“السينما هي القوة الثانية بعد الجيش المصري، وإذا فقدناها فقدنا هويتنا المصرية”، هكذا عبر المخرج المصري شريف عرفة عن رأيه في أهمية الأفلام السينمائية وحدود تأثيرها، وذلك خلال ندوة له على هامش مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ41 الذي عقد مؤخرًا بالعاصمة المصرية القاهرة.
تصريحات المخرج المصري المتوج بجائزة فاتن حمامة للتميز قبل أيام أعادت لساحة الأضواء مرة أخرى مسألة “تسييس الفن” وتوظيف السينما لخدمة النظم السياسية، وهي القضية التي تفرض نفسها بين الحين والآخر كلما طفا على السطح عمل درامي رافقه تجييش كبير من أجهزة الدولة كافة.
عرفة المنتشي حديثًا بفيلم “الممر” الذي روجت له مؤسسات الدولة بكل أطيافها في محاولة لتعزيز مكانة المؤسسة العسكرية في نفوس المصرين عبر استدعاء بطولات الماضي، نجح خلال ندوته في إيصال رسالة واضحة المعالم، مفادها أن السينما دومًا كانت في خدمة الأنظمة المصرية الحاكمة.
كثير من المتابعين ربما يقتصر وعيه بشأن السينما على أنها أداة ترفيه وفقط، لكن الواقع ينافي ذلك بصورة كبيرة، فالقضية أكبر من ذلك، خاصة لو علمنا أن بعض النظم في عدد من البلدان تضع الدراما في مكانة متقدمة كونها على رأس القوة الناعمة التي تخدم الحكومات في ترجمة أجنداتها السياسية والفكرية.
4 أهداف سياسية
في ظل حالة الثراء التي باتت عليها الدراما السينمائية في الآونة الأخيرة، تجاوزت تلك الأعمال مسألة التربح والترفيه إلى آفاق أخرى، وهو ما أوضحه الكثير من المهتمين بعلم الاجتماع السياسي في أحاديثهم عن تسييس الفن ودوره في خدمة أنظمة الحكم، وهو ما أشار إليه الناقد الفني المصري أمجد بشاي.
سعت بعض الأنظمة عبر بوابة السينما إلى تصحيح الصورة النمطية الخاطئة التي نقلت عنها، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل كبير مع الدراما الصينية والكورية
بشاي في حديثه لـ”نون بوست” كشف النقاب عن 4 أنماط لتوظيف الدراما والسينما بوجه عام، أبرزها خدمة أهداف السياسية الخارجية للدول، فبعض الحكومات تتعامل مع الدراما على أنها أداة من أدوات السياسة الخارجية الخاصة بها، كوسيلة لدعم النفوذ الناعم والانتشار في محيطها الإقليمي والعالمي، وعلى رأس الدول التي لجأت لهذه الطريقة مصر وتركيا والهند والولايات المتحدة.
فيما سعت بعض الأنظمة عبر بوابة السينما إلى تصحيح الصورة النمطية الخاطئة التي نقلت عنها، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل كبير مع الدراما الصينية والكورية، حيث سعت لمعالجة ما أخذ عن هاتين الدولتين على أنها شعوب شديدة العملية، ولا تهتم بالحياة الاجتماعية، وأنها مجتمعات منغلقة على نفسها، وهي الأفكار التي صححتها العديد من المسلسلات التي عُرضت على الشاشات العربية مدبلجة للغة العربية.
فريق آخر ينظر إلى السينما على أنها نافذة قوية لتوجيه رسائل سياسية للخارج، كأن يلجأ صانعو العمل لتصدير صورة للأمن والاستقرار في أعمالهم، بجانب تقديم صور إيجابية لدى بعض الملفات منها المتعلق بالنظافة العامة والسياحة وتطوير البنية التحتية وخلافه.
وفي الأخير يمكن توظيف السينما في مواجهة العزلة، وهو ما حدث مع السينما الإيرانية التي نجحت في تحقيق نتائج بارزة على الصعيد العالمي، من خلال مشاركة مخرجيها وممثليها في المهرجانات العالمية الكبرى لا سيما مهرجان “كان”، وقد حصلت العديد من الأعمال الإيرانية على جوائز عالمية أشهرها وأكثرها تكرارًا جائزة “السعفة الذهبية”، قبل أن تتمكن الدراما الإيرانية، والدينية منها على وجه الخصوص، من الانتشار داخل بعض دول المنطقة.
