من طموحات قوى اليسار؛ النضال من أجل تحسين الأوضاع المادية والمعنوية للطبقات الشعبية، وهي مصالح آنية للعاملين الكادحين في المدن والبوادي، كما يدافع هذا التيار عن قيم التقدم والحرية والعلمانية والمساواة، إلا أن اليسار المغربي يعيش حالة يصفها بعض المتتبعين بالتيه الفكري والانكماش التنظيمي والتراجع الشديد في المجتمع، هذا على مستوى الأحزاب، لكنه يقود أكبر جمعية حقوقية في إفريقيا والعالم العربي ولها إشعاع دولي، كما يقود مركزيات نقابية تعد الأكثر تمثيلية للقوى العاملة في البلاد، وكان سباقًا دائمًا في دعم الاحتجاجات الشعبية التي عمت العديد من ربوع البلاد.
العنف والتغيير الجذري لم يعد خيارًا
أول امرأة تترأس حزبًا سياسيًا في تاريخ المغرب هي الدكتورة نبيلة منيب الأمين العام للحزب الاشتراكي الموحد، وهو تنظيم سياسي نشأ بعد اتحاد ثلاث حركات يسارية: الحركة من أجل الديمقراطية والديمقراطيون المستقلون والفعاليات اليسارية المستقلة، إذ يعد امتدادًا لحركة 23 من مارس.
أحداث 23 من مارس 1965
وحركة 23 من مارس هي منظمة سرية ماركسية لينينية مغربية تأسست في 23 من مارس/آذار 1970، تبنت العنف والتغيير الجذري في مواقفها بعيدًا عن الأحزاب التي كانت مقيدة بالقانون، خاصة مع الهزيمة العربية أمام “إسرائيل” في نكسة 67، وانتشار الفكر الشيوعي بين الشباب المغاربة الذين لم يغفروا للدولة المغربية عمليات القتل إبان انتفاضة 23 من مارس1965 وغياب التحقيق والمساءلة واستمرار المسؤولين في مناصبهم، من بينهم الجنرال محمد أوفقير الذي كان يعد الرجل الثاني في الدولة بعد الملك الراحل الحسن الثاني.
هجوم على الإسلاميين
تعول نبيلة منيب كثيرًا على دور وسائل التواصل الاجتماعي في إسماع صوت الشعب، لا تعوزها الثقافة والخبرة السياسية ولا القدرة على التعامل مع الرأي العام والإعلام، وفي خطابها تصر دائمًا أن اليسار يمارس مهمة ليست بالمستحيلة وهي محاربة الاستبداد والفساد في ظل نظام حكم تصفه بالملكية التنفيذية، حيث الملك هو الآمر والناهي في كل القضايا.
نبيلة منيب وعبد الإله بنكيران
أحيت مُنيب أمل بناء يسار قوي من خلال مطلب “الخط الثالث” وهو خيار بديل يقع خارج المواجهة بين الإسلاميين والليبراليين التي تهيمن على الساحة اليسارية، ترى فيه الزعيمة اليسارية خط بناء ديمقراطي يحافظ فيه النظام الملكي على الوحدة ويتحول إلى نظام ملكية برلمانية، يسود فيها الملك ولا يحكم.
كثيرًا ما هاجمت الزعيمة اليسارية رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران خاصة في ما يتعلق بارتفاع مديونية البلاد وغلاء المعيشة والرفع من سن التقاعد ومواجهة التظاهرات السلمية بالعنف، وذهبت أبعد من ذلك إلى وصف الزعيم السابق لحزب العدالة والتنمية بأنه “ينقصه الذكاء”، وتضيف نبيلة منيب “ربما لديه ذكاء لخلافة إسلامية كبيرة يطمح لها ويطمح أن يحصل على منصب عون للخليفة”، واتهمته بأنه أدار ظهره لمصالح الشعب المغربي المقهور ولم يحاول اتخاذ خيارات ديمقراطية.
بشأن التقاعد الذي حصل عليه بنكيران ويعادل 7 آلاف دولار شهريًا مدى الحياة، قالت منيب: “نحن اليسار مع بناء دولة ديمقراطية يحصل فيها المسؤولون على أجر محدد ينتهي مع انتهاء المهمة المنوطة بهم، كما هو معمول به في الدول التي تحترم نفسها، ونحن ضد هذا النوع من التقاعد الذي حصل عليه بنكيران الذي يعد نوعًا من الريع السياسي”.
فشل انتخابي ذريع
نتائج أقل من المتوقع حققتها فيدرالية اليسار الديمقراطي، خلال انتخابات 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2016، إذ لم ينتزع تحالف اليسار هذا إلا مقعدين في البرلمان، يمثلان حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي والحزب الاشتراكي الموحد، وتأسس هذا التحالف في 30 من يناير/كانون الثاني 2014 بعد خمس سنوات من التشاور والحوار، وكان من أبرز نقاط برنامجهما الانتخابي الانتقال إلى النظام الديمقراطي في إطار انتخابات حرة ونزيهة وإصلاح التعليم إصلاحًا عميقًا وتحديث الثقافة الوطنية ودعمها استنادًا إلى هويتها العربية الإسلامية الأمازيغية المنفتحة.
