عاد الحديث عن العاصمة الإدارية الجديدة للأردن إلى واجهة الأحداث من جديدة، بعد الضجة التي أثارها تصريح منسوب لوزير النقل الحاليّ خالد سيف، وأثار الكثير من الجدل والسخرية، بسبب محاولته إلصاق أزمة الزحام الخانقة التي تعيشها العاصمة عمان حاليًّا، بما أسماها الهجرة القسرية التي لحقت بها من البلدان المجاورة.
منطق تصريحات سيف جعلته عرضه لسلسلة من التعليقات العنيفة والحادة من وسائل الإعلام والنخبة والجمهور على حد سواء، خاصة أنه يثير الجدل منذ إعلان اختياره، دون أن تنشر الحكومة أي معلومات واضحة عن سيرته الذاتية كباقي الوزراء الجدد في التعديل الرابع لحكومة عمر الرزاز، والمؤهلات التي يحملها وعلى أساسها تم اختياره وزيرًا لأحد أهم القطاعات الحيوية والأكثر معاناة لدى المواطنين.
أين الأزمة في عمان؟
يرصد مؤشر الإحصاء الوطني للسكان في العاصمة الأردنية، ارتفاع عدد قاطني المدينة إلى 4 ملايين ونصف نسمة، أي أكثر من 42% من سكان المملكة الذين تجاوزوا 10 ملايين، والرقم الكثيف لسكان العاصمة ليس سببه ارتفاع عدد السكان كما يقول الوزير الجديد، ولكنه يشير إلى ثقافة عربية مزمنة في المقام الأول، جعلت من عواصم بلدانها، على مدى العقود الماضية “المدينة الدولة”، ولم تدرك أو حتى تستورد من الخارج، أي تخطيط شمولي يجعل كل محافظة قادرة على الإنتاج وجاذبة للاستثمار، وبها من التمدن والحداثة ما يحافظ على استمرار كادرها البشري في حيزها الجغرافي، يضيف لها وتضيف إليه.
ويكشف الإحصاء خللًا رهيبًا في التوزيع السكاني على ربوع الأردن كافة، حيث يقيم 74.8% من السكان في ثلاث محافظات فقط من أصل 12 محافظة: العاصمة بها كما أسلفنا 42% وإربد 18.5% والزرقاء 14.3%، فيما يوزع باقي السكان ونسبتهم 25.2% على باقي المحافظات وهم كالتالي: المفرق 5.8% والبلقاء 5.2% والكرك 3.3% وجرش 2.5% ومادبا والعقبة 2% لكل منهما وعجلون 1.8% ومعان 1.7% والطفيلة 1%”، وهنا ترتفع نسبة السكان في المناطق الحضرية إلى 90.3%، بينما تنخفض في المناطق الريفية إلى 9.7%.
اتهامات الرأي العام.. مبالغة أم حقيقة؟
يرصد معهد كارينجي للسلام، ما يسميه مبالغة الرأي العام الأردني في الحديث عن الآثار السلبية لتدفّق اللاجئين السوريين، حتى أصبح هناك شعور عام تجاه اللاجئين السوريين، ضارًا للغاية، ويحجم قدرة الحكومة على الاستجابة بصورة مثمرة، مع أن هذه القضية تحديدًا، وـ الحديث لكارينجي ـ ألقت الضوء على بعض أكبر التحديات المعاصرة في الأردن، فكل التحديات التي أبرزها اللاجئون، لها جذور عميقة بالأساس في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في البلاد، والواقع يؤكد أن تزايد عدد اللاجئين السوريين لم يسهم إلا في تفاقم تحديات مزمنة كانت موجودة مسبقًا، وقد تكون إرهاصات لعدم الاستقرار في المستقبل.
يستند كارينجي في رؤيته التي تتهم الرأي العام الأردني بالمبالغة، أنه طوال تاريخه، يخدمه موقعه الجغرافي الذي يقع على مفترق طرق منطقة مضطربة، وهو سر سجله الطويل في توفير اللجوء للأشخاص المضطهدين، ومقابل ذلك كانت المملكة الأردنية تحصل على دعم سياسي واقتصادي لا حدود له.
السوريون ليسوا أول من يتم توجيههم للهجرة إلى الأردن، ولكن سبقهم الفلسطينيون والعراقيون، ومقابل ذلك وفّروا للمملكة الهاشمية فرصًا للاستفادة القصوى من الدعم الدولي، خاصة أن اقتصاد البلاد ريعي بالأساس، ولهذا اعتمد أمن الأردن ورخاؤه إلى حد كبير على مصالح اللاعبين السياسيين الخارجيين، منذ أن خط البريطانيون حدوده لأول مرة عام 1921.
ليست الأزمة في غياب الإستراتيجية فقط، بل لها أبعاد أخرى أكثر خطورة، منها أن العاصمة أصبحت تبرز رأسمالية عقارية متوحشة
ويدعم رأي كارينجي بدرجة كبيرة، الدكتورة سوسن المجالي الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للسكان، التي أكدت خلال فترة توليها منصبها قبل ثلاث سنوات، أن أزمات الأردن في مجالي الهجرة واللجوء تكمن في ضعف التنسيق بين الجهات الوطنية المعنية بالقضية، فالهجرة إلى العاصمة ليست من الوافدين على البلاد، ولكن هناك هجرة داخلية أيضًا.
