يُعرف المغاربة على مرّ الزمان بحبهم للفنون والموسيقى، فهم شعب مرهف الإحساس بطبعه، شاعريّ ذا ذوق عالي، وهو ما يفسّر تعدّد الفنون والأنواع الموسيقية في المملكة المغربية، فكل منطقة لها موسيقى خاصة عُرفت من خلالها واشتهرت بها.
في هذا التقرير لنون بوست، سنسلّط الضوء على إحدى تلك الفنون وهي “العيطة الجبلية”، تلك الموسيقى الشعبية التي عُرف بها سكّان منطقة جبالة في الشمال الغربي للمغرب، والتي تمتاز بثراء القيم المختزنة فيها إذ تغنت بجمال الطبيعة والانسان ونقدت الواقع المعيش.
تجسيد لثقافة منطقة جبالة
تعني “العيطة” في مفهومه الأصلي القديم “النداء”، أي نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف لتحريك واستنهاض همم الرجال واستحضار ملكة الشعر والغناء، حيث كان يقال “دير شي عيطة يا فلان” من هنا جاءت كلمة العيطة. أما اصطلاحا فهي مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية الممتزجة في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع وأنماط العيطة نفسها.
يمثّل هذا الفنّ جزءًا من ثقافة منطقة جبالة المغربية المتنوعة، فقد عُرف به الإنسان الجبلي منذ القدم، يعبر من خلاله عما يحس به من انتماء لهذه المناطق المتميزة من البلاد، لذلك نجده حاضرًا في جميع المناسبات، فتجده في الأعراس والمناسبات الدينية، والمناسبات الوطنية والمهرجانات، الأمر الذي جعل هذا الفنّ يحافظ على مكانتها المتميزة في هذه البيئة.
جسّدت هذه الموسيقى تفاعل الجبلي مع يومه المعاش بكل مظاهره وطقوسه، بشكل فنّي، فقد طوّع سكان تلك المنطقة السرد الشعري والأنغام والآلات الموسيقية والرقصات، للتعبير عن خصائصهم الاجتماعية والروحية والثقافية.
يعود هذا الفن في أصوله إلى الأهازيج الشفوية المحلية التي أخذت بُعدا شعريا وموسيقيا وأدائياً يؤديه “الأشياخ” و”الشيخات” على حدّ سواء
يتميّز هذا النوع الموسيقي الجبلي بثراء القيم المختزنة فيها وتنوعها، فهي تهتم بإظهار جمال التضاريس الجبلية والتغني بطبيعة المنطقة وخصوصياتها، كما تحكي عن الجهاد والمعارك خلال مقاومة المغاربة للغزاة البرتغاليين والإسبان والفرنسيين.
ليس هذا فحسب، فالعيطة تتغنى أيضًا بالحب والغزل والعشق المقتبس من الأنماط الأندلسية، كما تصف الواقع المعاش عبر انتقاده وذكر مواطن الخلل فيه، فهي بذلك ليست مجرد كلام، بل هو إحساس عفوي ينقله الفنان لجمهوره.
يعود هذا الفن في أصوله إلى الأهازيج الشفوية المحلية التي أخذت بُعدًا شعريًا وموسيقيًا وأدائياً يؤديه “الأشياخ” و”الشيخات” على حدّ سواء. يُطلق لقب الشيخة على المرأة المغنيّة، الراقصة وأحيانًا العازفة المسؤولة عن صناعة الفرح في الاحتفالات، فيما يطلق لقب الشيخ على الرجل.
انتشر هذا الفن الموسيقي الفريد منذ قديم الزمان في المغرب، وارتبط صيته بامتداد السهول الوسطى للساحل الأطلســي (الشاوية ودكالة عبدة بالأساس) مرورًا ببعض المناطق المجاورة كالحوز وزعير بالخصوص.
وفن العيطة شأنه شأن باقي الفنون، له آلاته الخاصة التي تميزه، وتنقسم إلى نوعين، آلات إيقاعية وآلات وترية، وهي الكمنجة آلة بأوتار من أمعاء الماعز أو الجمال، النويقسات وهي آلة مصنوعة من المعدن أو النحاس، تعريجة كبيرة وصغيرة مصنوعتان من الطين، والبندير وهي آلة إيقاعية مصنوعة من جلد الماعز.
