لم تكن كرة القدم منذ أن جلبها الاستعمار سواء الفرنسي أم البريطاني إلى العالم العربي مجرد لعبة للتسلية والترفيه، بل وظفت للوهلة الأولى لتحقيق غايات سياسية عن طريق “البروباغندا” التي صورت المعسكرات في ذلك الوقت على أنها واحة حضارية، ومقابلات كرة القدم وغيرها من المنافسات الرياضية على أنها مؤشر للتعايش السلمي ودليل على قبول أصحاب الأرض بالغازي الوافد.
وعلى نقيض ذلك، كانت الكرة المستديرة هي نفسها أداة لتشكل الوعي الوطني والشعور بالانتماء إلى الأرض، فحرص الأوائل على استغلالها وتطويعها وتحديد الدور الذي ستلعبه مستقبلًا في الكفاح ضد المستعمر، وذلك بعد أن تأكدوا من أن الغازي الذي دس أصابعه في كل مناحي الحياة (الاقتصادية والاجتماعية) استطاع توجيه الرياضة لغير وجهتها السليمة والطبيعية.
وعلى طريقة تونس والجزائر والمغرب، سارت ليبيا التي عانت بدورها من الاستعمار الإيطالي (1911-1951)، على ذات الدرب، واستغل الوطنيون فيها الرياضة لتوجيه الرأي العام وتأطيره من خلال إنشاء نوادي كرة القدم لمضاهاة فرق المستعمر والحفاظ على الهوية والثقافة العربية الإسلامية، وأصبحت الرياضة سلاحًا مضادًا يُشهر في وجه الغزاة.
الأندية الليبية ضد التغريب
دفع الإيطاليون بآلتهم الاستعمارية نحو ليبيا مستغلين فارق القوة العسكرية بينهم وبين الدولة الخاضعة لسيطرة الإمبراطورية العثمانية، وانتهجوا منذ أن وطئت أقدامهم تدعيم وجودهم عن طريق الاستيطان (الاستعمار الديمغرافي) واقتطعوا لأنفسهم أخصب الأراضي وأكبرها واستغلوها حتى عام 1970 تاريخ طردهم من ليبيا.
واستوطن العديد من الطليان الوافدين إلى ليبيا المناطق الساحلية خلال الحقبة الفاشية، وفي عام 1940 بلغ عدد الليبيين الإيطاليين ما يقرب من 110 آلاف أي ما يُقارب 12% من مجموع سكان ليبيا، وفي عام 1938 جلب حاكم إيتالو بالبو 20 ألف مستوطن إيطالي إلى المستعمرة الواقعة في شمال إفريقيا، وأنشأ لهم مستوطنات جديدة في البيضاء والمنصورة والعزيزية بطرابلس.
ويرى مهتمون بنشأة كرة القدم في العالم العربي أن الرياضة في ليبيا بدأت في مدينة بنغازي بعد الاحتلال الإيطالي للمدينة عام 1911، وفي ذلك الوقت، انتقلت اللعبة من معسكرات الجيش الغازي إلى الشوارع عندما بدأ الإيطاليون في ممارستها بميادين المدينة، ولم يُسمح لأصحاب الأرض بالمشاركة في البطولات التي نظمها الاتحاد الإيطالي على الأراضي الليبية واقتصرت المشاركة فيها على فرق كونت من وحدات جيش المستعمر، ومع مرور الوقت سُمح لهم بالمشاركة في مباريات ودية فيما بينهم ثم سمح لهم فيما بعد بتنظيم بطولات خاصة بهم فظهرت العديد من الأندية.
جمعية عمر المختار
قال علي مهدي الفايدي رئيس مجلس إدارة موقع “الكورة والناس” في تصريح صحفي إن كرة القدم ظهرت فعليًا في الشرق الليبي (بنغازي)، مضيفًا أنه في عام 1941 طرأت لأسعد بن عمران فكرة تأسيس جمعية عمر المختار بغرض الوقوف بجوار الأسرى في سجون الاستعمار بالقرب من صحراء القاهرة، قبل أن يحصل علي الفلاج ومحمود مخلوف والمهدي المطردي، على إذن من الاحتلال البريطاني لإنشاء فرع للجمعية بمدينة بنغازي.
مشيرًا إلى أن فريق أهلي بنغازي نبت من جمعية عمر المختار عام 1947 برئاسة محمد بشير المغربي، ورأى مؤسسو الجمعية تسمية الأهلي تعود إلى أن المبادئ التي يتبناها هي نفسها التي أُسس عليها الفريق المصري.
خاض الفريق العديد من المباريات وكانت تذهب أموال تلك المباريات لدعم المقاومة في ليبيا، وشارك لاعبو الفريق وجمهوره في التظاهرات التي خرجت ضد الملك والاستعمار عام 1954 وراح ضحيتها عدد كبير من لاعبي ومشجعي الفريق، قبل أن يتوقف النشاط الرياضي في النادي على إثرها.
نجح فريق أهلي بنغازي برئاسة مصطفي بن عامر في تأسيس ملعب يخوض عليه مبارياته وأخذ ذلك الملعب في البداية اسم ملعب البركة قبل أن يتحول إلى ملعب 24 ديسمبر، وكان لجمعية عمر المختار الوطنية دور كبير في إرساء دعائم النشاط الرياضي في إقليم برقة عامة ومدينة بنغازي خاصة وجل الفرق خرجت تقريبًا من رحمها.
وفي ذات السياق، تؤكد المصادر المحلية الليبية، أن مدينة بنغازي شهدت تأسيس أندية في العشرينيات من القرن الماضي لكنها أُلغيت أو أُدمجت مع فرق أخرى ومنها: نادي اتحاد الصابري (1926) ونادي التصدي (1926) ونادي الأمة (1930)، وعام 1938 شهد تأسيس الكثير من الأندية مثل: نادي الكشافة ونادي طلبة مدرسة الأمير الابتدائية للألعاب الرياضية ببنغازي ونادي البركة ونادي مصلحة البحارة ونادي الصمود ونادي الاستقلال ونادي الشعلة.
