منذ مطلع هذا الشهر بدأت شبكة نتفليكس عرض الفيلم الأمريكي The King للمخرج الأسترالي ديفيد ميشود وذلك بعد مشاركته بمهرجان فينيسيا في دورته الماضية، الفيلم من بطولة الممثل الفرانكو أمريكي تيموتي تشالاميت الذي أدى دور الملك هنري الخامس، والممثل الأسترالي بن مندلسون الذي جسد دور الملك هنري الرابع، كما أدى الفنان روبرت باتينسون دور “دوفين فرنسا” أي وريث العرش الفرنسي، وأحداث الفيلم بُنيت بالأساس على مسرحيات الأديب العالمي وليام شكسبير: مسرحية هنري الرابع بجزأيها الأول والثاني وكذلك مسرحية هنري الخامس.
قصة الفيلم: الحروب الأهلية الطاحنة في إنجلترا
تبدأ أحداث الفيلم في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي حيث نرى الملك هنري الرابع الذي يحتضر وهو يغرق بلاده في حروب أهلية طاحنة وديون لا حصر لها وهو ما دفعه إلى فرض ضرائب على الكنيسة من أجل سد العجز في الموازنة العامة، وحين يجد الملك نفسه وقد وصل إلى نهاية الطريق يقرر استدعاء أكبر أبنائه الأمير هال المعارض لأبيه بشده الذي يعيش في شوارع إنجلترا الخربة غارقًا في ملذاته بصحبة صديقه جون فالستاف.
حين يقابل الأمير هال والده الملك يخبره الأخير بأنه لن يرث العرش مع أنه الأكبر ولكن سيرثه أخوه الأصغر توماس ضعيف الشخصية الذي سيقود حربًا ضد جيش هاري بيرسي المتمرد على الملك، ولأن هال كان يرى دائمًا أن والده قد أضاع المملكة ومزقها في حروب لا داعٍ لها فقد ذهب إلى ميدان الحرب ليقابل أخاه توماس وينصحه بالعدول عن قرار القتال مؤكدًا له أن هذه ليست معركته وأن هاري صديق طفولتهم ليس عدوًا، ولكن توماس لا يستمع لأخيه مما دفع بالأمير الصغير هال إلى استدعاء هاري كي يحاربا رجلًا لرجل نيابة عن جيشيهما وبالفعل يقتل الأمير الصغير هاري المتمرد في ميدان المعركة فيزيد هذا من ظهروه، ولكن أخيه يصمم على استمرار الحرب فيُقتل في ويلز وبالتالي يصبح هال الوريث الوحيد لعرش إنجلترا.
الأمير الصغير يتولى العرش ويتراجع عن مبادئه
منذ اللحظات الأولى لعرض الفيلم ندرك أن الأمير هال ساخط على سياسات والده ويرى أنه ضيع المملكة بقراراته الطائشة وحروبه المستمرة التي لم يكن هناك أي داع لها على الإطلاق، كان هال داعمًا قويًا للسلام ولكن منذ لحظة توليه للعرش وفي ليلة التتويج تحديدًا ستختلف الأمور، فعند استعراض الهدايا التي جاءت للملك بمناسبة توليه العرش نجد أن ملك فرنسا أرسل للملك الجديد كرة صغيرة للعب ومن هنا فسر حاشية الملك ذلك الأمر بأنه استهانة بملك إنجلترا الجديد وشعبه ويجب أن يرد بكل حزم على هذه الإهانة.
على الجانب الآخر كانت الكنيسة تحرض الملك هنري الخامس على اجتياح فرنسا لأنه وفقًا للنصوص الدينية فإن فرنسا من حق إنجلترا كما أنها كانت طموح والده الملك هنري الرابع لولا انغماسه في الحرب الأهلية، في البداية يرفض الملك قرار الحرب ولكنه يوافق في نهاية الأمر تحت ضغط حاشيته الخاصة التي أقنعته أن فرنسا أرسلت شخصًا لاغتياله وهذه تعد الإهانة الثانية لإنجلترا على يد فرنسا وعليه قرر الملك هنري الخامس في نهاية الأمر خوض الحرب.
الملك هنري الخامس والحرب على فرنسا
“إلى الملك تشارلز.. ملك فرنسا، إرسالك أحد لاغتيالي ما هو إلا عمل حرب طفولي، إن كانت هذه نيتك فمن رأيي أن تصرح بها بوضوح وأن تكف عن مساعيك الخبيثة والمخجلة التي أنت بصددها الآن، إن كنت تسعى للحرب فارسل جيشًا بكل ثقله لأن الملك هنري الخامس الذي استهنت به كثيرًا لن يتراجع بعد الآن”، كانت هذه هي فحوى الرسالة التي بعثها الملك هنري إلى ملك فرنسا ثم توجه بعدها مباشرة قاصدًا الأراضي الفرنسية.
