لو سألنا البعض عن كتاب الواقعية السحرية، المعاصرين منهم الآن والسابقين، سوف يكون الرد سريعًا: الكاتب الكولومبي جابرييل غارسيا ماركيز تحديدًا روايته “مئة عام من العزلة” وخوان رولفو الكاتب المكسيكي وأحد أوائل منْ كتب ومهد لهذه المدرسة ومو يان الكاتب الصيني، وأخيرًا الياباني هاروكي موراكامي الذي تذهب معه الواقعية السحرية بعيدًا، حتى إنه يتجاوزها ويذهب لما بعدها في أوقات كثيرة.
أما بالنسبة للسينما، خصوصًا عالم الأنيميشن، فرائد الواقعية السحرية هنا، هو المخرج الياباني ميازاكي والإستديو الخاص به.
العجوز المسحور
ميازاكي هو عجوز مسكون بطفل مرح، ذو خيال كبير، مسحور بالسينما في صورتها التي يقدمها هو، بالشكل الذي يناسبه، بروح طفولية، مرةً تجده يخرج من جيبه طائرة، ومرةً داخل فقاعة كبيرة أو يكلم قطةً ترد عليه، ومرةً يدخل الغابة، تاركًا الواقع خلفه، مندفعًا لأبعد نقطة من السحر والخيال، في مدينة لم تكن يومًا موجودة من قبل إلا بعد أن تكونت في خياله في لحظة صفاء في أثناء تدخينه سيجارته.
هذا العجوز مدخن السجائر الشره الذي يبلغ الآن 78 سنة، مؤلف ومنتج ومخرج، له حالة خاصة في سينما الأنيمي الياباني، والسينما بشكل عام.
ما فعلته السينما بنا وبه
تذكرون “عدنان ولينا”؟ كنا نشاهده جميعًا مدبلجًا ولا نعرف مبتكره أو مخرجه أو من أين يأتي هذا العالم تحديدًا.
“سبيس تون” كانت وجهتنا الأولى على هذا العالم، وفي دنيا الأنمي، هاياو ميازاكي له نصيب كبير فيه، هو كان مخرج ومبتكر هذا المسلسل الذي بدأ بثه لأول مرة عام 1978 باليابان.
قد يبدو الأنمي، للبعض، عبارة عن سينما أو تلفزة موجهة للأطفال أو الفتية، لكن في حقيقة الأمر، هو أكبر من ذلك بكثير، ربما بدأ في أول الأمر موجهًا للأطفال والفتيان في صورته الأولى “الكوميكس” أو “المانجا”، لكن بعد ذلك تحول ليتسع فئة الشباب والكبار، ولم يعد يقتصر على تقديم فكرة “الرفاهية”، فقد تعدى هذه المرحلة وأصبح الآن يناقش أفكارًا فلسفيةً معقدةً، ما بعد الحياة وما قبلها، الأفكار العبثية والوجودية، فخلق حالة تستدعي التوقف والملاحظة، وأحد صناع هذه الحالة هو ميازاكي، لذا ما صنعته السينما بنا وبه، كثير.
جاري توتورو وحبة السكر
ما الذي سوف يحدث لك حين تنتظر في موقف الحافلة وتنظر جوارك، فتجد مخلوقًا غريبًا واقفًا جوارك، مخلوقًا شبه شفاف، وبدلًا من أن تفزع، تبتسم ويبتسم هو ويصبح صديقًا لك، ومع كل المخلوقات الأسطورية الأخرى التي لا نراها إلا في خيالنا، خصوصًا في فترة الطفولة.
ميازاكي صنع هذا في فيلمه “جاري توتورو“، حين أوجد هذا الوحش الأسطوري الجميل الذي نطلق عليه وحشًا لأننا لا نعرف من أين يأتي، وبالنسبة لي كان الفيلم كحبة السكر، لذيذة جدًا، وتنتهي بسرعة. الفيلم عن تلك المخلوقات التي رسختها الثقافة الشعبية، في اليابان بالأخص وآسيا عامةً، وميازاكي وجده مادةً جميلةً ومختلفةً لصنع أفلام مبهرة.
ميازاكي كان يدرس في الجامعة الاقتصاد والعلوم السياسية، لكن فجأة اهتمامه بأدب الطفل وموهبته في الرسم، جعله يغير رأيه تمامًا ويفعل ما هو موهوب فيه ومؤمن به.
