لطالما مثّل السيف الدمشقي رمزًا لتراث الشام وعنفوانها، بقائمه ونصله ومقبضه وغمده، وفي حين توقف دوره في المعارك، فإن ما يزال أيقونة رمزية يواصل “شيوخ الكار” حبكه من الفولاذ، ويتبادله الزعماء كهدايا لا تقدر بثمن، ومثله، مهن أخرى ترسخت في الشام وباتت تعرف بها مدنها، لا سيما دمشق وحلب، وكلاهما من أقدم المدن المأهولة في العالم، ورغم أن هذه المهن بدأت قبل قرون بعيدة، فإنها ما تزال تحافظ على زخمها وإن تغير الهدف من استخدامها.
و”شيخ الكار”، مصطلح قديم كان يطلق في دمشق القديمة وحلب القديمة على الشخص الأكبر سنًا والأكثر خبرة في السوق ممن يعملون بالصنعة، حتى أنه كان يمثلهم أمام الدولة وهو قريب من مفهوم النقابات بهذه الأيام، وكانت تُرد إلى شيخ الكار الخصومات بين أبناء المهنة الواحدة ويبت بها ويحل مشاكلها.
إلا أنه ومع التطور التكنولوجي ودخول عصر السرعة ومكننة المصانع، تقاوم المهن المتبقية الموت وشبح الاندثار. فمن صناعة السيف الدمشقي إلى البروكار وصناعة السجاد اليدوي حتى صناعة الصابون وتعشيق الزجاج، نسلط التقرير الضوء على أبرز ما اشتهر به الصنّاع والحرفيون السوريون قديمًا وكيف أغنت هذه الحرف والمهن تراث البلاد.
السيف الدمشقي
لطالما تغنّى الشعراء العرب بالسيوف ومجدّوا ذكرها، ولا يمكن أن تذكر السيوف إلا ويذكر النوع الشامي أو الدمشقي، لما له من صيت عالٍ وشهرة واسعة إذ أنه ضرب بنصله الآفاق، ليكون لغزًا محيرًا بمتانته وقوته وكيفية صناعته. برز هذا السلاح ونال شهرته الواسعة في القرن الثامن الميلادي يوم واجه أهل الشام الصليبين، واستخدموا هذه السيوف التي أثبتت تطورها وقوتها وحدّتها في ذلك الحين.
ويقول الباحث نصر الدين البحرة: “إن دمشق ظلت على شهرتها بصناعة السيوف حتى سنة 1400 للميلاد، حين غزا تيمورلنك دمشق وحمل معه إلى عاصمته سمرقند صناع السيوف الدمشقيين المهرة مع جملة الحرفيين الآخرين”. وفي كتابه “رسالة في السيوف وأجناسها”، يقول ابن إسحاق الكندي واصفًا السيف الشامي “تمتاز باﻟﺠﻭﺩﺓ، ﻭسقايتها أصيلة، ﻭامتازت نصاﻟﻬﺎ بقطعها ﺍﻟﺠﻴﺩ، ﻭﻻ يمكن ﺃﻥ يوجد ﻟﻬﺎ مثيل ﻹﺭﻫﺎﻑ حدها ﻭﻟﻁﻑ فرندها، وبلغ لمعانها حداً كبيراً من إتقان ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ، بحيث يمكن ﺃﻥ يتخذ الإنسان ﺍﻟﺴﻴﻑ الدمشقي مرآة لهندمة ثيابه”.
ولشدّة غرابة السيف بقوته وحدّته فقد أجرى كثير من الباحثين الغربيين دراسات شملت تفسيرات لحل لغز هذا السيف الذي أُلفت حوله الأساطير، يقول أستاذ الهندسة وعلم المواد بجامعة ولاية آيوا الأميركية جون د. فرهوفن، في مجلة العلوم الكويتية أن السيوف الدمشقية تمتاز بخاصيتين، وهي الخطوط المتموجة التي تزينها، ونصلها الحاد. كما أشار إلى أن “الاهتمام بدراسة السيوف الدمشقية يعود إلى القرن الـ 18، أما أول دراسة حقيقية فكانت في العام 1924، عندما تبرع جامع تحف أوروبي بأربعة سيوف دمشقية لعالِم المعادن تستشوكي، الذي قطّعها لإجراء دراسات تحليلية على تركيبها الكيميائي وبنيتها الميكروي”.
