لعل غزة أصبحت قطعة من الجحيم بفعل آلة التدمير العسكرية “الإسرائيلية”، ولعل وضعها الإنساني اقترب من الموت بفعل العدوان الوحشي للاحتلال إياه، فأصبحت تلك المدينة العذراء مغتصبة مع سبق الإصرار وبمشاركة فاعلة من المجتمع الدولي، فتعرضت لما لم تتعرض منذ أن ولدت.
اقترب عدد الشهداء على الثلاثة آلاف شهيد غالبيتهم من الأطفال والنساء والعجزة والمسنين وأكثر من عشرة ألاف من الجرحى والمصابين، وحتى ترتاح فلا تُحصي أعداد المشردين الذين اقتربوا على النصف مليون مشرد! وذلك في يوم الانقضاض عليها الخامس والأربعين.
حاول الاحتلال – الذي يوصف بأحقر احتلال عرفه التاريخ – قتل غزة بكل ما تحتويه من مكنونات الحياة الجميلة، فالأطباء والكوادر الطبية والإسعافية والصحفيون مثلا أضحوا أهدافا مشروعة للطائرات الحربية التي تحللت من الأخلاق والإنسانية، ناهيك عن انقطاع التيار الكهربائي الذي امتدت لأكثر من شهرٍ كاملٍ وانقطاع المياه وانعدام الصالحة للشرب منها لأسابيع طويلة!
ليس أصعب من تلك المشاهد التي دونها التاريخ على ركام بلدة خزاعة المدمرة عن بكرة أبيها، وكذا بيت حانون المكلومة، والشجاعية أم الأبطال، ولعل الأصعب من ذلك كله هو ذاك المشهد الرهيب الذي رأينا فيه جثث المدنيين والأطفال والنساء المتحللة، حيث أُعدمت من مسافات قريبة وقد كوتها شمس تموز الحارقة، أو إن شئت فتذمّر ذلك الرجل الذي استيقظ ليحتضن ابنه فوجده بلا رأس!
وربما لو أردنا أن نقرب قليلا وصف غزة إلى أذهان الناس كي يفهموا ما مرت به، فدعونا نقول أن أطفالها الذين بحثوا عن مكان آمن فيها فلم يجدوا، حيث الطائرات الحربية بأنواعها الثلاثة وبأصنافها المتعددة تُغير عليهم من كل جانب فتقتل منهم كل يوم ما نسبته 13 طفلا وتجرح منهم في اليوم أيضا ما نسبته 70 طفلا؟
وربما من الصعب أن نأتي على ذكر قذائف الدبابات التي أذاقتهم الويلات والخوف والرعب الذي حتى لم يشاهده العالم في هوليود، فقطّعت أشلائهم بل وجعلتهم أكواما من اللحم المتناثر في كل مكان، حيث ليس للأخلاق والإنسانية مكان! أما عن الزوارق الحربية التي أمطرتهم بوابل من الصواريخ والقذائف فحدّث ولا حرج، حتى باتت غزة حقل من حقول الموت الإجباري.
كيف نصف غزة عندما نقول أن 73 أسرة وعائلة مسح اسمها من السجل المدني، ذلك لأن كل أفرادها استشهدوا ولم يتبقَّ منهم أحدا!
الناس فقدت منازلها وما عاد لهم سوى بعض الصور الفوتوغرافية التي بالكاد خرج بعضهم بها لتصبح تاريخا وذكريات تُقلّب آلام أصبحت مقبولة عنوة ومرسومة بالبارود والرصاص في عقولهم وأبنائهم والأجيال.
في أي دولة في العالم يعيش مليون وثمانمائة ألف نسمة في بقعة مساحتها 360 كلم، ويتعرضون في تلك البقعة لحصار ظالم وغير إنساني استمر لثماني سنوات متواصلة؟ فقد أغلق الاحتلال “الإسرائيلي” فيه المعابر السبعة إغلاقا محكما، وأغلقت أيضا مصر – الدولة العربية – معبر رفح الحدودي!
ماذا يمكن أن نصف غزة عندما يستغيث أهالي الشهداء والجرحى والمكلومين فلا يجيبهم أحد؟!، ويكأن النداء ليس لأحد وأن الأمر لا يعني السامعين المقصودين!
