أُسدل الستار مساء السبت الماضي على خلاف ظل مشتعلًا في إثيوبيا طيلة السنوات الماضية فحواه مطالبة قومية سيداما (أكبر قوميات إقليم الجنوب الإثيوبي) بالانفصال إلى إقليم مستقل، وهو ما تحقق بالفعل إذ حصل الانفصاليون على 98.5% من جملة الذين أدلوا بأصواتهم في الاستفتاء الذي انطلق بإقليم الجنوب في الـ20 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، وبالتالي يُصبح إقليم سيداما هو الإقليم العاشر ضمن الفيدرالية الإثيوبية التي أسس لها رئيس الوزراء الراحل مليس زناوي عام 1994 وبموجبها قُسمت إثيوبيا إلى 9 أقاليم وإدارتين، وفقًا للتوزيع الجغرافي للقوميات التي تعيش في البلاد.
الملاحظ أن إقليم الجنوب الإثيوبي يستأثر وحده بأكثر من 56 قومية ومجموعة عرقية من جملة 80 قومية كبيرة تعيش في إثيوبيا البلد الذي يبلغ عدد سكانه نحو 107 ملايين نسمة بالتقريب، ومنذ سنوات عديدة كان شعب سيداما أحد أكبر الشعوب والقوميات التي تقطن إقليم الجنوب الإثيوبي، يطالب بالانفصال عن الإقليم وتأسيس إقليم جديد يحمل الرقم 10 في إثيوبيا ويتيح لهم التمتع بمميزات الدولة الإقليمية المصغرة التي تتمتع بحكمٍ ذاتي ذي صلاحيات موسعة، حسب النظام الفيدرالي الإثيوبي.
سنتحدث في هذا التقرير بالتفصيل عن أسباب مطالبة شعب سيداما بالانفصال عن إقليم الأمم الجنوبية، ودلالات التصويت الكثيف الذي يصل لدرجة الإجماع على خيار الانفصال، وسنتطرق كذلك إلى التأثيرات الإيجابية والسلبية لخطوة الانفصال على مستقبل الفيدرالية الإثيوبية، وكذلك على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع إجراؤها في مايو/أيار من العام القادم، ولكن قبل ذلك كله يجدر بنا تقديم نبذة مفصلة عن إقليم الأمم الجنوبية وأبرز القوميات الإثيوبية التي تقطنه.
إقليم شعوب الجنوب.. بوتقة التنوع
ذكرنا بالأعلى أن إقليم شعوب الجنوب الإثيوبي “SNNPR” تسكنه أكثر من 56 قومية، وهنا نوضح أمرًا يلتبس على كثيرٍ من الناس، هو أنهم يظنون أن كلمة قومية تعني قبيلة، والحقيقة أن القومية الواحدة تنضوي تحتها مجموعة من القبائل، ولذلك فإن إقليم الجنوب الإثيوبي عُرف بأنه بوتقة فريدة من نوعها في التنوع الثقافي والاجتماعي.
عدد أبناء قومية السيداما يصل إلى نحو 4.5 مليون نسمة من إجمالي عدد سكان إقليم الأمم الجنوبية الذي يقدر بـ19 مليون نسمة
الشيء الآخر الذي يسبب التباسًا لدى البعض، عبارة “شعوب إثيوبيا”، فهي ليست مستغربة على بلدٍ لديه هذا الكم من المجموعات العرقية كل مجموعة تشكل شعبًا بحاله، فالائتلاف الرباعي الحاكم في إثيوبيا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم يحمل اسم “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية”، مع مراعاة التطورات الأخيرة وإجازة 3 من أحزاب الائتلاف الاندماج في حزب واحدٍ جديد يحمل اسم حزب الازدهار، وهي الخطوة التي رفضتها جبهة تحرير تغراي الحزب المؤسس للائتلاف الحاكم.
تقع مدينة أواسا “هواسا” عاصمة إقليم شعوب جنوب إثيوبيا التي تبعد عن العاصمة أديس أبابا بنحو 270 كيلومترًا داخل حدود إقليم سيداما الجديد مما سيجعلها عاصمة للإقليم الوليد بعد اكتمال إجراءات تشكيله، أما إقليم شعوب الجنوب الحاليّ فهو يقع على الحدود مع جمهورية كينيا التي يربطها به طريق بري، ومن جهة الجنوب الغربي يحاذي الإقليم جمهورية جنوب السودان، كما أن لديه حدودًا داخل إثيوبيا مع إقليمي أوروميا وغامبيلا.