وفي طبرق (شرق ليبيا)، تأسست النواة الأولى لنادي الصقور في 1922، تحت اسم نادي طبرق واستمر لعدة سنوات إلى أن أغلقه الإيطاليون، ثم عاود نشاطه في فترة الثلاثينيات، واستمر حتى قيام الحرب العالمية الثانية، وأُسس رسيمًا عام 1947، والفريق ينشط الآن في الدرجة الأولى من الدوري الليبي.
الاتحاد في مواجهة الاستعمار
أما في العاصمة طرابلس، فالنادي الذي يُطلق عليه لقب العميد لعراقته، يعتبر أول نادي كرة قدم تأسس في البلاد بهوية وطنية في 29 من يوليو 1944، ومعقله الحي الشعبي الذي يعرفه القاصي والداني حي باب بن غشير، إثر اندماج فريق الشباب لكرة القدم التابع للنادي الأدبي مع نادي النهضة.
وللنادي شعار مكون من ثلاث حلقات ترمز إلى الولايات الليبية قبل الاستقلال، برقة وفزان وطرابلس، وهي الولايات التي حاول من خلالها الاستعمار تجزئة وتقسيم البلاد، وكان النادي من أشد الرافضين لفكرة التجزئة، واعتبر الاتحاد في تلك الفترة الفريق العربي الوحيد في طرابلس الذي يُزاول النشاط الرياضي، واستطاع تحقيق الكثير من الانتصارات على فرق الجيش البريطاني والفرق الإيطالية، وفرق الأسرى الألمان، وكان الفريق الوحيد الذي يرفع اسم ليبيا عاليًا، وتلتف حوله الجماهير الرياضية.
وكان له دور في دعم الثوار الجزائريين، فقادة الثورة الجزائرية كانوا يلتقون بشباب النادي ومن أبرزهم أول رئيس للجزائر أحمد بن بلة الذي قال الكثير في حق هذا النادي في برنامج شاهد على العصر بقناة الجزيرة الإخبارية، واستطاع أن يحقق البطولات من سنة 1944
وللنادي دور في الكفاح الوطني ضد الوجود الاستعماري في ليبيا، وتُشير المصادر إلى أن الإدارة العسكرية البريطانية منعت نشاط الفريق وأغلقت مقره لأسبوعين متتاليين خلال الشهر الثالث لتأسيسه، وذلك للمساهمة الفعالة التي أبداها أعضاء النادي في الإضراب الذي شنه المعلمون وبقية أفراد الشعب احتجاجًا على أعمال القتل والإرهاب التي كانت تُمارسها سلطات الاستعمار البريطاني آنذاك ضد أبناء الشعب العربي الليبي.
ومن مقر نادى الاتحاد الرياضي الثقافي الاجتماعي خرجت المظاهرة الشعبية في سنوات 1948/1949 الداعية إلى الحرية والاستقلال وتحريض الجماهير على الاستعمار البريطاني وإسقاط مشروع بيفن سفوزا، وحين كانت الإدارة البريطانية تغلق حزب المؤتمر الوطني آنذاك كان نادي الاتحاد يحل محله في تنظيم المظاهرات الوطنية الشعبية الغاضبة وإيواء العشرات من الشباب الذين كانت الشرطة تلاحقهم بالأسلحة والقنابل المسيلة لدموع في أثناء المظاهرات.
كما احتضن نادي الاتحاد زعامات المؤتمر الوطني بقيادة المناضل الكبير بشير السعداوي الذي اتخذ من نادي الاتحاد مقرًا له إلى أن نفته حكومة المملكة الليبية المتحدة سنة 1952، التي حاربت الاتحاد أيضًا وأرادت ضربه من الداخل وتقسيمه.
الرياضة والحريات.. بمقادير المستعمر
تؤكد المراجع التاريخية أن الاستعمار في حكم النظم الفاشية استخدم في البداية موقفًا متشددًا ضد الوطنيين الليبيين العرب الذين كانوا يقاتلونهم لسنوات طويلة في حرب عصابات خصوصًا في برقة تحت قيادة عمر المختار، وبعد إعدام “أسد الصحراء” تعرضت حركة المقاومة للقمع العنيف وأعدم عمر مختار سنة 1931، لينتهج بعد ذلك موسوليني سياسة تحسين صورة حكومته مع الليبيين العرب وانتهج سياسات لجذب ثقة قادتهم، ونجح الحاكم العسكري إيتالو بالبو في ضم 30 ألفًا من الليبيين العرب والبربر إلى الجيش الإيطالي سنة 1940.
وطور الإيطاليون البنية التحتية وركزوا على الصناعات الجديدة وأتاحوا الرعاية الطبية الحديثة لأول مرة وأفسحوا المجال لتكوين الجمعيات والأندية الرياضية.
إلى ذلك، فإن إعادة الاتصال بالماضي وبالذاكرة الكروية الليبية لا يمكن أن يقف عند مرحلة الاستعمار الإيطالي، فكرة القدم في ليبيا بعد الاستقلال ارتبطت بالتغيرات السياسية التي اقترنت بالانتقال من نظام حكم ملكي إلى جمهوري ومن ثم إلى الجماهيري بقيادة العقيد معمر القذافي.
ولنظام العقيد السابق علاقة خاصة بالرياضة التي وإن همشت في فتره حكمه إلا أن نجله الساعدي القذافي كانت له قصص غريبة داخل المستطيل الأخضر وخارجه.