقع لأولئك المعرضين للخطر أن تعرف السلطات مكانهم وتقدم المساعدة لهم من المسعفين أو غيرهم من الأشخاص القريبين.
6- الزراعة
وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، سنحتاج إلى إنتاج 70% من الأغذية عام 2050 مقارنة بعام 2006 لدعم النمو السكاني في العالم.
يستخدم المزارعون والشركات الزراعية بشكل متزايد تقنيات الزراعة العملية أو حلول “الزراعة الذكية” ومراقبة الماشية واختبار المعدات وقياسات التربة والطقس، لتعزيز الكفاءة والإنتاجية واتخاذ القرارات في عملهم اليومي.
7- الإغاثة في حالات الكوارث
يوفر الابتكار في التكنولوجيا طرقًا جديدةً وأكثر فاعلية للتعامل مع آثار الكارثة، بدءًا من تحسين الطريقة التي يمكن بها للناجين التواصل، إلى مساعدة خدمات الطوارئ على كسب الوقت الثمين والمعلومات المهمة للضحايا.
يمكن استخدام الطائرات دون طيار لإسقاط حزم المساعدات التي تشتد الحاجة إليها في المناطق المعزولة، ويمكن للتطبيقات المحمولة أن تساعد خدمات الطوارئ في الاستجابة بسرعة أكبر وفعالية أكبر من خلال توفير المعلومات المهمة بسرعة.
مساهمة التكنولوجيا في حل المشكلات الصحية في المدن الكبيرة
تعد الرعاية الصحية من أهم الصناعات التي تلعب التكنولوجيا دورًا حاسمًا فيها، فهي المسؤولة عن إنقاذ عدد لا يحصى من الأرواح في جميع أنحاء العالم.
التكنولوجيا الطبية مجال واسع يلعب فيه الابتكار دورًا حاسمًا في الحفاظ على الصحة، حيث قدمت مجالات مثل التكنولوجيا الحيوية والمستحضرات الصيدلانية وتكنولوجيا المعلومات وتطوير الأجهزة والمعدات الطبية وغيرها الكثير، مساهمات كبيرة في تحسين صحة الناس في جميع أنحاء العالم.
من الابتكارات الصغيرة مثل الضمادات اللاصقة وأقواس ربط الكاحل، إلى التقنيات الأكبر والأكثر تعقيدًا مثل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي والأعضاء الصناعية والأطراف الاصطناعية الآلية، فالتكنولوجيا أحدثت بلا شك تأثيرًا مذهلًا في الطب.
ما تكنولوجيا الرعاية الصحية؟
يشير مصطلح تكنولوجيا الرعاية الصحية إلى استخدام أي أدوات أو برامج لتكنولوجيا المعلومات مصممة لتعزيز الإنتاجية في القطاع الطبي وإعطاء رؤى جديدة في صناعة الأدوية والعلاجات أو لتحسين الجودة الشاملة للرعاية المقدمة.
تبلغ استثمارات الدول في صناعة الرعاية الصحية المعتمدة على التكنولوجيا نحو تريليوني دولار، وهو سوق متنامٍ بشكل كبير، واستخداماتها تتوسع يومًا بعد آخر.
أهم الأدوار التي لعبتها التكنولوجيا في حل مشكلات القطاع الصحي في المدن الكبيرة
1- رقمنة السجلات الطبية
لعلّ من أوائل الأدوار التي لعبتها التكنولوجيا في القطاع الصحي كان رقمنة السجلات الطبية، ولهذه الخطوة فوائد كبيرة، إذ يمكن الوصول إليها بسهولة وإمكانية تخزين معلومات كاملة عن المريض قد تُنسى مع مرور الوقت مثل تحسس المريض من أحد أنواع الدواء، ومتابعة حالة المريض ومدى استجابته للعلاج، إضافة إلى توفيرها لقاعدة بيانات ضخمة يمكن تحليلها من الباحثين واستخدامها للتنبؤ بالأمراض.
2- البيانات الكبيرة والسحابة
“السحابة” هي الكلمة الطنانة التي نسمعها بكثرة في هذا الوقت، وغالبًا ما تشير إلى خزن المعلومات في قواعد بيانات كبيرة ومؤمنة، ويمكن الوصول إليها من أي مكان في العالم. عند تحليلها بواسطة خبراء البيانات، فإن هذه المعلومات لها فوائد متعددة مثل: خفض تكاليف الرعاية الصحية والتنبؤ بالأوبئة وتجنب الوفيات التي يمكن الوقاية منها وتحسين نوعية الحياة وتقليل الهدر الحاصل في الرعاية الصحية وتطوير عقاقير وعلاجات جديدة.
3- التطبيب عن بعد
يمكن استخدام مصطلحي “التطبيب عن بُعد” و”الرعاية الصحية عن بُعد” للإشارة إلى استشارات الفيديو ثنائية الاتجاه أو نقل بيانات الرعاية الصحية من المريض إلى الطبيب المشرف عن بعد.
يمكن استخدام الطب عن بُعد في العديد من المجالات، وخاصة في قطاع مثل الرعاية الصحية للقلب والأوعية الدموية، كما يمكن لتقنية التحكم عن بُعد مراقبة العلامات والأعراض وحتى مستويات الدم الحيوية من مكان بعيد، كذلك يمكن بفضل هذه التقنية إجراء عمليات جراحية روبوتية، حيث لا يحتاج الأطباء في بعض الحالات إلى الوجود في غرفة العمليات مع المريض عند إجراء الجراحة.