وتبقى السيوف الدمشقية حاليًا تُعرض في المتاحف والمزارات وتُقدّم كهدايا ثمينة، إذ يصل سعر بعضها حتى 20 ألف دولار.
صناعة السجاد اليدوي
تعود هذه الصناعة إلى ما قبل 7 قرون حيث اشتهرت دمشق وحلب، بإنتاج وتصنيع السجاد المنسوج من الحرير الفاخر والمطرز بالنقوش والرسوم التراثية والمحلية. وأخذ هذا النوع من السجاد شهرة عالمية تحت اسم “السجاد الدمشقي” أو “السجاد المملوكي”، وتتميز بألوانها الحمراء القرمزية والأصفر الذهبي والأزرق البحري وبنقوش هندسية. وتبنى العثمانيون هذه الحرفة، وازهرت الصناعة بسبب وجود أمهر الصانعين الذين وفدوا إلى سوريا من كرمان والقاهرة، وبعد الحرب العالمية الأولى صنع الأرمن السجّاد في حلب، وكانت المواد الأولية المستعملة تتألف من: الصوف والقطن والحرير.
توارثت الأجيال هذه الحرفة حتى خمسينيات القرن الماضي، إذ أنه ومع دخول آلات متطورة وإنشاء معامل للنسيج بدأت المنافسة الشديدة فتخلى بعض العاملين اليدويين عن الحرفة القديمة، مما استدعى الحكومة البلاد حينها لإنشاء “وحدات اجتماعية لتعليم صناعة السجاد اليدوي”، ليصل عدد هذه الوحدات إلى 100.
استمرت صناعة السجّاد بالتطوّر، ودخلت الكثير من العوامل التي ساهمت في تغيير هذه الصناعة بشكل كبير، ولكن بالرغم من دخول الآلات الحديثة حافظت الصناعة التقليديّة على أهم خصائصها، واستمرت في إنتاج أجمل السجّاد الذي يحوي على أجمل الأشكال وأروع الألوان حتى لكأنها لوحات فنيّة.
صناعة المنسوجات
كانت سوريا إحدى أهم محطات طريق الحرير التاريخي والذي كان يربط تجارة العالم من شرقه لغربه، وساهم هذا بتطوير الصناعات النسيجية في البلاد، الجدير بالذكر أن سوريا تقع منتصف طريق الحرير مما جعل منسوجاتها تأخذ أنماطًا متعددة مستوحاة من التجّار الذين يأتون من كافة الأصقاع، ويزيد أنواع المنسوجات اليدوية على 100 نوع، ولكل نوع ما يزيد على 20 صنفًا، كالبروكار والدامسكو والأغباني.
ويُعتبر الحرير من المكوّنات الرئيسية التي تدخل في صناعة النسيج السوري وقد حاز على المرتبة الأولى في الصناعات لفترة طويلة من الزمن، واشتهرت عدد من تلك المنسوجات مثل الدامسكو والبروكار. إلا أنه ومع دخول زراعة القطن إلى البلاد ونموها وانتشارها ساعد على نمو صناعة الغزل والنسيج القطني. ويعتبر القطن محصولًا استراتيجيًا في سوريا، وكانت سوريا تنتج 7٪ من إجمالي إنتاج القطن العالمي.
وإضافة للأقمشة القطنية يدخل الصوف والنايلون في صناعة المنسوجات السورية، فيما تتركز صناعة النسيج بعدّة مدن كحلب ودمشق وحمص وحماة، وتمثل مدينة تدمر الصناعة النسيجية بأبهى حللها، إذ أنه وخلال الفترة الرومانية كانت بمثابة موقع تجاري أساسي للقوافل من آسيا والهند والصين. واُكتشفت في تدمر واحدة من أكبر مخابئ المنسوجات القديمة، حيث وجد أكثر من 2000 قطعة من القماش الحريري.