ذكرنا أن عدد أبناء قومية السيداما يصل إلى نحو 4.5 مليون نسمة من إجمالي عدد سكان إقليم الأمم الجنوبية الذي يقدر بـ19 مليون نسمة، والسيداميون من الشعوب الكوشية، يمتهن أغلبهم حرفة الزراعة خاصة زراعة البن، إلى جانب تربية المواشي، بالإضافة إلى مهن أخرى متعددة، ويتحدث شعب سيداما لغتهم الخاصة “سيدامنجا” حسب تعبيرهم، وهي من اللغات الكوشية.
خريطة توضح الأقاليم الإثيوبية التسع واللون الداكن يحدد مكان إقليم سيداما المنتظر.. موقع بي بي سي
التنوع الثقافي والتراثي الذي يتميز به إقليم شعوب جنوب إثيوبيا جعله وجهةً عالمية للسياحة، خاصة عاصمة الإقليم هواسا التي تحتوي بحيرة خلابة تحمل الاسم ذاته، وسلطات الإقليم فطنت إلى أهمية السياحة فطورت البنية التحتية من طرق وخدمات ومؤسسات عامة مما جعل إيرادات السياحة تقفز إلى نحو 30 مليون دولار خلال العام الماضي.
لماذا طالب أبناء سيداما بالانفصال عن إقليم الجنوب؟
يقول عدد من السيداميين إنهم يشعرون بالتهميش وعدم تمثيلهم بشكلٍ يليق بعدد أبناء القومية الكبير (4.5 مليون شخص)، وذلك على المستوى المحلي داخل الإقليم وعلى مستوى الحكومة الفيدرالية، لذلك كانوا يطالبون منذ فترة بالانفصال عن إقليم جنوب إثيوبيا بحجة التهميش، رغم أن عاصمة الإقليم مدينة “هواسا” تقع داخل حدود منطقة قومية سيداما نفسها.
أما التصويت بكثافة لصالح خيار الانفصال الذي وصل إلى درجة الإجماع، حيث صوت أكثر من 2.3 مليون شخص لخيار الإقليم الجديد مقابل 33 ألف فقط جملة الذين صوتوا للبقاء ضمن إقليم شعوب الجنوب الحاليّ، فهو يعكس الرغبة الشديدة في الاستقلال للتمتع بالحكم الذاتي ذي الصلاحيات الموسعة التي تشمل صياغة دستور خاص وتأسيس حكومة وبرلمان خاص للإقليم الجديد، إضافة إلى تشكيل المؤسسات المحلية التي تضم إدارة للشرطة وأخرى للضرائب والإيرادات المالية إلى جانب الصحة والتعليم، فيما تُفوض الأقاليم الإثيوبية الحكومة الفيدرالية لإدارة ملف علاقات البلاد الخارجية، وإقرار السياسات العامة للدولة وحمايتها من أي تهديد أمني خارجي.
وعن دلالات التصويت الكثيف لخيار الانفصال، بكل تأكيد يعود لجهة الرغبة في الاستقلالية وتحقيق الذات، فالتاريخ يشرح أن كل دول القارة السمراء التي أُقيمت فيها استفتاءات مصيرية رجحت خيار الانفصال، وآخرها جنوب السودان الذي صوت مواطنوه بنسبة تقارب نسبة تصويت شعب سيداما على خيار الانفصال، ذلك لأن هذا الخيار جاذب لدعاة القومية ويغذي شعورهم بالانتصار والتفوق على الغير.
تأثيرات إيجابية وسلبية لانفصال سيداما
انقسمت اتجاهات الرأي العام بشأن استفتاء سيداما وانتهائه إلى الانفصال الذي كان متوقعًا من البداية، فلو كان السيداميون حريصون على البقاء ضمن إقليم الجنوب لما شددوا على مطالب قيام الاستفتاء، فريق رأى أن الانفصال حق منحه الدستور الساري في البلاد وأنه سيكون حلًا لأزمة ظلت تهدد إقليم شعوب الجنوب الإثيوبي منذ تسعينيات القرن الماضي. ففي يوليو/تموز الماضي أدت المواجهات في مدينة هواسا إلى مقتل نحو 60 شخصًا من أبناء سيداما إثر مواجهات مع قوى الأمن نتيجة مطالبتهم بالاستفتاء الشعبي، والفريق الأول كما ذكرنا يعتقد أن صفحة الصراع ستطوى بعد تلبية هذا المطلب في عهد الإصلاح الذي تنتهجه حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد الذي علق على الحدث بقوله: “استفتاء سيداما هو تعبير عن طريق التحول الديمقراطي الذي سلكته إثيوبيا”.