السينما المصرية وعلاقتها بالسياسة
عالم النفس الأمريكي سكيب داين يونج في كتابه “السينما وعلم النفس علاقة لا تنتهي” الصادر عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة 2012، كشف العلاقة الوطيدة بين السينما والسياق السياسي والاجتماعي لأي مجتمع أيًا كانت ظروفه، لافتًا إلى أنه من المُتعارف عليه أن الذهاب للسينما يُعد فعلًا ترفيهيًا، والمُشاهد دائمًا يبحث عن المتعة في مشاهدته للأفلام، إلا أنه لا يمكن اختزال وظائف الفيلم فقط في الجانب الترفيهي.
عبر مراحل التاريخ لعبت السينما دورًا مهمًا في المجال السياسي مُنذ ظهور الفيلم السياسي في السينما المصرية، وقد أوضحت العديد من الدراسات تأثير التوجهات السياسية على السينما المصرية
وأضاف أن الفيلم السينمائي له عدة وظائف مختلفة منها ما يخلق المشاعر المختلفة، وهذا ما أطلق عليه “إدارة الحالة المزاجية”، وهو يعتبر استخدامًا يضاهي لجوء للمخدرات في خطورتها من حيث قدرتها على تغييرالحالة المزاجية للفرد، وهو ما يمكن سحبه على الحالة المصرية.
وعبر مراحل التاريخ لعبت السينما دورًا مهمًا في المجال السياسي مُنذ ظهور الفيلم السياسي في السينما المصرية، وقد أوضحت العديد من الدراسات تأثير التوجهات السياسية على السينما المصرية، وكذلك دور الدولة في إنتاج الأفلام المُختلفة، وبالتالي عندما تنتقد السينما الأوضاع السياسية والاقتصادية تقع بذلك في مأزق مع الدولة، وعندما تضطر السلطة لمنع فيلم أو حذف أو تغيير مشاهد في الفيلم تقع هي الأخرى في مأزق مع صُناع الفيلم، كما قال الأكاديمي عمر الشريف في كتابه “أعلام منسية: دراسة تاريخية من أرض الغربية”.
وعليه يمكن القول إن الفن السينمائي في حقيقته انعكاسًا لعناصرالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي نفس الوقت تتناول السينما هذه العناصر في شكل صور مقدمة ومنظمة في صورة الفيلم السينمائي، مما يجعل المنتج السينمائي مستودعًا للوعي بكل أشكاله، ومن ثم لا يمكن تجاهل البعد السياسي للسينما التي لعبت دورًا محوريًا في تكوين الوعي السياسي للأفراد، وبالإضافة إلى إنها تؤثر على الرأي العام تجاه القضايا المُثاره في المجتمع.
الملكية.. إرهاصات تسييس السينما
تعود بداية توظيف النظم الحاكمة في مصر للسينما لخدمة أهدافها إلى عقود طويلة مضت، وبالتحديد وقت الملك فؤاد الأول (1868-1936) وذلك عندما هاجمت مشيخة الأزهر الممثل يوسف وهبي بسبب اشتراكة في فيلم تركي عن حياة النبي محمد.
حينها ثار الشارع المصري الأمر الذي دفع الملك بالتهديد بنفي وهبي خارج البلاد وسحب الجنسية منه، ولم يقتصر الأمر على ذلك فاحتجت الخارجية الفرنسية على عرض فيلم “أولاد الذوات” عام 1932، بسبب مُحاكاة الفيلم لراقصة فرنسية تقع في حب شاب مصري.
وفي عهد الملك فاروق (1920-1965) كانت السينما مقتصرة على الموضوعات الهولية والفواجع الإنسانية ذات النهايات السعيدة، بعيدًا عن أي إشارة إلى سلبيات تلك المرحلة، وكان الإنتاج حينها يقتصر على الطبقة الارستقراطية، بالإضافة إلى الأجانب، ولذلك كان التوجه السينمائي في تلك الفترة هو إنتاج الأفلام الترفيهية والبُعد عن الأفلام السياسية أو الاجتماعية بما يتماشى مع رغبات الملك في ذلك الوقت.
الحقبة الناصرية.. الدعاية للنظام
وحين أطاح “الضباط الأحرار” بالملكية في 1952 فرضت السينما نفسها كواحدة من أدوات تمرير مشروع عسكرة الدولة المصرية، وذلك عبر محورين: الأول تحسين صورة الجيش وتقديمه على شاكلة المضحي لأجل الوطن والشعب، فيما جاء المحور الثاني تشويها للملكية وفسادها.
المخرج شريف عرفة أرجع اهتمام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بالسينما لواقعة حدثت معه خلال زيارته لإحدى الدول العربية حيث استوقفه مواطن من هذه الدولة وقال له: “سلم لي على إسماعيل ياسين” وهنا أيقن ناصر أهمية السينما في الترويج للدولة خارجيًا وعلى الفور عاد ليدشن مؤسسة دعم السينما.