4- التقنية القابلة للارتداء
تجمع هذه الأجهزة البيانات على مدار الساعة عن المريض، مما يساعد الأطباء والمرضى على حد سواء على مراقبة وتقييم صحة مرتديها، بالإضافة إلى الأجهزة التي تنبه السلطات بشأن المشكلات الطبية الخطيرة عن المرضى والتدخل بسرعة قبل تفاقم وضعهم الصحي.
5- الطباعة ثلاثية الأبعاد
قطعت الطباعة ثلاثية الأبعاد شوطًا طويلًا منذ ظهورها، خاصة في استخداماتها في صناعة الرعاية الصحية، تساعد هذه التقنية على صناعة الأطراف الصناعية وإصلاح الأنسجة التالفة وإنتاج بشرة واقعية لضحايا الحروق.
6- الواقع الافتراضي لعلاج الأمراض النفسية
الصحة العقلية واحدة من القطاعات الناشئة للرعاية الصحية التي تستفيد حقًا من تدفق التكنولوجيا، يُنظر إلى الواقع الافتراضي على أنه ضوء ساطع في مكافحة الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة وحتى مرض الزهايمر.
7- الطب النانوي
الطب النانوي مجال يتطور بسرعة ويتحكم في الذرات والجزيئات الفردية في مستوى”النانومترية” البالغة من 1 إلى 100 نانومتر من حجم الخلايا.
مقارنة بالأدوية التقليدية، فالطب النانوي أفضل بكثير في أنظمة الاستهداف والتسليم بدقة، مما يمهد الطريق نحو مكافحة الأمراض المعقدة مثل السرطان
يستخدم الطب النانوي بشكل رئيسي في تشخيص الأمراض المختلفة وعلاجها والوقاية منها بشكل فعال.
مقارنة بالأدوية التقليدية، فهو أفضل بكثير في أنظمة الاستهداف والتسليم بدقة، مما يمهد الطريق نحو مكافحة الأمراض المعقدة مثل السرطان. قد تصل قيمة سوق الطب النانوي العالمي إلى أكثر من 350 مليار دولار بحلول عام 2025.
8- التواصل
تتيح التقنية الكثير من الوسائل التي تسهل للأطباء التواصل مع مرضاهم، حيث تشير الإحصاءات أنه في عام 2015، استخدم ما يقرب من 80% من الأطباء الأجهزة المحمولة والتطبيقات الطبية للتواصل مع المرضى.
وهي مفيدة جدًا لمتابعة حالات المرضى القاطنين في الريف دون الحاجة للقدوم إلى المدينة، كما يمكن من خلالها الوصول إلى سجلات المرضى وكتابة الوصفات الطبية وتحديد المواعيد بشكل مباشر مع المريض.
9- تقليل الوفيات بين الرضع
في المدن منخفضة الدخل التي ترتفع فيها معدلات وفيات الرضع، يمكن للتدخلات القائمة على البيانات التي تركز على صحة الأم والطفل وحدها أن تقلل من سنوات العمر المصححة بأكثر من 5%.
من الممكن إجراء تخفيض آخر بنسبة 5% في حالة استخدام المدن النامية لأنظمة مراقبة الأمراض المعدية لتبقى متقدمة على الأوبئة سريعة الانتشار.
بعض مخاطر توسع التكنولوجيا
لا يمكن إنكار المزايا العديدة للتكنولوجيا في مجال الرعاية الصحية، ولكن كما هو الحال مع جميع الاختراقات التكنولوجية، هناك عدد قليل من القضايا التي تتطلب الاهتمام
إن الشاغل الرئيسي الناجم عن تكنولوجيا الحوسبة السحابية وزيادة استخدام الهاتف المحمول هو الأمن وحماية البيانات.
يمكن أن يتفق الجميع على أن التكنولوجيا الذكية لديها القدرة على جعل حياتنا أكثر بساطة – خاصة في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان – لكن يجب تنفيذ هذه التكنولوجيا بطريقة مخطط لها بعناية وآمنة للغاية
عام 2015، سرق المتسللون بيانات لنحو 80 مليون عميل وموظف لشركة Anthem، وهي ثاني أكبر شركة تأمين صحي في الولايات المتحدة. تم سرقة الأسماء والعناوين فقط (لم تكشف تفاصيل الأمراض أو العلاجات)، ولكن إذا حدث ذلك لشركة التأمين العملاقة مثل Anthem، فسوف يثير ذلك تساؤلات عن مدى وجود سجلات آمنة للمرضى في العيادة المحلية المتواضعة.
كذلك حتى مع وجود أكثر التقنيات تطورًا، لا يمكن نسيان الأخطاء البشرية بالكامل، فيمكن بسهولة فقدان الأجهزة المحمولة أو سرقتها، كما أنها عرضة للقرصنة والبرامج الضارة والفيروسات (خاصةً إذا كانت الأجهزة مستخدمة في اتصالات الإنترنت غير الآمنة).
يمكن أن يتفق الجميع على أن التكنولوجيا الذكية لديها القدرة على جعل حياتنا أكثر بساطة – خاصة في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان – لكن يجب تنفيذ هذه التكنولوجيا بطريقة مخطط لها بعناية وآمنة للغاية.
وبدلًا من التركيز فقط على ما يمكن أن يفعله الحل، يجب على المطورين وشركات التكنولوجيا أيضًا التفكير في كيفية تأثيره على الأشخاص الذين يتعاملون معه، لا سيّما أن هناك بعض التكنولوجيات باهظة الثمن، لكن على العموم ما أحدثته التكنولوجيا من تحسين وتطوير للقطاعات التي دخلتها، تكاد لا تذكر سيئاتها إن وجدت.