هناك مخاوف أخرى يبديها أبناء القوميات الأخرى التي تعيش في إقليم الجنوب الإثيوبي وخاصة في مدينة هواسا، إذ يتخوف بعضهم من احتمال التعرض إلى مضايقات أو فقدان وظائف حكومية أو التعرض إلى التمييز والعنف العرقي من بعض أبناء السيداما بعد أن أقروا الانفصال
لكن الفريق الآخر يبدو متشائمًا، فهو يرى أن خطوة الاستفتاء ونتيجته “الانفصال” ستكون كارثية على إقليم شعوب جنوب إثيوبيا إن لم يكن على البلاد ككل، فمن شأن الاستفتاء حسب رأي هذه الفئة، أن يشجع القوميات الجنوبية الأخرى على المطالبة بانفصالهم إلى أقاليم جديدة قد تصل إلى العشرات! فمنذ فترة تطالب شعوب جنوبية أخرى مثل القوراقي بالانفصال عن إقليم الجنوب، وقد تُغري التطورات الأخيرة قوميات أصغر حجمًا للمطالبة بالاستقلال مما يخلق حالة من الفوضى، أما السيناريو الأخطر على الإطلاق فهو استغلال الأقاليم القديمة أو الجديدة للمادة 39 من الدستور الإثيوبي التي تسمح للأقاليم بحق التصويت على الانفصال إلى دولة جديدة إذا طلبت ذلك، وهو ما لوح به بعض المنسوبين للحزب الحاكم في إقليم تغراي إثر تفاقم الخلافات بين قادة جبهة تحرير تغراي وحكومة آبي أحمد.
هناك مخاوف أخرى يبديها أبناء القوميات الأخرى التي تعيش في إقليم الجنوب الإثيوبي وخاصة في مدينة هواسا، إذ يتخوف بعضهم من احتمال التعرض إلى مضايقات أو فقدان وظائف حكومية أو التعرض إلى التمييز والعنف العرقي من بعض أبناء السيداما بعد أن أقروا الانفصال.
إنشاء إقليم سيداما سيأخذ وقتًا
على غير المتوقع ستكون إجراءات انفصال الإقليم الوليد معقدة لدرجة كبيرة، إذ سيتطلب وضع الدستور وتشكيل البرلمان الإقليمي وإنشاء مؤسسات الحكومة والأجهزة الأمنية وقتًا أطول مما هو متوقع، هذا إضافة إلى إقرار حصة الإقليم الجديد في البرلمان الفيدرالي بغرفتيه وكذلك المشاركة في الحكومة الفيدرالية، ولأن الملفات معقدة ومتداخلة، ستبقى مدينة هواسا عاصمةً لإقليم الجنوب لحين اختيار عاصمة بديلة وتشكيل مؤسسات الإقليم الجديدة لحكومة سيداما، أي أن هواسا ستكون عاصمةً مزدوجة لإقليمي الجنوب وسيداما لفترة ليست بالقليلة قد تمتد لسنوات.
ولجهة ما ذكرناه بالأعلى، نتوقع ألا تؤثر التطورات الجديدة في جنوب إثيوبيا بشكلٍ كبيرٍ على الانتخابات المزمع إجراؤها في العام القادم على المستويات كافة إذا ما قُدر تنظيمها في موعدها المقرر، ورغم أن الائتلاف الحاكم بقيادة آبي أحمد يعمل على دمج الأحزاب المشاركة فيه ضمن حزب الازدهار الجديد عدا جبهة تحرير تغراي الرافضة للخطوة، فإن انفصال سيداما يبرز التناقضات التي تعيشها إثيوبيا، بين ائتلاف حاكم يسعى لدمج الأحزاب المؤسسة على أساس عرقي وقوميات وشعوب تتجه إلى إنشاء المزيد من الأقاليم بحجة الاستقلالية والتهميش.
إلا أن التحدي الأكبر يبقى في كيفية حفظ الأمن والاستقرار والسيطرة على الصراعات والفتن العرقية التي تحدث في البلاد بين كل فترة وأخرى، حيث أدت أعمال العنف التي جرت مؤخرًا في أجزاء واسعة من إثيوبيا إلى خسارة الدولة نحو 300 مليون دولار باعتراف مفوض الاستثمار والأهم من ذلك فقدان الأرواح، حيث راح ضحية الأحداث الأخيرة ما يقارب الـ200 شخص وآلاف الجرحى والمصابين.
ما يميز استفتاء سيداما أنه جرى في أجواء رائعة من الهدوء والطمأنينة، فلم يشهد خلاله إقليم الجنوب أي مظاهر عنف أو صراع، وهذا ما نتمنى أن يستمر وأن تواصل الدولة أداء واجباتها، فالحريات ينبغي ألا تسمح بالعنف والصراع العرقي.