العلاقة بين السلطة السياسية والسينما في فترة ما بين من 1952 حتى هزيمة 1967، كانت تتميز – بحسب الدراسات التي تطرقت لهذه المرحلة – بالتبعية حتى في الأفلام التي كانت تتظاهر بتقديم نظرة انتقاد للواقع مثلما حدث في بعض الأفلام: “صراع في الوادي وفيلم أرض السلام”، وهي أفلام أخرجها مخرجون كبار حاولوا التظاهر بالموضوعية، لكن من خلال أعمالهم كشفوا مدى محاولة تزييف الواقع المصري.
ويلاحظ أنه منذ 1955 سعت السينما لتمجيد المؤسسة العسكرية بظهور ضباط الجيش من خلال أفلام إسماعيل يس، وكذلك فيلم “الله معنا”، فهي أفلام تدعو لتدعيم الجماهير للجيش ونشر أفكار السلطة، وهذا يفسر عدم اصطدام الرقابة بهذه الأفلام، لأنها لا تعارض النظام، ولكن من بعض الأفلام التي انتقدت النظام فيلم “أحلام هند وكاميليا” وهو من أهم الأفلام التي تميزت بتحليل تلك المرحلة الناصرية.
وفي المجمل وظف نظام ناصر السينما وإمكاناتها لخدمته لا سيما أنه كان في أمس الحاجة لتبرير سياسي وأيديولوجي لنكسة 1967 وما تلاها، عازفًا على الإعلاء من شأن السلطات الحاكمة مقارنة بما كان عليه الوضع إبان الملك فاروق، خاصة ما يتعلق بإزالة الفوارق بين الطبقات وهو ما عزفت على وتره الكثير من الأفلام.
عصر السادات.. سينما الانفتاح
يمكن تقسيم حقبة الرئيس الراحل أنور السادات إلى مرحلتين: الأولى ما قبل حرب أكتوبر 1973 وفيها كانت السينما تسير على منهج سينما عبد الناصر، وكانت تتناول الجوانب السياسية من خلال انتقاد النظام السابق، فكانت السينما تُركز على كشف قضايا الاستبداد السياسي والقمع الأمني الذي تعرض له المجتمع المصري مثل فيلم الكرنك.
أما المرحلة الثانية فتتمثل فيما بعد الحرب، إذ كانت تعتمد على الحشد للالتفاف حول أهمية الانتماء للوطن وضرورة الانتصار على العدو، وكانت الأفلام تصور مُعاناة الجيش المصري مثلما حدث في فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” وفيلم “العمر لحظة”، وغيرها من الأفلام.
وفي آخر تلك المرحلة اتجهت السينما إلى اتجاه آخر تماشيًا مع عصر الانفتاح، حيث الاعتماد على الربح، وبدأ ظهور ما سمي وقتها “السينما التجارية” التي حولت المجتمع من الصبغة الاشتراكية إلى الرأسمالية، تلك التي أثرت وبشكل كبير على كل الجوانب مثل فيلم “المغامرون حول العالم”.
كشفت بعض الأفلام ملامح توجه الدولة حيال بعض القضايا السياسية على رأسها الحرية، وهو ما تجسد في فيلم “المنسي”
وكعادة كل نظام يسعى إلى تشويه النظام الذي يسبقه، كانت السينما هي الأخرى على نفس المنوال، فلجأت سينما السادات إلى تشويه عصر عبد الناصر، وترى أنه عصر الفساد السياسي والاجتماعي وإظهارالموقف العدائي من الثورة مثلما حدث في فيلم “الكرنك” وفيلم “إحنا بتوع الأتوبيس”.
وفي الجهة الأخرى كشفت بعض الأفلام ملامح توجه الدولة حيال بعض القضايا السياسية على رأسها الحرية، وهو ما تجسد في فيلم “المنسي”، وكذلك فيلم “طيور الظلام”، أما فيلم “دم الغزال” الذي جاء لمُعالجة مباشرة للحال السياسي والاجتماعي الذي يمر به المجتمع المصري، وبالإضافة إلى ظهور أفلام أخرى استثنائية مثل فيلم “مواطن مخبر وحرامي” وفيلم “أرض الخوف”.
زمن مبارك.. المعارضة المقننة
لم تختلف نظرة الدولة للسينما في عهد حسني مبارك عن غيره من العهود السابقة، حيث بدأ النظام مبكرًا في الترويج لأفلام تسلط الضوء على مساوئ نظام السادات وتنتقد فكرة الانفتاح وتداعياتها، مثلما حدث في فيلم “المواطن المصري” الذي حاول الإجابة عن تساؤلات حرب أكتوبر التي كانت ترد في ذهن المواطن في هذا التوقيت.