عمر بلافريج ومصطفى الشناوي، النائبان البرلمانيان عن فيدرالية اليسار الديمقراطي
الكارثة العظمى التي تلت الربيع العربي في المغرب، كما يصفها النائب البرلماني عن فيدرالية اليسار عمر بلافريج “هي أن لا أحد من أعضاء البرلمان شارك في احتجاجات حركة 20 فبراير، فلا أحد منهم خرج إلى الشارع من أجل التعبير عن مطالب الشعب المغربي، كما لا يوجد في البرلمان أحد من مناضلي هذه الحركة التي خلقت ضجة وفرضت دستورًا جديدًا”.
وإذا كان الشارع يعتبر البرلمان مجرد مسرحية لمؤسسة صورية من أجل إظهار المغرب كبلد ديمقراطي، فإن للنائب اليساري بلافريج رأي آخر وهو: “أن البرلمان لديه سلطة قوية، فلا قانون أو قرار يمكن أن يمر دون أن يصادق عليه البرلمان، بل حتى ميزانية البلاط الملكي تخضع للتصويت”.
عزلة
عزلة جماهيرية يعيشها اليسار المغربي، وفقًا لوجهة نظر السياسي الماركسي عبد الله الحريف، حيث يعزو ذلك إلى غياب التمفصل السديد بين العمل الجماهيري والعمل السياسي والتنظيمي، بين العمل والنضال من أجل تحسين الأوضاع المادية والمعنوية والأهداف الإستراتيجية، وأشار الزعيم السابق لحزب النهج الديمقراطي إلى أن العمل في التنسيقيات يتسم بالمناسباتية والفوقية والإنابة، عوض الالتصاق بهموم الطبقات الشعبية ومساعدتها على أخذ شؤونها بيدها.
“هذا ناهيك عن كون هذه التنظيمات تستهلك طاقات هائلة وتشكل ميدانًا للصراع على المواقع بين قوى اليسار عوض أن تكون ميدانًا للتنافس على خدمة مصالح الجماهير الشعبية والتقارب وتطوير القواسم المشتركة”، كما يشير المعتقل السياسي السابق ضمن صفوف منظمة “إلى الإمام” التي تعود بوادر تأسيسها إلى ستينيات القرن الماضي متأثرة بمجموعة من الأفكار والنظريات الفلسفية الرافضة لكل ما هو مؤسساتي ورسمي، حيث انشقت عن حزب التحرر والاشتراكية الذي سيتحول فيما بعد إلى حزب التقدم والاشتراكية، بعدما تخلى عن نهجه الشيوعي منذ عام 1995.
بعد ذلك، سيخوض حزب التقدم والاشتراكية غمار انتخابات 14 من نوفمبر 1997 وسيحصل على تسعة مقاعد في البرلمان، كما سيشارك في الحكومة بتولي حقيبة وزارة الاتصال حيث ترأسها نبيل بنعبد الله الذي يتزعم حاليًّا الحزب الذي دعم تجربة التناوب التوافقي التي دخلتها قوى المعارضة عام 1998، وترأس خلالها اليسار الحكومة بعد تعيين عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي آنذاك، وزيرًا أولًا.
كانت هذه التجربة نتاج توافق بين الملكية والمعارضة اليسارية على المشاركة الحكومية لأول مرة منذ عقود طويلة، شابها صراع معلن بين الطرفين ذهب ضحيته ضحايا كثر، لكن هذه التجربة انتهت عام 2002 بتعيين رئيس حكومة من خارج الأحزاب السياسية.
شعارات جوفاء
بالعودة إلى حراك 2011، سارعت القوى اليسارية (خارج الحكومة) وأيضًا التيار الإسلامي جماعة “العدل والإحسان” (المحظورة) إلى الانخراط في الاحتجاجات التي دعا إليها شباب حركة 20 فبراير، متمسكين بالطابع السلمي لهذه المشاركة، واحترام الاختلاف والتنوع في الشعارات والمطالب.
وعلى طرف النقيض، بدت أحزاب اليسار الحكومي منفصلة عن الشارع، ما يعني أن الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية لم ينخرطا في دعوات التغيير المجتمعي المنبعثة من الشارع.
وعلى الرغم من ذلك استمرت الاحتجاجات وعمت مختلف مدن وقرى المملكة المغربية، لكن بعد إعلان العدل والإحسان انسحابها من الاحتجاجات بدأ نجم 20 فبراير في الأفول.
ما يعوز اليسار المغربي هو صياغة مشروع واضح ومتجدد تلتف حوله مكونات الشعب، حتى يكون خيارًا بديلاً عن الشعارات الجوفاء والإنشائية النخبوية المفرطة التي ربما كانت سببًا في فشله الانتخابي الراهن، كما يتوجب عليه أن يقدم نقدًا ذاتيًا لهويته ويحترم الديمقراطية الداخلية حتى يتجنب مزيدًا من الانشقاقات الداخلية التي حولت أحزاب اليسار إلى منتديات فكرية صغيرة أو أحزاب أشبه بدكاكين سياسية تبتعد شيئًا فشيئًا عن هموم وتطلعات الناس، وتكتفي فقط بطرح السؤال اللينيني “ما العمل؟” دون الإجابة عنه.