زيارةٌ أثارت الكثير من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي في السودان قام بها رئيس الوزراء الانتقالي عبد الله حمدوك إلى العاصمة الإريترية أسمرة صباح الإثنين الماضي، ومبعث الجدل وعدم الارتياح الذي شعر به كثيرٌ من السودانيين ـ خاصة أنصار الثورة ـ يعود إلى أن النظام الحاكم في إريتريا أكثر الأنظمة قمعًا ووحشيةً على مستوى العالم، زيادةً على أنّ رئيس النظام الإريتري كان من أشد الداعمين للمجلس العسكري المحلول وأكثر الكارهين لقيم الحرية والعدالة التي قامت من أجلها الثورة السودانية حتى أطاحت بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير ورغم أن الأخير مصنّف بأنه حاكم ديكتاتوري، فإن ديكتاتوريته لا تمثل شيئًا أمام بطش وقمع نظام أفورقي.
الكل يعرف أن إريتريا البلد الجميل الذي تتوزّع أراضيه بين المنخفضات والمرتفعات إلى جانب إطلالاته الفريدة على سواحل البحر الأحمر حيث يضم جزرًا لا مثيل لها، أصبح في عهد أسياس أفورقي يحمل اسم “كوريا الشمالية إفريقيا” فالديناصور أفورقي هو الحاكم الأول والأوحد لإريتريا منذ استقلالها مطلع تسعينيات القرن الماضي.
الحلم الوحيد للشعب الإريتري الذي تبقى في الداخل هو الهروب من البلاد بالطرق غير الشرعية، إذ لا يسمح نظام “الهقدف” لفئة الشباب بالسفر علنيًا، نظرًا لأنه يجبرهم على الخدمة العسكرية الطويلة في الجيش، فللحكومة هناك نظام تجنيد لا يتصوره عاقل، إذ يمكن للشاب أو الشابة أن يمضي في الخدمة العسكرية 10 سنوات أو يزيد، قسرًا وبلا مقابل، حتى إن السلطات قد تُجند أفرادًا تجاوز عمرهم الـ50 والـ60 عامًا، لذلك يضطر الإريتريون إلى الهجرة من جحيم النظام الحاكم والأوضاع الاقتصادية المتردية، إذ إنّ نظام أسياس أفورقي جعل إريتريا بلدًا معزولًا عن دول العالم، هذا بخلاف المعتقلين الذي تمتلئ بهم السجون ويقدّر عددهم بعشرات الآلاف بعضهم معتقل منذ التسعينيات ولا أحد يعلم عنهم شيئًا.
يسعى رئيس الوزراء حمدوك إلى انتهاج سياسية “صفر مشاكل” مع الجيران، وكثيرًا ما تحدّث في تصريحات إعلامية عن بناء علاقات متوازنة مع دول العالم خاصة الجيران
لهذه الأسباب وغيرها، استغرب نشطاء الثورة السودانية من زيارة رئيس وزرائهم الذي يثقون به ويعتبرونه الممثل الشرعي لهم وللثورة، ولكن قد تكون لحمدوك رؤية أخرى دفعته إلى تلبية الدعوة وزيارة هذا الرجل غير المرغوب فيه، ونعتقد أن هذه الأسباب هي:
1- محاولة خلق توازن مع تحركات العسكريين الموجودين في المجلس السيادي، فإريتريا في نهاية المطاف دولة جارة للسودان، ورئيس المجلس عبد الفتاح البرهان، إلى جانب العضو الأكثر نفوذًا حميدتي قاما بزيارة العاصمة الإريترية قبل تشكيل الحكومة المدنية، وبالأخص أن زيارة البرهان وحميدتي للديكتاتور أفورقي جاءت بعد أيامٍ قليلةٍ من تورط المجلس العسكري في مجزرة القيادة العامة، مما يعد دعمًا واضحًا من الديناصور أفورقي للعسكر.
