بعد تجاوز الأسبوع الثامن من التظاهرات التي شهدها العراق، ما زال أفق الحل السياسي يبدو بعيدًا بعض الشيء، ففي مقابل إصرار الطبقة السياسية الحاليّة على حل كل المطالب التي ينادي بها المتظاهرون في ساحات التظاهر ضمن الأطر الدستورية الراهنة، يقابل المتظاهرون هذا الإصرار بإصرار آخر على تلبية المطالب ضمن رؤية سياسية يضعها المتظاهرون لا هذه الطبقة، وهو ما أوصل الوضع السياسي في العراق إلى حالة من الانسداد السياسي الذي ينتظر الخروج من عنق الزجاجة.
فعلى الرغم من تعدد الحزم الإصلاحية التي قدمتها الحكومة العراقية، إلى جانب توقيع الكتل السياسية على ما سمي “وثيقة الشرف” في مقر تيار الحكمة الأسبوع الماضي، فإن المتظاهرين ما زالوا مستمرين بحراكهم الشعبي الرافض لأي حلول ترقيعية، لإدراكهم الواضح بأن هذه الطبقة السياسية غير جادة بالذهاب نحو معالجة المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المواطن العراقي بصورة جذرية.
إن التأزم الحاصل في العملية السياسية الحاليّة نابع بالأساس من مقتربات داخلية وإقليمية ودولية، فإلى جانب رؤية الطبقة السياسية الحاليّة للعملية السياسية برؤية قائمة على مبدأ الغنيمة التي يجب أن تبقى ضمن دائرة الحزب والمليشيا، هناك توافق قوى إقليمي ودولي أيضًا على ضرورة تقاسم دوائر النفوذ في العراق، بالشكل الذي يخدم سياسات وأهداف هذه القوى، وهو ما جعل المواطن العراقي يرفع شعار “نريد وطن”، لإدراكه صعوبة عودة العراق مستقرًا وذا سيادة، في ظل بقاء هذه الطبقة السياسية وارتباطاتها الخارجية، التي جعلت العراق دائرةً للصراع والنفوذ، ولعل التسريبات الاستخبارية التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز الأسبوع الماضي تشير بما لا يقبل الشك إلى حجم التدخل والنفوذ الخارجي في العراق.
موقع إيران بعد انتفاضة البنزين
شكل انطلاق التظاهرات الشعبية في طهران والمدن الإيرانية الأخرى يوم 15 من نوفمبر 2019، بعد قرار الحكومة الإيرانية برفع سعر البنزين بنسبة 15%، حالة من الإرباك السياسي الذي عانت منه دوائر صنع القرار في إيران، خصوصًا أنها منهمكة في التعاطي مع التظاهرات الشعبية في بغداد وبيروت، وهو ما أدخلها في متاهات إستراتيجية قد تنعكس سلبًا على مشروعها السياسي في المنطقة، ما دفعها لاستدعاء قائد فيلق القدس قاسم سليماني من بغداد إلى طهران لمعالجة التظاهرات هناك.
النظام السياسي في إيران أصبح اليوم يواجه تحديات خطيرة أهمها الاستمرارية في نفس الوتيرة الإقليمية وتحديدًا في العراق الذي بدأ يشهد اليوم رفضًا شعبيًا لكل ما هو إيراني
النقمة الشعبية التي حملتها التظاهرات الأخيرة في إيران، على النظام السياسي من جهة والسياسة الخارجية الإيرانية من جهة أخرى، تشير بما لا يقبل الشك، بأن التظاهرات العراقية انتقلت بروحها وشعاراتها وممارساتها إلى شوارع إيران المنتفضة، ما يعني أن النظام السياسي في إيران أصبح اليوم يواجه تحديات خطيرة أهمها الاستمرارية في نفس الوتيرة الإقليمية وتحديدًا في العراق الذي بدأ يشهد اليوم رفضًا شعبيًا لكل ما هو إيراني، فضلًا عن ذلك فإن الروابط الإقليمية التي أنشأتها إيران خلال الفترة الماضية هي الأخرى مهددة، فالشعارات التي رفعها المواطنون الإيرانيون المنتفضون ضد سياسات النظام الإيراني، من قبيل “لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران” وغيرها من الشعارات تثبت بما لا يقبل الشك أن النظام السياسي الإيراني فقد الكثير من أدوات الإقناع والتأثير في عقلية حواضنه الاجتماعية، من ضرورة تجاوز أي اعتبارات سياسية أو اجتماعية في سبيل إنجاح المشروع الإيراني في العراق.
دخول الولايات المتحدة الأمريكية على الخط
جاءت زيارة نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس للعراق يوم 23 من نوفمبر 2019، في ظل ظروف سياسية حرجة تعيشها بغداد وطهران، لتجيب بالوقت نفسه على الكثير من الأسئلة عن طبيعة الدور الأمريكي في التعاطي مع التظاهرات الشعبية في هذين البلدين، إذ بدأت الولايات المتحدة تتدرج في عملية دعمها للتظاهرات العراقية، على خلاف ما حصل مع التظاهرات الإيرانية التي شهدت اهتمامًا أمريكيًا عالي المستوى، وقد يكون السبب الرئيس في ذلك هو مراهنة أمريكية على إمكانية أن تؤدي هذه التظاهرات إلى ركوع إيران بالنهاية وجلوسها على طاولة المفاوضات، أما في الحالة العراقية فيبدو أن الأمر مختلف قليلًا.
إذ تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أن المتظاهر العراقي الذي يرفض النفوذ الإيراني، سيرفض النفوذ الأمريكي بالمحصلة، ولهذا يبدو أن الولايات المتحدة أخذت تتدرج في استمالة الجمهور العراقي عبر تمرير رسائل عديدة منها إصدار بيانات داعمة للمتظاهرين ومنددة بالإجراءات الحكومية، وتسريب العديد من الوثائق الاستخبارية التي تتعلق بالدور الإيراني في العراق، وأخيرًا زيارة نائب الرئيس الأمريكي للعراق وإصداره لبيان داعم لحق التظاهر، ومطالبًا الحكومة العراقية بالامتناع عن استخدام العنف ضدهم.
إن تعدد مداخيل التأثير في الساحة العراقية بين قوى داخلية رافضة للتغيير وقوى إقليمية ودولية، يؤكد أن الوضع في العراق مرشح لمزيد من استمرار الوضع الراهن
فالموقف الأمريكي مبني اليوم على أن بقاء العراق ضعيفًا قد يخدمها أكثر مما لو نجحت التظاهرات وجاءت بعراق قوي، لأنه عندها لن تكون المصالح الأمريكية في مأمن، إلا أن إصرار المتظاهرين على عراقية هذه التظاهرات، يبدو أنه قد يجبر الولايات المتحدة على التعاطي مع حركتهم الاحتجاجية ضمن الشروط التي يضعها المتظاهرون لا تلك التي تضعها الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتالي يمكن القول إن تعدد مداخيل التأثير في الساحة العراقية بين قوى داخلية رافضة للتغيير وقوى إقليمية ودولية، يؤكد أن الوضع في العراق مرشح لمزيد من استمرار الوضع الراهن، فلا الحكومة العراقية ومجلس النواب لديهم القدرة على الذهاب باتجاه تبني إجراءات إصلاحية حقيقية تعكس طموحات الموطن العراقي، في مقابل إصرار المتظاهر العراقي على البقاء في ساحات التظاهر حتى تحقيق جميع المطالب، وهو ما يعني الدخول في لعبة صفرية قد تنتهي بانتصار أحد الطرفين.