كيف يمكن أن نصف المشاهد بالغة الصعوبة إياها، فالاحتلال استهدف المستشفيات وقصفها، وأعدم الصحفيين والإعلاميين أثناء تغطيتهم للجرائم خوفا من خروج الصورة الحقيقية البشعة له، ودمر المؤسسات الأهلية والمدنية والحكومية، وقصف المدارس والجامعات ومراكز الإيواء والمعاقين، ومسحت طائرات الاحتلال أكثر من 70 مسجدا عن الوجود، لتصبح أثرا بعد عين.
بالفعل كانت غزة مسرحا لمذبحة رهيبة – ما زالت مستمرة – نفذتها قوات الاحتلال “الإسرائيلي” بجيشها المدجج بأعتى أنواع الأسلحة الفتاكة في العالم، مسرحا تتفرج عليه الدول العربية والعالمية، حتى المجتمع الدولي والأمم المتحدة أصبحتا شاهد زور حقيقي بالدليل والبرهان يصطف إلى جانب الاحتلال الجلاد في مواجهة الضحية ولومها وجلدها!
لا أريد أن أسلط الضوء بتمعّن على أهم المذابح والمجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال، بل سنمر مرور الكرام على حي الشجاعية الذي قتلت فيه قوات الاحتلال 70 فردا غالبيتهم من الأطفال والنساء والعَجَزة والمسنين، فهدمت البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وانهالت عليهم بصواريخ الطائرات الإف 16 والطائرات الحربية الأخرى، وألقمتها ستمائة قذيفة مدفعية في ستين دقيقة فقط –بحسب اعتراف الجيش “الإسرائيلي”-، ونتذكر خزاعة التي فصلتها قوات الاحتلال عن باقي خان يونس وأعدمت من كان فيها من الأبرياء والعُزّل على مسافة أمتار قليلة!
اليوم نستطيع أن نقول أن الاحتلال “الإسرائيلي” هُزم هزيمة نكراء من الناحية العسكرية والسياسية والأخلاقية والإنسانية، فهو جاء مجددا إلى غزة التي تعرضت لثلاثة حروب منه في خمس سنوات لكي يؤكد على تجرّده من الأخلاق والإنسانية، يشاركه في ذلك العالم “المتحضّر”.
فشل الاحتلال في أهدافه التي أعلنها، فلم يدمر الأنفاق، ولم يقضِ على المقاومة، ولم يوقف إطلاق الصواريخ الفلسطينية الصنع، وبطبيعة الحال فإنه ليس من السهل أن يحقق أهدافه، ولم ينجح إلا في قتل الأطفال والنساء والمسنين الذين وصل عددهم إلى 894 شهيدا فقدوا أرواحهم ظلما وعدوانا.
العقلية الدموية التي قامت عليها “دولة إسرائيل” لا يمكن أن توصلها إلى ما تريد، بل إنها ستُسرّع من إنهاء وجودها كآخر احتلال على وجه الكرة الأرضية.
بات العالم يشارك في الجريمة النكراء، فلو أننا تحدثنا عن العدالة الدولية التي تقف صامتة خرساء أمام هذا الإجرام الممنهج الذي تمارسه “إسرائيل”، حيث أصبح من المستحيل أن تستيقظ الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أمام هذا العدوان، بات هؤلاء يخافون من قول الحقيقة، بل ويدخلون في مسار العدوان على أهالي قطاع غزة، فمنذ متى كان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يبرر الجريمة للاحتلال “الإسرائيلي” ويكأنه يقول لها استمري في قتل أطفال رفح واذبحيهم على مقصلة العدالة الدولية المكذوبة!
ستهزم “إسرائيل” التي مازالت تعتبر أحقر وآخر احتلال في الكون، ستهزم شر هزيمة وهي التي مازالت تحتل الأراضي الفلسطينية وتسرق الأراضي وتقيم جدار الفصل العنصري وتعتقل خمسة آلاف معتقل وتترك للمستوطنين يمارسوا هوايتهم في حرق أراضي ومحاصيل المواطنين في القدس والضفة الغربية أيضا.
وداعا للمجتمع الدولي وللأمم المتحدة، ووداعا للأخلاق وللإنسانية المقتولة، ووداعا للقانون الدولي الكهل الحبيس، وداعا للقوانين التي لا تُطبّق إلّا على الفقراء والضعفاء، بينما الأقوياء يمارسون هواية القتل ويفرّغون شهوة الإعدام في دول العالم الثالث.