2- يُعتقد على نطاقٍ واسعٍ أن لأسياس أفورقي دورًا كبيرًا في أزمة شرق السودان المتمثلة في عنف عرقيّ يحدث بين الحين والآخر، فضلًا عن بوادر تمرد على الحكومة المركزية في ولايتي كسلا والبحر الأحمر، وذلك لجهة التداخل القبلي الكبير بين السودان وإريتريا بوجود عدد من القبائل المشتركة بين البلدين، ويعتقد أن الإمارات تلعب دورًا في إشعال هذا الصراع عن طريق حليفها في المنطقة “أفورقي”.
3- نقطة تتعلق بالتي سبقتها حيث يُتهم أفورقي بأنه صنع لنفسه نفوذًا قويًا في شرق السودان، ولا أدل على ذلك من إشادة الشيخ سليمان بيتاي بأسياس أفورقي بعد عودة الأخير من رحلة علاجية من دولة الإمارات، مبينًا أن رئيس النظام الإريتري تكفّل بدفع تكاليف علاجه.
وبيتاي هو شيخ خلاوى همشكوريب في ولاية كسلا السودانية ويُعرف بأنه رجل أسياس أفورقي في السودان، ولا يُنكر علاقته القوية معه، أي أنّ النفوذ في الشرق ينتهي إلى أبو ظبي ويُخشى أن تكون لديها أهداف في إشعال الصراع القبلي في ولايات الشرق.. وسنذكر المزيد من التفاصيل في ثنايا هذا التقرير.
الشيخ سليمان بيتاي.. شيخ خلاوى همشكوريب يوصف بأنه رجل أسياس أفورقي في السودان
4- يسعى رئيس الوزراء حمدوك إلى انتهاج سياسية “صفر مشاكل” مع الجيران، وكثيرًا ما تحدّث في تصريحات إعلامية عن بناء علاقات متوازنة مع دول العالم خاصة الجيران، ومن بينهم النظام الإريتري الذي كانت علاقاته متوترة مع نظام البشير طيلة الـ5 سنوات الماضية.
5- ظهرت في الآونة الأخيرة بوادر تشاكس وتنافس بين المدنيين والعسكريين، فالأسبوع الماضي أصدر رئيس الوزراء حمدوك قرارًا بإعفاء الفريق الركن طيار مصطفى الدويحي من منصبه (مدير عام سلطة الطيران المدني)، فعينه البرهان رئيسًا للمجلس الاستشاري لشؤون الطيران بالقوات المسلحة، كما وجّه تجمع المهنيين السودانيين انتقاداتٍ لاذعةٍ لحديث البرهان الذي جاء في سياق مقابلة له مع قناة الجزيرة، قال فيها إن الإمارات والسعودية ظلتا تدعمان السودان منذ استقلاله، فردّ التجمع ـ وهو الأقرب لحكومة حمدوك ـ بأن هذه التصريحات “مستغربة وتخالف واقع الحال”.
لذلك ربما تأتي زيارة حمدوك لأسمرة في خضم انفجارٍ وشيكٍ بين المدنيين والعسكريين خاصة أن الحكومة المدنية ووزارة الخارجية لم تعلق أي منهما على تقرير هيومان رايتس ووتش بشأن مجزرة القيادة العامة الذي اتهمّ المجلس العسكري بالتورط بها، ودعت فيه المنظمة لجنة التحقيق المستقلّة إلى مساءلة كل قادة المجلس السيادي من العسكريين بمن فيهم البرهان وحميدتي.
زيارة سبقتها لقاءات في بورتسودان
ما يعزز فرضية أن حمدوك زار أسمرة والتقى بأسياس أفورقي من أجل ملف شرق السودان، أنه زار عاصمة ولاية البحر الأحمر بورتسودان الأسبوع الماضي بعدما اتفقت أطراف النزاع بالمدينة “الهدندوة والبني عامر”، على نزع فتيل الأزمة ووقعوا اتفاق القلد بأمانة حكومة الولاية، إذ لا يزال تأثير الإدارات الأهلية وشيوخ القبائل قويًا على إنسان شرق السودان.
