عن دار الشروق بالقاهرة صدر مؤخرًا كتاب للدكتورة رضوى عاشور رحمها الله، تحت عنوان “لكل المقهورين أجنحة: الأستاذة تتكلم”، وهو مجموعة مقالات نشرت لها سابقًا في جرائد ومجلات ودوريات مختلفة، ومقالات لم تنشر من قبل، وبعض المقالات التي كتبتها باللغة الإنجليزية وترجمتها الأساتذة دعاء إمبابي وندى حجازي.
المقالات تحاول تقديم صورة أو تعريف لوجهة نظر رضوى عاشور في فن الرواية والتاريخ معًا، ولا تقف عند مسألة الرواية التاريخية باعتبارها أكثر الروائيين شهرةً في هذا النوع. تقدم لنا تلك المقالات أيضًا بعضًا من المعارضة الشجاعة التي قامت بها رضوى للأوضاع الضاغطة على الجامعات المصرية واستقلال الجامعة، وهي طالبة وأستاذة جامعية، كذلك علاقة رضوى بالكتابة نفسها، باللغة وما فيها من تراث وجمال، والأهم مقاومة التطبيع دائمًا.
“يصعب أن نكتب حياتنا مسقطين ذلك الواقع الذي يشكل هذه الحياة ويتغول عليها ويفسدها”.
تأملات في اللغة والأدب
“الرواية عمومًا، على ما أعتقد، هي النوع الأدبي الأكثر اشتباكًا بالواقع التاريخي”.
بسلاسة وصدق وأمانة تصف رضوى تاريخ ما جرى في ذلك اليوم، كيف ذهب هؤلاء الطلبة للسجون وهم يرددون في صوت واحد “بلادي بلادي”
يبدأ الكتاب بلحظة مهمة في تاريخ رضوى عاشور وهي طالبة وأستاذة جامعية وكاتبة كبيرة، أيضًا في تاريخ الحركة الطلابية، لحظة اعتصام الطلبة بالجامعة في العام 1972، اعتراضًا على سياسات أنور السادات الاقتصادية والموقف من الصراع العربي الإسرائيلي والرغبة التي كانت مشتعلة في نفوس الطلاب والمواطنين للدخول في حرب.
بسلاسة وصدق وأمانة تصف رضوى تاريخ ما جرى في ذلك اليوم، كيف ذهب هؤلاء الطلبة للسجون وهم يرددون في صوت واحد “بلادي بلادي”. كان هذا مجرد تمهيد يأخذ شكلًا روائيًا صنعته رضوى لتتحدث عن اللغة والأدب، عن القهر والمقهورين والأجنحة التي تنبت لهم.
معذبو الأرض
“إن الرواية فن مفتوح، مرنٌ فضفاض، أقرب لحوت الأسطورة في قدرته على ابتلاع أجسام كاملة”.
في ثلاثة مقالات متتالية ربطت رضوى بذكاء شديد، بين ثلاثة مفكرين من أهم المفكرين الذين مروا علينا، وهم: فرانز فانون وإقبال أحمد وإدوارد سعيد، وعلاقتهم ببعضهم وبالمجتمع الغربي والعربي، وعلاقة السلطة بالمثقف وتفاعله معها، كذلك مع الثورات، وأن هناك علاقة قوية وتاريخية تجمع الثلاثة ببعضهم، من خلال كتابتهم ومقابلاتهم، خصوصًا إدوارد سعيد وإقبال أحمد، فلم يلتق إدوارد بفرانز فانون مرة.
قد يبدو للقارئ أن رضوى في مقالاتها عن الثلاثة وربطها العبقري، تحدثت بإيجاز عنهم، لكن الصحيح هو العكس تمامًا، لقد تناولتهم رضوى بسهولة شديدة، ونظرت في كل شخص منهم باستفاضة كبيرة، وهو ما يؤكد أن رضوى لم تكن مجرد كاتبة تعرض رأيًا فقط في مسألة تشغلها، بل هي كذلك باحثة متعمقة.
“ولعل إنجاز سعيد لا يكمن أساسًا في بناء نسق فكري متكامل ومتماسك على طريقة الفلاسفة وكبار المفكرين، بل في قدرته على تركيب عناصر متباينة بما يتيح صنع أدوات ذات نفع تعزز موقفًا سياسيًا في جوهره، يعادي الإمبريالية”.
كيف بدأت الرواية عند العرب؟
“لم أكتب كتابًا في التاريخ بل رواية. ولكنني ككل رجل كاتب أو امرأة كاتبة أطمع أن أتدخل في التاريخ. أريد للحكاية أن تصبح ذاكرةً ووعيًا وحسًا وانتباهًا وخبرةً”.