إجراءات عدة اتخذتها السلطات المصرية بحق السينما بداية ولاية مبارك أثرت على المزاج الفني العام في البلاد، حيث تم حل المؤسسة العامة للسينما وإلغاء عيد الفن، لكن رغم ذلك ومع بدايات 1997 ظهر نوع جديد من السينما السياسية، لكنها سينما معارضة.
البعض فسر هذا التوجه بمحاولة التنفيس عن المواطن في ظل حالة القمع التي كانت مفروضة في هذا التوقيت، غير أن المعارضة هنا كانت محددة بسقف معين، إذ كان من الصعب انتقاد رئيس الدولة، وهو ما حدث في فيلم “ضد الحكومة” للفنان أحمد زكي، وغيرها من أفلام يوسف شاهين ومن بعده خالد يوسف، على رأسها “هي فوضى” و”حين ميسرة” و”دكان شحاتة” التي شرحت جسد المجتمع المصري بتفاصيله كافة.
لكن هذا لا يعني أن أفلام التملق السياسي لم تكن موجودة، غير أنها لم تكن بالحجم المتوقع مقارنة بعهدي ناصر والسادات، ولعل فيلم “طباخ الرئيس” للفنان الراحل طلعت زكريا، كان على رأس تلك الأعمال التي سعت لتحسين صورة الرئيس لدى الشارع وإبراز هموم المواطن ومشاكله على قائمة أولوياته.
عهد السيسي.. سينما التشويه
دخلت السينما المصرية عصرًا جديدًا من الحرية بعد ثورة يناير 2011، حيث بدأ صُناع السينما يتحدثون عن أفلام ترصد أحداث الثورة وتُمهد لمستقبل مصر بعد القضاء على نظام مبارك، وعلى الفور ظهرت أفلام تجسد تلك المرحلة وطموحاتها منها أفلام “أمن دولت” و”فبراير الأسود” و”حظ سعيد” و”صرخة نملة” و”الشتاء اللي فات” و”بعد الموقعة” و”18 يوم” و”نوارة”.
لكن الوضع تغير تمامًا بعد 30 يونيو وتولي عبد الفتاح السيسي مقاليد الأمور، حيث لجأت السينما إلى تشويه صورة الإخوان المسلمين وترهيب المواطنين من “المخاطر الإرهابية”، والتمهيد لتعزيز دور الجيش والمؤسسة العسكرية في حماية الشارع، وهي الشعارات التي استند إليها السيسي في حملته الانتخابية.
فبعد أشهر قليلة من أحداث 3 من يوليو 2013 جاء فيلم “المشخصاتي” الجزء الثاني وهاجم ثوار 25 يناير وفترة حكم الرئيس محمد مُرسي، كذلك فيلم “الجزيرة” الجزء الثاني الذي صدر في 2017، وشوه الثورة وصور الثوار على أنهم حفنة من البلطجية، هذا بخلاف تبني الفيلم اتهام الدولة للجماعات التي اقتحمت السجون وهربت المساجين.
“ياأستاذ أحمد أنت والأستاذة يُسرا، والله هتتحاسبوا، وأيوه هتتحاسبوا، عايزين ندي الناس أمل في بكرة ونحسن قيمنا وأخلاقنا وده مش هييجي غير بيكم وكقطاع من القطاعات الدولة لها دور في ذلك”، هذا ما قاله السيسي في احتفالية عيد الشرطة في يناير2015، عندما وجه حديثه للفنان أحمد السقا والفنانه يُسرا وطلب منهما أعمالًا فنية “تُحسن” وعي الجمهور المصري، وكانت الرسالة واضحة لتوضيح شكل العلاقة بين النظام السياسي والفن.
وبينما كانت السينما تتجه إلى قتل صورة الإخوان شعبيًا كانت في الاتجاه الآخر تعزز من دور الأفلام الشعبية خلال الغناء والمهرجانات وأفلام السبكي مثلما ظهر في فيلم “مهمة في فيلم قديم” وفيلم “عبده موتة” وغيرهم، وبعضها الآخر يحاول أن يقدم لنا عرضًا كوميديًا مثل فيلم “الآنسة مامي”.
ومع مرور الوقت أدركت السلطات المصرية دور السينما في التأثير على الشعب، وإمكانية استخدامها كأداة فعالة لتحقيق أهداف محددة في تلك المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد، ومن هنا عملت على إعادة دور المؤسسات الثقافية في المشاركة في صنع القرارات، بالإضافة إلى عودة دعوة الفنانين لحضور أهم الحفلات الرسمية للبلد والاستفادة منهم عن طريق الدبلوماسية الشعبية ودورها في الخارج.