شكّل حضور رئيس الوزراء واجتماعه مع حكومة البحر الأحمر وقيادات الإدارة الأهلية ببورتسودان دفعةً معنويةً كبيرة، لما يتصف به من حكمةٍ وبُعد نظر بعكس القيادات العسكرية الموجودة في المجلس السيادي، فعلى سبيل المثال هددّ عضو المجلس، حميدتي، بإبعاد المكونات القبلية من بورتسودان، حال عدم احترامها للقانون على حد تعبيره، وقال إن الحكومة لن تسمح بالانفلات أو حدوث فوضى، خاصة في بورتسودان، ذلك جاء إبّان زيارته في وقتٍ سابق إلى عاصمة ولاية البحر الأحمر.
تصريح حميدتي أثار حنقًا كبيرًا آنذاك باعتبار حديثه استفزازًا غير مقبول في وقتٍ غير مناسب أيضًا، فالمقام مقام صُلح وتطييب خواطر يفترض ألا يتم فيه استخدام لغة خشنة وتعابير تحمل التهديد والوعيد، لكنها اللغة التي يعرفها الرجل ذو التاريخ الدموي في دارفور وغيرها من مناطق السودان انتهاءً بقلب العاصمة الخرطوم عندما ارتكبت قواته مجزرة القيادة العامة في الـ29 من رمضان.
الفرق يظهر في اللغة التي استخدمها حمدوك عندما اجتمع مع القيادات الشعبية ذاتها الأسبوع الماضي إذ خاطبهم بقوله: “التقاليد والموروثات التي اكتسبتها الإدارات الأهلية عبر الحقب المختلفة كفيلة بحل أي مشكلة تهدد السلام الاجتماعي والتعايش السلمي”، داعيًا هذه الإدارات إلى “العمل في تناغم وانسجام لبناء الشرق الحبيب باعتباره ثغر السودان الباسم”.
استقبال باهت لحمدوك في أسمرة
إذا عُدنا إلى زيارة عبد الله حمدوك إلى إريتريا نجد أنه لم يحظَ باستقبالٍ في المطار من طرف الديكتاتور العنيد رغم أنه الذي قدّم له الدعوة لزيارة أسمرة، وأرسل له مستشاره السياسي يماني قبرآب الذي يعتبر العقل المنظر لأفكار وتوجهات أسياس أفورقي.
يماني قبرآب المستشار السياسي للرئيس الإريتري يستقبل رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك في مطار أسمرة
على مقربة من القصر الرئاسي في العاصمة الإريترية أسمرة استقبل رئيس النظام أسياس أفورقي، رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك والوفد المرافق له الذي يضم وزير مجلس الوزراء عمر مانيس والصناعة والبنى التحتية مدني عباس مدني والتعليم العالي انتصار صغيرون ومدير المخابرات أبوبكر دمبلاب، ثم انخرط الوفد السوداني في جلسة مغلقة مع أفورقي وحكومته.
أفورقي يستقبل حمدوك أمام القصر الرئاسي في أسمرة
خفايا الجلسة المغلقة
وسائل الإعلام الرسمية خرجت بخبرٍ عامٍ عن مناقشة العلاقات الثنائية وتطورات الفترة الانتقالية في السودان بالإضافة إلى القضايا الإقليمية والعالمية ذات الاهتمام المشترك، والاتفاق مع أفورقي على تعزيز التعاون والشراكة بين البلدين، خاصة في المجالات الاقتصادية والصحة والتعليم، وتسهيل حركة النقل والتجارة، فضلًا عن مناقشة مساهمة إريتريا في دفع عملية السلام وتحقيق الاستقرار بالسودان.
لكنّ التسريبات تشير إلى أن تباعُد المسافة بين الطرفين كبيرًا، ويستدل على ذلك المدون الإريتري عبد الرحيم عثمان أحد مؤسسي “منبر أحرار إريتريا” بأن “أفورقي لم يبدِ حماسًا عاليًا لحمدوك كما أظهره مع آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، وهذا كان واضحًا في استقبال عبد الله حمدوك في مطار أسمرة بواسطة يماني قبرآب”، ويؤكد عثمان في حديثه لـ”نون بوست” أن أفورقي ونظامه “لا يريدان سلامًا مع حكومة حمدوك ولا يريدان استقرارًا للسودان ككل، وهذا نلاحظه من خلال تدخلات أفورقي في ملف شرق السودان”.