في أثناء رحلته البحرية إلى فرنسا ومع ارتفاع أمواج البحر كانت هناك أيضًا أمواج تتلاطم بداخله، إذ كان الملك الصغير يخوض صراعًا داخليا محمومًا، ذلك الفتى السكير المتشرد الذي جاء من مجارير “إيستشيب” قبل أسبوعين فقط، كيف اعتلى عرش إنجلترا ولماذا وجد نفسه فجأة ودون مقدمات مدفوعًا إلى خوض حرب على فرنسا؟ ما حقيقة الحرب؟ وكيف يتحقق الانتصار حتى مع موت الكثير؟ كم تدوم مدة هذا الانتصار؟ ولماذا دومًا ما يأتي بعده يكون قبيحًا؟
فور وصوله إلى فرنسا يبدأ الملك الصغير بمهمة الحصار وذلك حتى يستسلم الملك تشارلز ملك فرنسا، ولكن ولي عهده ووريثه الوحيد يأبى إلا أن تستمر الحرب وهنا ستدور معركة “أجينكورت” التي بدأت صباح يوم 25 من أكتوبر 1415 وارتكزت بالأساس على استخدام الرماة الذين قُدر عددهم في هذه المعركة بنحو 7000 رامٍ، وقد لعبت أرض المعركة دورًا كبيرًا في حسم نتائجها، إذ دارت رحاها في أرض طينية محروثة مؤخرًا في منطقة وسط الغابات ولأن المطر انهمر بشدة حينها فقد تحولت ساحة القتال إلى أرض موحلة تمامًا مما اضطر الجنود الفرنسيين إلى السير مسافات طويلة في الوحل وهو ما أرهقهم بشدة وحسم المعركة لصالح الجيش الإنجليزي، وهنا حقق الملك الصغير انتصارًا كبيرًا وعاد إلى بلاده رافعًا رأسه ولكنه خسر صديقه جون فالستاف في المعركة وقبل عودته أمر الملك هنري الخامس بقتل جميع الأسرى الفرنسيين وترك جثثهم على حافة النهر.
هل حكى لنا شكسبير قصة الملك هنري الخامس الحقيقية؟
في الأعمال الفنية والسينمائية لا يجب أن تكون جميع الأحداث التاريخية صحيحة، ربما يجب تطعيم القليل من الخيال وإضافة بعض الشخصيات الخيالية، فالأفلام والمسرحيات والروايات غير ملتزمة براوية التاريخ كلية، ولكن ما حدث مع فيلم The King مختلف بعض الشيء، فشكسبير ومن بعده كاتب سيناريو الفيلم لم يكتفوا بإضافة شخصيات خيالية مثل صديق الملك جون فالستاف الذي لم يكن له أي وجود على الإطلاق، ولكن الفيلم جاء بشخصية مغايرة تمامًا عن الشخصية التاريخية الحقيقية للملك هنري الخامس، بداية لم يعش الملك مراهقته في الشوارع مع عامة الشعب كما جاء في الفيلم ولم يكن محبًا للسلام ومعارضًا لوالده، إذ قضى هنري الخامس جميع سنوات شبابه محاربًا في معارك والده الأهلية، نعم كانت هناك بعض الخلافات بينهما لكنها لم تكن بسبب سياسات والده الحربية ولكنها كانت بسبب سياساته الخارجية.
في نهاية الفيلم يعرف الملك هنري أن حربه على فرنسا لم تكن إلا صنيعة حاشيته وأن ملك فرنسا لم يرسل أحدًا لاغتياله وهنا يشعر هنري الخامس بالندم الشديد ويقتل مستشاره الخاص والحقيقة أن ذلك لم يحدث أبدًا، فالملك هنري لم يأسف على حربه ضد فرنسا إذ كان دائمًا لديه رغبة في التوسع ولم يندم على قتل الأسرى الذين وصل عددهم إلى نحو 6000 أسير وما جاء في نهاية الفيلم لم يكن إلا محاولة جديدة من نتفلكيس لمجاملة الدول لتظهر صورتهم بشكل مسالم.
الأمر الصحيح الذي ذكره شكسبير في مسرحياته وظهر بوضوح في الفيلم هو الصورة العامة لأوروبا في القرن الخامس عشر والحروب الطاحنة التي خاضتها ولهذا جاءت أجواء الفيلم قاتمة للغاية وبدت شوارع إنجلترا في غاية السوء، والحقيقة أن الجانب السينماتوغرافي في الفيلم كان رائعًا وحمل الكثير من عبء مقولات الدراما، فلم يكن هناك أي داعٍ على الإطلاق للحديث عن تدهور إنجلترا في ذلك الوقت، فالصورة السينمائية حكت الكثير دون كلمات.
الأمر الثاني الذي ركز عليه الفيلم هو التحكم الضخم للكنيسة الكاثوليكية في القرارات السياسية في ذلك العصر، إذ كانت تُحيك المؤامرات وتفعل أي شيء من أجل استمرار سلطتها ولهذا فقد كانت الكنيسة حينها تتدخل في قرارات الحرب وتتحكم في الجيوش كما كان رئيس الأساقفة يذهب إلى ساحات المعارك مثلما حدث في الفيلم، إذ كان ينتظر قبل الجميع عملية تقسيم الأراضي والغنائم، كما تجلت أيضًا معالم النصوص الشكسبيرية في الفيلم من خلال حضور الأجواء العدائية والاحتراب بين أفراد العائلة الواحدة.