تبدو رضوى في موقعها بالرواية العربية أشبه أو قريبة من موقع “محمد المويلحي” هي تأخذ جانبه، وتبعد تمامًا عن موقف التنويريين، ترى أنه موقف مضطرب. تمامًا كاضطرابه إزاء تاريخ ضاغط، فالتاريخ بالنسبة لرضوى دائمًا يشكل عالمها، فهي تنتمي لرواية التاريخ كما فعل “محمد المويلحي” في نصه “حديث عيسى بن هشام” النص الذي اعتبره الكثير أول رواية عربية، لكن جهة أخرى رأوا أن رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل هي أول رواية عربية، مبتعدين عن الفترة الزمنية، وناظرين للقيمة الفنية، خصوصًا أنها اتخذت نفس سمة الكتابة الأوروبية. تتحدث رضوى في بعض مقالاتها أيضًا بجانب اللغة والأدب ونظريات الرواية، عن مدارس وإشكاليات ونظريات أخرى مثل: البنيوية والنقد الحديث والتفكيكية والسريالية والتاريخيون الجدد، وإلى آخره.
مساحات القهر والمنفى والصمت
“في نصوص هذه الأجيال التي عاشت الهامش بأشكال مختلفة إعادة تصنيف للحيز الاجتماعي؛ والأمر الثاني هو إفساح لمساحات القهر والمنفى والصمت، لتدخل إلى متن الرواية العربية في مصر”.
منذ أن كانت رضوى في سن الخامسة عشرة وهي ينتابها تلك الرغبة في التدوين والتعبير عما يدور داخلها، مرورًا بالعدوان الثلاثي والنكسة وحتى حرب أكتوبر ومعاهدة السلام، كلها أشياء تلح بصورة كبيرة للتدوين عنها.
المثقفون نوعان كما أشارت رضوى: مثقف يرتضي لنفسه مهمة خلط الحابل بالنابل وما هو أصيل بزائف، ومثقف يختار أن يكون له موقف نقدي مهما كلفه هذا من مشاق
تواصل فعل الكتابة هو ما يجعل التغلب على الهزائم المتكررة والحروب المتتالية والمجازر والقمع والقهر، أمرًا ممكنًا، وهو ما اتجه إليه جيل رضوى بأكمله.
رضوى وجيلها امتلكوا الحكاية، كانوا وما زالوا فاعلين في التاريخ، بما تصدوا له من نصوص وأفكار ورغبة قوية في التغيير، ليس على المستوى الثقافي فقط، بل على مستوى كل شيء، خصوصًا السياسية.
المثقفون نوعان كما أشارت رضوى: مثقف يرتضي لنفسه مهمة خلط الحابل بالنابل وما هو أصيل بزائف، ومثقف يختار أن يكون له موقف نقدي مهما كلفه هذا من مشاق.
“أواصل فعل الكتابة لعل التفكيك والتركيب ينفعاني في الوصول إلى معنى ما، في تجاوز جنون ما، لعل الكلمات تمكنني من التعامل مع جغرافيا مهددة وتاريخ مهدد”.
شهادة كاتبة
هذه المقالات التي قسمت لستة أبواب، لكل باب منهم حكاية، هي بمثابة شهادة كاتبة على عصرها وعلى ما مرت به، ما اختبرته وعاشته، نجد مثلًا بابًا عن اللغة والأدب، الشيء الأول الذي تشتغل فيه رضوى وتوجهت إليه، وبابًا آخر عن فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي وعن رفض المثقفين معاهدة السلام والتطبيع مع “إسرائيل” ومحاولتهم بكل قوة، رفض هذا الأمر وتكوين جبهة لهم، كذلك معركة معرض القاهرة الدولي للكتاب من الفترة 1981-1985 ومنع “إسرائيل” من المشاركة في دورات المعرض.
عن الجامعة والثورة ومناقشة رضوى لمشكلة الدروس الخصوصية في وقت مبكر، وإنشاء الجامعات الخاصة، وتدهور التعليم، خصوصًا الجامعي، وعن رفاقها مثل الدكتورة فاطمة موسى وإدوارد سعيد ولطيفة الزيات وناجي العلي ونجيب محفوظ الذي حولت الدولة جنازته لأمر هزلي، لتمنع الناس والكتاب والمثقفين من المشاركة فيها.
“الكتابة بالنسبة لي، كما قلت سابقًا، هي محاولة استعادة إرادة منفية.. أكتب فيصبح لي فضاء يخصني وأتحول من متلق للفعل إلى فاعل في التاريخ”.
مقال كهذا لا يجوز أن ينتهي عند هذه النقطة، سوف أنهيه بما قاله زوج ورفيق رضوى مريد البرغوثي: “ابتسامتها رأي، وموضوع خطوتها رأي، وعناد قلبها رأي، وعزلتها عن ثقافة السوق رأي، رضوى جمال رأيها ورأيها جمالها”.