إضافة إلى حديث الناشط عبد الرحيم عثمان، تشير مصادر وكالة زاجل الإريترية المحسوبة على الحراك المعارِض، أن أسياس أفورقي يهدف إلى فتح ممثليات لحزبه “الجبهة الشعبية” تكون بمثابة ممثليات استخباراتية في كل مواقع وجود المواطنين الإريتريين في السودان، وذلك لملاحقة المعارضين وفرض الجبايات عليهم وتهديد حياتهم، كما لفتت الوكالة إلى سعي رئيس النظام لتوقيع اتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية، تصل إلى المستوى الذي وصلته اتفاقيات السودان مع جارته الأخرى إثيوبيا.
ملف سلام شرق السودان لا يمثل أي أهمية لأفورقي، هذا إن لم يكن متورطًا في إشعال الصراع المفتعل تنفيذًا
نستقي من مصادر زاجل ومعلومات المدون عبد الرحيم بأن ملف سلام شرق السودان لا يمثل أي أهمية لأفورقي، هذا إن لم يكن متورطًا في إشعال الصراع المفتعل تنفيذًا لمطالب حلفائه في في أبو ظبي والأخيرة بطبيعة الحال لديها مصالح في ساحل البحر الأحمر وعينها على ميناء بورتسودان الذي استولت عليه في عهد البشير عن طريق صفقة مشبوهة ظاهرها شركة فلبينية أُلغيت في الشهور الماضية تحت ضغط الثوار.
التحسب لما هو أسوأ
وفي النقطة 3 من الأسباب التي ذكرنا أنها يحتمل أن تكون دفعت حمدوك إلى زيارة أسمرة، قلنا إن النفوذ في شرق السودان ينتهي إلى أبو ظبي عن طريق وكيل الإمارة في المنطقة “أسياس أفورقي”، والأخير لديه رجاله في السودان مثل الشيخ سليمان بيتاي والأمين داؤد نائب رئيس “الجبهة الثورية”، رئيس حزب “الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة” الذي اشتعلت بعد استقباله في بورتسودان موجة العنف الأخيرة، غير أنه نفى بشدة لصحيفة القدس العربي أن تكون لديه علاقات بدولة الإمارات ولا إريتريا، مشيرًا إلى أنه عاد إلى السودان من ألمانيا.
أيًا كانت اتجاهات الرأي بخصوص زيارة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ولقائه مع رئيس النظام الإريتري، من الواضح أنها لم تخرج بنتائج واضحة تطمئن السودانيين والإريتريين على حد سواء، ولكن من المهم أن يواصل حمدوك مساعيه لمعالجة الأزمة في الشرق من جذورها عن طريق اتصالاته مع رجال الإدارة الأهلية ولجان الثورة في ولاية البحر الأحمر، ولذلك لضمان عدم تكرار هذه المشاكل العرقية.
السيناريو الذي ينبغي التحسّب إليه هو اندلاع موجة جديدة وكبيرة من العُنف القبلي المفتعل في المدينة السودانية الإستراتيجية تُوقع أكبر عدد من الضحايا الأبرياء، وإعلان حالة الطوارئ فيها، ثم دخول تعزيزات أكبر حجمًا من قوات حميدتي والجيش ليتم الاستيلاء على الميناء وربما تندلع أحداث أخرى متفرقة في عدد من مدن البلاد تعطي ذريعةً لانقلاب عسكريّ بدعوى فشل الحكومة المدنية التي يقودها عبد الله حمدوك، وما هذا السيناريو ببعيد فمن قبل كان الناس يتصورون أن العسكر لن تكون لديهم الجُرأة على فض اعتصام القيادة العامة ولكنهم فعلوها رغم علمهم التام بعواقب الجريمة التي ما زالت تداعياتها مستمرة حتى اليوم.