فوجئت عائشة (50 عامًا) ابنة مركز بني عبيد بمحافظة الدقهلية (شمال شرق) بخلو الوحدة الصحية التابعة لها من أي أطباء، وذلك حين كانت في مراجعتها الشهرية بشأن معاناتها من كليتها اليسرى، وحين وصلت في الموعد المدون على بطاقة المراجعة لم تجد إلا ممرضتين وعددًا من الموظفين.
في البداية توقعت الخمسينية المصرية أن الطبيب المعالج ربما يكون قد تأخر لظروف ما، ومن ثم جلست في انتظاره دون أن تسأل أي من الموظفين عن سبب تأخره، لكن ها هي الساعة تقترب من الثانية عشر ظهرًا، وهو الموعد الخاص بغلق العيادة، وعلى الفور دخلت لتسأل وكانت المفاجأة: “الدكتور سافر السعودية ولسة في انتظار دكتور جديد”.
حالة من الهستيريا أصابت عائشة التي صرخت بأعلى صوتها: “إزاي وحدة صحية من غير دكتور؟ الناس تتعالج فين؟”، لتجد ردودًا صادمة من العاملين هناك: “إحنا بلغنا وهم قالوا هيبعتوا لنا طبيب امتياز مؤقتًا وكان المفروض أن يحضر أمس لكن ظروف ما أخرته”، وحين علا صراخ المرأة كان الرد: “اذهبي إلى مستشفى بني عبيد المركزي أفضل.. هناك أكيد ممكن تجدي أطباءً”.
هروب الأطباء أو على الأحرى خروجهم للعمل خارج مصر بات ظاهرة عامة خلال العقدين الأخيرين على وجه التحديد، وذلك بعدما فتحت دول الخليج خصوصًا أبوابها للأطباء المصريين برواتب مغرية في الوقت الذي يعانون فيه من وضعية متدنية داخليًا سواء من حيث معدلات الأجور والرواتب أم المظلات التأمينية فضلاً عن القيود والتضييقات المفروضة على عملهم خارج المستشفيات الحكومية وهو ما يجعلهم معظم الوقت تحت طائلة المساءلة القانونية.
وعام تلو الآخر تخرج أفواج الأطباء – بمختلف تخصصاتهم – خلف الأفواج لينضب معين المنظومة الصحية رويدًا رويدًا إلى الحد الذي دقت فيه الحكومة المصرية على لسان وزيرة الصحة ناقوس الخطر لهذا التهديد الذي يضع صحة الملايين على المحك.. ليبقى السؤال: ما الحل؟
أوضاع متدنية
“قبل أن يلام الطبيب لا بد أن تلام المنظومة بأكملها”، هكذا علق أحمد سعد، الطبيب العامل بأحد مستشفيات وزارة الصحة، على ظاهرة هروب الأطباء للخارج، متسائلاً: كيف لطبيب أن ينفق على أسرته المكونة من زوجة وطفلين براتب شهري لا يتجاوز 3000 جنيه (180 دولارًا) وهو الذي قضى حياته كلها متفوقًا علميًا”.
وأضاف سعد لـ”نون بوست” أن معظم الأطباء خاصة الخريجين منهم يبحثون عن السفر مع انتهاء فترة التكليف (عام)، مشيرًا أن أقل راتب قد يحصل عليه الطبيب في دول الخليج لا سيما السعودية 10 أضعاف ما يحصل عليه في مصر، هذا بخلاف عمولته والتأمين الصحي الجيد والحياة المرفهة.
قرابة 6300 طبيب وطبيبة تقدموا باستقالاتهم من العمل في وزارة الصحة منذ عام 2016 وحتى اليوم
وتابع “أنا سافرت للعمل بالرياض قبل 10 سنوات تقريبًا، حينها كنت ممارس عام في وزارة الصحة المصرية، كان راتبي في هذا التوقيت 250 جنيهًا، التحقت بأحد المستوصفات في العاصمة السعودية براتب 6 آلاف ريال، ومع مرور الوقت حصلت على الماجستير ثم الدكتواره وبلغ راتبي اليوم 17 ألف ريال أي ما يعني 76 ألف جنيه مصري، هذا في الوقت الذي يحصل زميلي في مستشفى الزقازيق العام على 3500 جنيه”، متسائلًا: “هل هذا معقول؟”.