صناعة النحاس
حرفة النحاس من الصناعات القديمة في سوريا ، وبحسب الروايات يعود تاريخ دخول هذه الصناعة إلى البلاد للألف الثانية قبل الميلاد، ورغم قدمها إلا أن الصنّاع استمروا باتباع بتقاليدها وقاموا بتحديث أساليبها ومواضيعها لتلائم تطور الحياة. وتتنوع الأشكال المصنوعة من النحاس وتشمل الطناجر والمناسف العربية والحلاّت وأواني القلي والمصافي النحاسية، إضافة إلى بعض الأواني والتحف، إضافةً لمناقل الجمر وبعض أنواع الصواني المزينة والمزخرفة، ودلال القهوة العربية والمصبات.
وتتقسم حرفة النحاسة في سوريا إلى اختصاصات على أفراد الورشة الواحدة، فمنهم من يعمل بالتخطيط والرسم ومنهم من يختص بتنزيل الذهب والفضة على التحف النحاسية، فيما يختص آخرون بالتجويف وغيرهم بالتخريق والنقش. ويوجد سوق لـ “النحاسين”، في غالب المدن السورية كدمشق وحلب إضافةً لحمص وحماة ودير الزور، ونشأت هذه الأسواق منذ مئات السنين لضرورة وجودها، كون هذه الصناعة كانت تُستخدم في الأعمال المنزلية كافة، إلا أن مكانة النحاس بدأت بالتناقص أواخر القرن الماضي لوجود بدائل منافسة بالأسعار كالبلاستيك والألمنيوم والفولاذ المقاوم للصدأ.
الصابون الحلبي
تعتبر صناعة الصابون من الحرف التراثية في مدينة حلب السورية، ومازال أهل المدينة يحافظون على صناعته منذ 1200 عام، كما يلقبونه بـ “ذهب حلب الأخضر“، وتتفرد حلب بصناعته لتوفر أشجار الزيتون والغار بكثرة، حيث أن زيت الزيتون وزيت الغار هما من المكونات الرئيسية في إنتاجه.
وتبدأ عملية صناعة صابون الغار، من بداية شهر كانون الأول/يناير حتى شهر نيسان/أبريل وتتوقف في فصل الصيف، ويصل عدد المعامل في المدينة إلى أكثر من 85 معملاً لإنتاج صابون الغار، إلا أنه ومن خلال ما حل بالمدينة بعد 2011 من قصف وتدمير اضطر العديد من أصحاب المعامل للهجرة إلى خارج البلاد ناقلين معهم الحرفة إلى دول اللجوء.
تعشيق الزجاج
اشتهرت دمشق يصناعة الزجاج الذي صار يضرب به المثل في رقته، وكانوا إذا أرادو وصف شيٍْ يقولون “أرق من زجاج الشام”، وتشير التواريخ إلى أن مئات السنين مرت على صناعة الزجاج الملون، وتعتبر العاصمة السورية من أقدم مدن العالم بهذا النوع من الصناعة التي تعدّ كحرفة يدوية وتعتمد على الرمل كمادة أولية، واخترعها الفينيقيون عام 2500 قبل الميلاد، ولقيت اهتماماً بكل العصور والحضارات التي تعاقبت على البلاد.
ويحتاج فرن الزجاج الملون إلى النفخ في الزجاج الساخن الذي يخرج من فرن الشواء، ويوجد عائلات دمشقية اشتهرت بهذه الصنعة منذ ما يزيد عن 400 سنة وسميت هذه العائلات بـ”القزازين” نسبة إلى صناعة الزجاج أو “القزاز” باللهجة الدمشقية. ذكر ابن بطوطة لدى زيارته دمشق بالقرن الرابع عشر للميلاد، أن “بدمشق شوارع لحوانيت الجوهريين والكتبيين، وصنّاع أواني الزجاج العجيبة”، من جهته قال الرحالة بوجيوس سنة 1346م إنه “رأى بدمشق معامل الزجاج تنتشر على طول الجامع الأموي” ومن أشهر من عمل في هذه المهنة تلك الفترة كان أبو إسحاق إبراهيم بن محمد النحوي الملقب بالزجاج قبل اشتهاره بالأدب.
تقاوم هذه المهن التي يتوارثها الأبناء عن الآباء، لتبقى هذه المهن شاهدة على الحضارة التي تعاقبت على البلد الذي يشهد حربًا ضارية، كانت سببًا في تدمير الكثير من شواهد التاريخ السوري العريق، ليبقى التحدي الأكبر في كيفية الحفاظ على ما تبقى من هذه المهن وحفظ تراث ما انقرض منها.