كثيرًا ما تجد الدراما التاريخية العربية عمومًا والسورية خصوصًا زخمًا ومتابعة واسعةً من المشاهدين لما فيها من سرد لمجريات الماضي وتجسيد لبعض الحقب الزمنية، خاصةً أن ما صدر من مسلسلات ذات بيئة تاريخية تكلمت عن وجه الماضي المشرق للعرب والمسلمين، ونتيجةً لفضول الاطلاع على الأحداث في الحقب السالفة وجدت هذه الدراما حاضنةً قوية وإقبالًا مشهودًا.
على أن الدراما التاريخية في سوريا تراجعت في العقد الأخير نتيجة الحرب الدامية التي أعقبت ثورة الشعب السوري، كما تراجع الإنتاج الدرامي والسينمائي عمومًا في البلاد النشطة بالقطاع، فيما وجد المشاهد مراده في أعمال تاريخية أجنبية، تركية وغربية مثل صراع العروش وقيامة أرطغرل وما شابهها من الأعمال ذائعة الصيت في المنطقة، لا سيما الأعمال التركية التي أشعلت فيما يبدو غيرة الدول الخليجية الثرية فبدأت أخيرًا تنتج أعمالًا على سبيل المناكفة مثل “ممالك النار”.
ومثلّت المسلسلات السورية الحالة التاريخية بكثير من الإتقان والإبهار مع أسلوب سرد واضح ولغة بسيطة يسهل على المشاهد العربي بمختلف لهجاته فهمها، كما أنها ساهمت في توجيه ذهن الإنسان العربي لتاريخه وإرثه، كما أعطت للأجيال الجديدة نظرة عما واجهه الأجداد، فمن منا لم يتأثر بالتغريبة الفلسطينية التي تكاد تكون أقوى تجسيد لمأساة اللجوء الفلسطيني بعد احتلال الكيان الإسرائيلي لفلسطين.
مواضيع تاريخية مختلفة
سلّطت المسلسلات السورية الضوء على عدّة حقب تاريخية جرت أحداثها بمناطق مختلفة وأزمنة متفرقة، ونستطيع أن نحدد تقسيمات هذه المسلسلات بحسب زمن حدوث قصتها على الشكل التالي:
قبل الإسلام
تروي هذه المسلسلات حالة فنتازية كما في مسلسل الزير سالم الذي تدور أحداثه حول شخصية عاشت في الجاهلية وعاصر حرب البسوس، ويجسد المسلسل الحالة القبلية العربية في ذلك العصر مع تسليط الضوء على عادات الثأر والصراع على السيادة، إضافة إلى هذا المسلسل برز العمل الدرامي ذي قار والذي بدوره تناول أول الانتصارات العربية على الإمبراطورية الفارسية كما جسدت المشاهد تمسك العرب بقيم الأمانة.
وإلى جانب هذه الروايات الموثق حدوثها، إلا أن الدراما السورية جسدت لوحات عدّة تشير إلى عصور غابرة، مثل مسلسل “الفوارس” الذي يجسد حالة الصراع المعاشة بين العرب والرومان قديمًا، ومسلسل الجوارح الذي يعتبر من الأعمال الفنية التي حققت شهرة واسعة لدى العرب، واستكمل هذا العمل بجزء ثانٍ تحت اسم “الكواسر”، كما برز مسلسل الموت القادم إلى الشرق وكلها مسلسلات تبرز الصراع بين الخير والشر وتبيان استمرار المعارك بينهما.
عصر الإسلام
دأب المنتجون والمخرجون السوريون على الحديث عن هذه الحقبة التاريخية التي كانت غنية بالأحداث العظام على مستوى العالم الإسلامي، واستفاد صانعو هذه المسلسلات من زحمة أحداث ذلك الوقت فتكثر الزوايا والأفكار التي تغني الحالة الدرامية التاريخية، كصناعة المسلسلات تتحدث عن سير شخصية بعينها أو تسلط الضوء على عصر من العصور والحالة الاجتماعية التي كانت فيه.
ومن أبرز ما أُنتج في هذا المجال كان مسلسل عمر بن الخطاب، وهو عمل يتطرّق لمرحلة مهمة في تاريخ الخلافة الراشدة، ويتحدث العمل عن مزايا تلك الشخصية وفضائلها الخاصة التي جعلت منها مرجعًا ونموذجًا هاديًا للمسلمين حتى وقتنا الحاضر، ويعتبر هذا المسلسل قفزة نوعية من خلال التدقيق التاريخي، حيث اجتمع على تدقيقه العديد من علماء الدين والمؤرخين من أبرزهم العلامة يوسف القرضاوي والداعية سلمان العودة.