فيما حمّل الطبيب شاكر محمود المنظومة بأكملها مسؤولية ما وصل إليه الحال الآن، متسائلًا: هل من المنطق أن تكون بدل العدوى للطبيب – الذي يحتك كل يوم بأمراض معدية لا تعد ولا تحصى – لا تتجاوز 10 جنيهات في الوقت الذي يحصل غيره على 3000 جنيه وهو جالس على مكتبه؟
مضيفًا “الأمر لم يقف عند حاجز الرواتب الهزيلة وفقط، حتى المظلة التأمينية تعاني من خلل”، لافتًا إلى أن السنوات الأخيرة على وجه التحديد شهدت تعديات غير مسبوقة على الأطباء من الأهالي والبلطجية في ظل حالة الخصومة الواضحة بين الوزارة ممثلة عن الحكومة ونقابة الأطباء التي تطالب بحق أبنائها في حياة كريمة وتوفير المناخ الملائم لممارسة عملهم.
مطالبات بتحسين الأوضاع دون استجابة
موجة استقالات
محمود لفت إلى أن الأعوام الأربع الأخيرة على وجه التحديد زادت معدلات استقالات الأطباء بصورة غير مسبوقة، تعزز هذا الأمر بعد قرار التعويم الذي أغرى الكثيرين بالسفر بعدما دخلت الأسعار في نفق مظلم مقارنة بالسقوط المدوي للعملة المحلية أمام العملات الأجنبية.
وكشف أنه خلال عام واحد فقط تقدم أكثر من 5 أطباء أصدقاء له باستقالتهم من وظائفهم الحكومية وذلك بعد تعنت الإدارة في السماح لهم بالسفر نظرًا للعجز في بعض الأماكن، ما دفعهم للتخلي عن حلمهم الوظيفي من أجل فرص عمل بالخارج، وتابع “كلها عشر سنوات ويرجعوا يفتحوا عيادة بعد ما يكونوا كونوا نفسهم بشكل كبير ما يغنيهم عن الوظيفة الحكومة والمعاش وخلافه”.
وتشير الإحصاءات إلى أن قرابة 6300 طبيب وطبيبة تقدموا باستقالاتهم من العمل في وزارة الصحة منذ عام 2016 وحتى اليوم، حيث ارتفع العدد من 1044 طبيبًا خلال عام 2016، ليصل حتى 2049 طبيبًا في 2017، وازداد إلى 2397 طبيبًا عام 2018.
نقابيون ومسؤولون حذروا من أن موجة الاستقالات تلك تهدد مهنة الطبّ في مصر إذا استمر الحال على ما هو عليه، ما دفع النائب محمد فؤاد عضو مجلس النواب، بتقديم طلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء ووزيرة الصحة، بشأن ارتفاع نسبة الاستقالات بين الأطباء مؤخرًا.
ما يزيد على 70 ألف طبيب من جميع التخصصات يعملون في السعودية بنسبة 60% من إجمالي عدد الأطباء
فؤاد في إحاطته قال: “تابعنا مؤخرًا أزمة نقص عدد الأطباء وأثره السلبي على عدد كبير من المستشفيات الحكومية وتصريحات وزيرة الصحة بذلك حيث قالت في تصريح لها أمام المجلس الثلاثاء 18 من سبتمبر 2018 إن 90% من الأطباء سافروا للعمل بالخارج وإن هناك عجزًا شديدًا في عدد الأطباء”، وتابع “ما زاد الأمر سوءًا بالنسبة للمحافظات الأخرى خاصةً المناطق النائية هو سوء توزيع الأطباء حيث بلغت نسبة الأطباء المستقرين في القاهرة 45% من عدد الأطباء، فهناك 450 وحدة صحية بالريف والصعيد لا يوجد بها طبيب أي هناك نحو 1500 قرية مصرية محرومة من الرعاية الصحية”.
وفق التقديرات فإن رواتب الأطباء بعد تخرجهم وتعيينهم في وزارة الصحّة لا تزيد على 3 آلاف جنيه (180 دولارًا)، ورغم أن القانون يسمح لهم بفتح عيادات خاصة لتحسين الدخل، فإن تكلفة تجهيز وفتح عيادة كبيرة للغاية وهو ما يدفع الطبيب لاختيار الطريق الأيسر وهو البحث عن فرصة عمل بالخارج.
30% نسبة العجز داخل مستشفيات مصر
%60 من الأطباء المصريين في السعودية
تتباين التقديرات المتعلقة بإجمالي عدد الأطباء في مصر، فبينما تشير وزارة الصحة إلى 103 آلاف طبيب، يذهب خالد هلالي، عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، إلى أن ما يقرب من 280 ألف طبيب مقيد في نقابة الأطباء المصرية، منهم 200 ألف في الخدمة، مشيرًا إلى أن هذا العدد يتضمن العاملين في الجامعات والجيش والشرطة ووزارة الصحة، والمسافرين للخارج.