خصائص متعدّدة
لهذا الفن الموسيقي طريقة خاص به، فبداية تعمد الفرقة الغنائية حسب تعبير أهل دكالة والسهول المجاورة لها إلى حط الرحال في وضح النهار قبل أذان العصر في دوار من الدواويير حتى يتمكن المحبون والمهتمون من الاستعداد لليلة حيث تتعمد الفرقة النزول قرب أحد الكرماء أو المحبين في خيمة تدعــى الڭيطون بالدارجة المغربية.
عند مغيب الشمس وبعد انتهاء أهل الدوار من مشاغلهم اليومية تبدأ استعدادات الفرقة بإشعال القنديل وإشعـال النار لتسخـين الدفوف التي كانت تصنع من جلد الماعز ثم يعمد الشيخ (القــوابزي حسب كلام أهل الميدان) إلى العزف على آلته في حين ينادي مغني أو مغنية بصوت جهوري مرتفع لاستلهام اهتمام كل من لا علم له بمجيء الفرقة.
من أشهر الفنانين الذين أدوا هذا النوع الغنائي أيضا، نجد الشيخ عبد الله البيضاوي الذي يعتبر أحد الأصوات الأكثر قوة والأكثر موسيقية في الغناء الشعبي
يستوجب النداء الأوّل انتباه واستماع الجميع ويطلق على هذا الطقس في العيطة الجبلية بـ “الفراش”، وهي الطقطوقة الموسيقية التي تسبق الأغنية، والتي هي نداء إلى المتلقي لدخول إطار الأغنية، وإثارة الانتباه، ومن خلال هذه المقطوعة يمكن معرفة الأغنية التي ستغنى لاحقًا.
وغالبًا ما تكون البداية بمقدمة فيها تضرع إلى الله عز وجل كقولهم “باسم الله بدينا وعلى النبي صلينا”، ثم ينخرط الحاضرون مع المغني في أداء الأغنية عزفًا وغناءً ورقصًا. كما كانت البداية بذكر الله، تكون نهايتها كذلك أيضًا، فعند نهاية الحفل يعمد كبير الفرقة إلى الختم بما يعرف في البادية المغربية بالفاتحة (وهي رفع الكفوف للدعاء بالخير والتيسير والصحة والعافية) تم يطلب من الجمهور التعرض لهذه الفاتحة بشيء من المال.
والعيطة أشبه ما تكون بالقصة المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للتحوير والزيادات، ويهيمن عليها الارتجال الحر حيث يزيده الناظمون ثراءً ونماءً، ويفرّغون فيه ما يعترض حياتهم من مآسي وأفراح، وما يجيش في نفوسهم من أماني وأمال، حتى يصبح من العسير الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة.
رواد العيطة
للأغنية الجبلية رواد قدامى وجدد، حيث عرف هذا الفن المغربي عديد الرموز، منهم الفنانة شامة الزاز التي نظمت كلمات ما يزيد على 50 أغنية، وكانت في تلك التي ألفتها ولحنتها أو تلك التي غنتها تعبر عن معاناتها كامرأة وأرملة مسؤولة عن ولدين، حكت فيها عن صبرها وجهدها حتى توفر لهما الحياة الكريمة.
من أشهر الفنانين الذين أدوا هذا النوع الغنائي أيضا، نجد الشيخ عبد الله البيضاوي الذي يعتبر أحد الأصوات الأكثر قوة والأكثر موسيقية في الغناء الشعبي، والشيخ سعيد الصنهاجي الذي يلقب بسلطان الأغنية الشعبية المغربية، والشيخة “فاطمة خربوشة” والتي كتب حولها عشرات المقالات والبحوث التي تناقلت وطنيتها وعداءها الكبير للمحتل الفرنسي وللخونة معلنة العصيان في فنّها.
نجد أيضا الشيخ محمد العروسي الذي استطاع أن يجدّد هذا الفنّ ويبعث فيه الروح بألحانه وطريقة أدائه. وله يعود الفضل في انتشار العيطة الجبلية على نطاق واسع. كما نجد أيضا الشيخ أحمد الكُرفطي والشيخ حاجي السريفي والشيخ بريطل والشيخ الخُمسي والشيخ عبد السلام العطار والشيخ محمد الغياثي والشيخ محمد بن العربي والمعلّم عبد الرحمن لحلو.