إضافةً إلى ذلك برز مسلسل صلاح الدين الذي نال شهرة واسعة في العالم العربي، ويروي المسلسل مرحلة عماد الدين زنكي ثم ولده نور الدين محمود ومن ثم مرحلة صلاح الدين التي حصلت بها معركة حطين ثم تحرير بيت المقدس، ويمثل هذا المسلسل بعدًا تاريخيًا مهمًا يتمثل بفتح من أهم فتوحات العرب والمسلمين.
وضمن تاريخ المسلمين، وإلى الحديث عن الأندلس والحضارة هناك، برز العمل الفني “ربيع قرطبة” والذي نال قبولًا واسعًا، وهو ضمن 3 أعمال تناولت فترات مهمة في ذلك التاريخ وهي “صقر قريش” الذي يتناول سيرة عبد الرحمن الداخل الذي أسس دخل تلك البلاد وأسس خلافة أموية جديدة، ومسلسل “ملوك الطوائف” ويروي قصة سقوط الأندلس التي بدأت بانقسامها وتعدد ملوكها وطوائفها.
دراما التاريخ المعاصر
ازدحمت الشاشة السورية بالعديد من الأعمال التي تمثل تاريخ سوريا الحديث، ملقيةً الضوء على الفترة الأخيرة من الحكم العثماني وفترة الانتداب الفرنسي وما تلاها، وبرزت عدة مسلسلات بينت الحياة الاجتماعية وأظهرت كيف عاش السوريون الحياة السياسية بطريقة درامية، ولعلّ من أبرز ما أُنتج هو مسلسل “حمام القيشاني” الذي تبدأ أحداثه منذ أيام الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام مرورًا بفترة الخمسينيات والوحدة السورية ـ المصرية، مسلطًا الضوء على العهد الذي قام خلاله انقلاب الثامن من مارس الذي غير المفاهيم والمقولات السياسية والاجتماعية السائدة في تلك الآونة.
ومن الواضح لدى المتابع أن عددًا لا بأس به من الدراما السورية التي اتخذت من البيئة الشامية القديمة لونًا لها، كانت تعمل على تشويه فترة الوجود العثماني في البلاد، كمسلسل الخوالي وبطله “نصار ابن عريبي” الذي قارع “الاحتلال العثماني”، وبالإضافة لهذا السياق تحدّث المسلسل عن رحلة الحج الشامي التي تُعتبر بوابة عبور الحجاج من تركيا، ويعتبر هذا المسلسل من المسلسلات التي انتشرت انتشارًا واسعًا في سوريا والعالم العربي لما فيه من عاطفة شديدة وأداء جيد، إلى جانب العديد من المسلسلات ذات المقصد نفسه مثل “أخوة التراب”.
دأبت المسلسلات السورية على إظهار المعاناة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني وخصصت الدراما لذلك عدّة مسلسلات، وأبرزت المعاناة التي عاشها الفلسطينيون منذ الاحتلال البريطاني حتى الاحتلال الصهيوني ومرور النكبة والنكسة حتى يومنا الحالي، ولعل أبرز ما مثّل الحالة كان مسلسل “التغريبة الفلسطينية” الذي حجز دورًا في أفضل ما أنتج عن القضية المركزية للعرب. وتحدث المسلسل عن الثورة الفلسطينية ضد المحتل البريطاني مرورًا بالنكبة ومذابح الصهاينة حتى الستينيات من القرن الماضي. حتى إن هذا العمل جعل كل من شاهده يعيش الحالة التي اعترت أهل فلسطين بتلك المرحلة العصيبة من الزمن.
إضافة إلى “التغريبة”، برز مسلسل “عائد إلى حيفا”، لتحدث عن مأساة عائلة فلسطينية أضاعت ابنها خلال النكبة عام 1948. وعرض العمل القضية الفلسطينية من ناحية البعد الإنساني والأحداث الوطنية. ويروي المسلسل عذاب وآلام وأمراض الشعب الفلسطيني والفقر والضياع الذي أصابه، ويغوص في العديد من حكايات مئات الألوف من الفلسطينيين بعد أن أخذت منازلهم بالقوة والسلاح.
هذا وقد ذخرت المسيرة الدرامية التاريخية في سوريا بكمٍ هائل من الأعمال والمسلسلات التي تحدثت عن الواقع العربي والمسلم، إلا أنه وفي السنوات الأخيرة تردى الإنتاج والدراما بشكل عام، لتصبح صناعة الدراما التاريخية أشبه بالمتاجرة السياسية بين الدول، وتصبح الدراما وسيلة لتشويه التاريخ بدل روايتها بطريقتها الصحيحة وإيصالها بأمانة وموضوعية.