بينما تذهب الدكتورة حنان جرجس الخبيرة السكانية ونائب رئيس المركز المصري لبحوث الرأي العام “بصيرة” إلى قلة عدد الأطبّاء في مصر عن المعدل العالمي لعددهم مقارنة بالسكان، إذ يوجد 10 أطبّاء لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 32 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن، ما يعني ضرورة مضاعفة عدد الأطباء ليصل حتى 5 أضعاف المعدل الحاليّ.
وزيرة الصحة في تصريحات لها أمام البرلمان في سبتمبر/أيلول الماضي، أكدت أن مصر بها 103 آلاف طبيب لـ100 مليون مواطن، وأن 60% من الأطباء المصريين سافروا للعمل في السعودية، وهو ما تؤكده إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة عن عام 2016.
تلك الإحصاءات كشفت أن ما يزيد على 70 ألف طبيب من جميع التخصصات يعملون في السعودية بنسبة 60% من إجمالي عدد الأطباء، وهو الرقم الذي أثار جدلًا لدى الشارع المصري خلال الآونة الأخيرة، لا سيما أنه في تزايد مستمر، الأمر الذي دفع الجميع لدق ناقوس الخطر بشأن مستقبل الخدمة الصحية في مصر.
وزير الصحة المصرية هالة زايد
المنظومة الصحية في خطر
“لا بد من إعادة النظر في اللائحة المعمول بها داخل وزارة الصحة، بدءًا من أوامر التكليف مرورًا بالرواتب والحوافز وصولًا إلى توفير المناخ الملائم لعمل الطبيب”، بهذه الكلمات استهل سعد حسنين، المدير العام الأسبق بوزارة الصحة، كلامه، لافتًا إلى أن المشكلة أكبر من مجرد أجور ورواتب.
وحذر حسنين في تصريحاته لـ”نون بوست” أن الأزمة التي تحياها المنظومة الصحية في مصر تعود إلى أكثر من عشرين عامًا، حين كان ينظر للطبيب على أنه واحد من أقل الدرجات الوظيفية في السلم الإداري مقارنة بغيره من أهل الحظوة الأقل علمًا والأكثر مالًا.
وأوضح أنه وعلى مدار السنوات الماضية بذل الأطباء ممثلين في نقابتهم جهودًا حثيثة لتحسين أوضاعهم عبر حزمة من التشريعات لكن معظمها باء بالفشل، وهو ما دفع الكثير إلى الكفر بالمهنة أو ما يسمونه الآن إعلاميًا “خدمة الوطن” وبات كل يبحث عن مصلحته الخاصة، فكانت الهجرة والسفر للخارج البديل الأنسب.
تطل ظاهرة هروب الأطباء للخارج برأسها من جديد، لكنها هذه المرة تحمل تهديدات ومخاطر ربما تضع مستقبل حياة المرضى المصريين على المحك
في البداية كانت الدولة تفتح أبوابها لكل من يفكر بالسفر لكن مع مرور الوقت بدأت الأزمة تكبر يومًا بعد الآخر، حتى وصلت نسبة العجز الآن إلى أكثر من 30% وهو ما يعني أن المستشفيات والمراكز الصحية والوحدات وملاحقها فقدت 30% من كوادرها البشرية من الأطباء، هذا في الوقت الذي يتزايد فيه معدل الإقبال على تلك الأماكن خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي دفعت الكثيرين إلى العلاج عبر منصات الجهات الحكومية بعدما باتت المراكز الخاصة حكرًا على أصحاب الأموال والنفوذ.
المدير الأسبق بوزارة الصحة المصرية اختتم حديثه بضرورة الإسراع في علاج الأزمة من جذورها في محاولة لإحياء ثقة الأطباء في منظومة بلادهم الصحة، وتوفير البيئة المناسبة لعودتهم، وإلا ستكون النتائج كارثية وحينها سيكون الباب مفتوحًا لأنواع أخرى من العلاجات التي تأتي في معظمها بعيدة تمامًا عن النظريات العلمية الموثوق فيها.
وهكذا.. تطل ظاهرة هروب الأطباء للخارج برأسها من جديد، لكنها هذه المرة تحمل تهديدات ومخاطر ربما تضع مستقبل حياة المرضى المصريين على المحك، هذا في الوقت الذي تقف فيه الحكومة مكتوفة الأيدي لا تفكر إلا في منافذ توفير الموارد اللازمة لإحداث هذا التطوير، وبينما هي تفكر وتطيل التفكير، آلاف المواطنين ينضمون يوميًا لقوائم الموت البطيء بسبب عدم وجود أطباء أكفاء أو ترك الساحة للمسعفين والمرضى وأنصاف المتعلمين.