وتشير المجالي إلى الخلل الذي تعيشه عمان في ظل غياب إستراتيجية وطنية للاستفادة المثلى من العوائد الإيجابية للهجرة الطوعية، بسبب ضعف الوعي لدى المسؤولين، بأهمية إدماج مثل هذه القضايا النوعية في خطط التنمية الوطنية، بدلًا من الاكتفاء بتحميل الوافد، الأزمات الناجمة عن كل شيء في البلاد، وكأنها هبة من السماء لتعليق كل مسؤول شماعة آخطائه وتقصيره عليها، من سوء التنظيم والقصور بالإدارة.
وليست الأزمة في غياب الإستراتيجية فقط، بل لها أبعاد أخرى أكثر خطورة، منها أن العاصمة أصبحت تبرز رأسمالية عقارية متوحشة، ما أخضعها لتركيب سكاني متناقض، حيث يصل سعر متر الأرض في بعض مناطق إلى ألف وألف ونصف دينار، وتبلغ أسعار العقارات أحيانًا، ألفين وثلاثة آلاف دينار، وهي أسعار تضاهي أسعار نيويورك وباريس وطوكيو، وتزيد عنها أحيانًا، بحسب الكاتب الصحفي فارس الحباشنة.
حلول غير تقليدية.. هل تصلح؟
البحث في أزمة العاصمة الأردنية عمان، يكشف مفاجآت عدة، منها أن هناك دعوات متزايدة منذ عام 2003 من خبراء التنمية والعمران، بضرورة التفكير الجدي في إنشاء عاصمة جديدة للبلاد، تكون قادرة على التعامل مع مشكلة الزيادة السكانية والاعتداء على الأراضي الزراعية.
ظلت الدعوات تتبلور في أفكار، وحاولت الحكومات المتعاقبة على البلاد، منذ هذا التاريخ الذي يسبق مشكلات بلدان الربيع العربي، بنحو عقد من الزمان، حتى جاء الدكتور هاني الملقي رئيس الوزراء الأسبق، وأعلن عام 2017 نية بلاده إنشاء مدينة جديدة، تكون بمثابة “عاصمة إدارية”، بعد بدء مصر مشروع مشابه في هذا التوقيت وأشرفت على الانتهاء منه.
تحدث الملقي عن تحديات الزيادة السكنية والمواصلات ورغبة حكومته في معالجة الأزمة بطريقة غير تقليدية، فإقامة عاصمة على أحدث الطرز العالمية، في أراض مملوكة للدولة وبمشاركة قوية للقطاع الخاص، قد يكون المشروع الإستراتيجي الحالم الذي تنتظره البلاد، فهو من ناحية لا يحمل اللاجئين مشكلات الواقع، ويرسخ لثقافة جديدة تحاول الاشتباك مع الأزمات وحلها لا القفز فوقها.
اقتراح العاصمة الإدارية لم يلق قبول المثقفين ـ كما هو الحال في مصر ـ وهاجموا المقترح بشدة ورفضوا المنطق السياسي والاقتصادي للملقي، وهو ما جعل حكومة الدكتور عمر الرزاز الذي خلف رئيس الوزرء السابق في منصبه، يعلن سريعًا عدم وجود أي نية لدى القيادة السياسية لإقامة مشروع عاصمة جديدة.
يقول الرزاز إن الحديث، لم يكن ولن يكون في الإطار الرسمي، إلا عن كيفية تحسين الخدمات والمواصلات، ولم يكتف رئيس الوزراء بنفي الفكرة، ولكنه لعب سياسيًا بشكل جيد للاستفادة من الأزمة شعبيًا، وأكد أنه لا يعرف بالأساس إذا كان قرار الحكومة السابقة ناتجًا عن دراسة حقيقية أم جاء في إطار المناكفة بين الحكومات في الأردن!
ما قاله رئيس الوزراء الجديد لم يردع وسائل الإعلام المحلية التي تتسابق حتى الآن لمعرفة تفاصيل المشروع، وحصلت بعض المواقع على معلومات موثقة، تشير إلى أن فكرة العاصمة الإدارية الجديدة كانت مطروحة بقوة، بل إن حكومة الملقي عملت المخططات اللازمة، وأشرف عليها وزيرا الاسثمار والأشغال.
وكشفت في الوقت نفسه، أسباب إلغاء الحكومة الحاليّة للمشروع، ليس للأسباب التي أفصح عنها الرزاز، ولكن لفشل وزارته في جذب استثمارات مناسبة للمشروع، مع أن الملقي لا يزال بعد خروجه من الوزارة، يدافع بقوه عن مشروعه ويؤكد أنه لن يكلف الدولة قرشًا واحدًا حال تنفيذه، ويشير إلى وجود آليات مبتكرة في أدراج الحكومة، ستنفذ المشروع على هذا النحو حال البدء فيه الآن.
لا يعرف أحد ما الذي يمكن أن تصل إليه الأمور في الأردن، وسواء عادت الحكومة إلى فكرة الملقي أم استمرت في نفيها، أصبحت أزمة السير لا تحتمل، وفرضت على الحياة في العاصمة، تحديات غير مسبوقة، فأزمات المرور مستمرة ومزمنة ولا تنقطع، صباحًا ومساءً وكل الأوقات، وحتى أيام العطل وفي الليل، والأخطر من ذلك أن تتحول إلى محور يسقط عليه الأردنيون كل أزماتهم وعجزهم المكبوت، على حد قول فارس الحباشنة.