الآن لدينا بجوار شخصية “ميكي ماوس” الشهيرة لوالت ديزني، شخصية “توتورو” التي أصبحت رمزًا وشعارًا للإستديو الخاص بميازاكي.
إستوديو غيبلي
مملكة الأحلام اللانهائية بالنسبة لمحبي ومشاهدي الأنيميشن، باستمرار، موجودة في إستوديو غيبلي الذي بدأ في الثمانينيات تحديدًا في العام 1985، على يد ميازاكي وتاكاهاتا، ويصبح فيلم قلعة في السماء Castle in the Sky أول فيلم من إنتاج الإستوديو، ومن إخراج ميازاكي الذي ولد لأب مهندس ومصمم طائرات، فعاصر الحرب العالمية الثانية بكل ما فيها من دمار لليابان، أحب رسم الطائرات جدًا ورأى حينها في وقت الحرب، كيف تتصارع القوى العالمية لامتلاك ترسانة حربية من الطائرات.
في سيرة المهندس الياباني جيرو هيركاشي Jiro Horikoshi مصمم “الطائرة ماتشوبيشي صفر” وجد ميازاكي ضالته، أخيرًا وجد شيئًا يجمع بين حبه وعشقه لرسم وتصميم الطائرات والفن، فأخرج فيلمه “في مهب الريح The Wind Rises“.
في هذا الإستوديو نشأت وخرجت أحلام ميازاكي ومعه تاكاهاتا رفيق حياته الفنية كما يقال، أصبحت واقعًا وحقيقةً، مطعمة بكل ما في الأسطورة والأحلام والخيال، فكانت عونًا لنا أن نشاهد فنًا مختلفًا، لم يكن يخرج لنا دون هذا الحب الكبير من صانعيه ومشاهديه، خصوصًا حب ميازاكي.
السلحفاة الحمراء
فيلم دون حوار، فقط شخصيات من صنع ميازاكي وموسيقى ساحرة وصمت وصورة بليغة تتكفل بكل شيء، وأخيرًا سلحفاة حمراء.
من كل هذه الأدوات التي تبدو بسيطة وغير مفتعلة، صنع ميازاكي فيلمًا لا يتعدى الساعة والنصف، تجلس لتشاهده وتتبع الصورة وتسمع الموسيقى، فيلم “The Red Turtle” هو أحد أفلام غيبلي الرائعة، لكنه مختلف تمامًا عما أنتجه الإستوديو من قبل، أراد ميازاكي وبمساعدة من المخرج تاكاهاتا أن يخرجا فيلمًا صامتًا تعبر فيه الصورة والموسيقى والقصة التي سوف تروى من خلالهم.
جزيرة منعزلة وأنت فقط مع الطبيعة، تتحاور معها وتشاركها بكل شيء، قصة بسيطة، لكن في بساطتها هذه رحلة من أمتع الرحلات التي يمكن أن تذهب فيها.
جيرو ميازاكي الابن لأبيه
في 1995، وضع ميازاكي وتاكاهاتا ثقتهما في مخرج شاب اسمه “كوندو” سبق له العمل مع ميازاكي من قبل، ورأوا فيه أنه يصلح لقيادة إستوديو غيبلي فيما بعد، ليخرج كوندو فيلم “Whisper of the Heart“، ويصبح من بعدها المدير التنفيذي للشركة، لكن الموت خطفه وهو عمره 47 عامًا، كانت صدمة قوية جعلت ميازاكي يعلن اعتزاله لأول مرة.
بعد أن عاد ميازاكي من اعتزاله وتولى مرة أخرى أمر الإستوديو، اهتم بإنشاء متحفًا لغيبلي، وبالفعل ظهر المتحف في العام 2001، هذا المتحف كان سببًا في ظهور جيرو ابن ميازاكي الذي يعمل مهندسًا مدنيًا، ونفذ تصميمات والده للمتحف، الأمر الذي جعله يدخل عالم الرسوم المتحركة بعد أن كان والده معارضًا لهذا بشدة، الآن الشركة في يده ومحبي إستوديو غيبلي في انتظار ما سوف يقدمه، وسوف يكون أمرًا عظيمًا لو تعاون الأب والابن في عمل واحد.