أن يخرج مبصرًا بعينيه، حلم تمنّى تحقيقه وهو ينشد الحياة الكريمة، لكنه عاد كريم العين. مؤمَّل مزهر، متظاهر عراقي يبلغ من العمر 18 عامًا، فقد عينه اليمنى بانفجار خلال تفريق قوات الأمن تظاهرة احتجاجية في بغداد.
بصوت خافت نتيجة الألم الذي يرافقه يروي مؤمَّل لـ”نون بوست” اللحظات الأولى لإصابته، انفجار هائل عن يمينه، أفقده عينه اليمنى، ثم فتح عينه وقد كان من قبل يفتح عينيه، هذا كل ما يتذكره، قبل أن يفقد وعيه مدّة يسيرة من الزمن.
بواسطة “التك تك”، الإسعاف الشعبي لمملكة المحتجين، الذي تحوّل إلى وسيلة نقل وإسعاف وتلبية حاجات المتظاهرين، نقل مؤمَّل من ساحة التحرير إلى مستشفى ابن النفيس في العاصمة العراقية بغداد، لكن “عدم وجود خفر جراحة عيون ووجه” كان سببًا في عدم علاج مؤمّّل، بحسب وثيقة حصرية لــ”نون بوست”.
مدينة الطب هي الوجهة الثانية، حيث توجهت سيارة الإسعاف. نصف ساعة هو الوقت الذي قضاه مؤمَّل حتى وصوله إلى المستشفى، كان زمنًا طويلًا بالنسبة إليه وهو يتجرّع صنوفًا من المعاناة والألم، ويترقب بقلق وينظر إلى مستقبله وعائلته ووطنه بعين يتيمة واحدة.
على أمل الشفاء قضى مؤمَّل يومين في مدينة الطب، وتشير التقارير النهائية بعد خروجه من المستشفى إلى تعرضه لضرر كبير في عينه اليمنى بأسفل الملتحمة، ويعاني من التهاب فيها، بالإضافة إلى نزف نتيجة الحادث.
لا أمل يا مؤمَّل!
“لا علاج لك في العراق”، بهذه الكلمات التي تتفتّق ألمًا أخبر الأطباء مؤمَّل قائلين له: “أنت بحاجة إلى علاج سريع خارج البلاد”، لكن الخبر شكّل صدمة نفسية عميقة له، إذ إنه لا يملك هو وعائلته المال اللازم للعلاج في الخارج، ففقر الحال والعوز يمنعانه من ذلك.
وقليلًا إلى الوراء عصر الـ25 من أكتوبر/تشرين الأول بالتحديد، قُتل عشرات المحتجين وأصيب آلاف، وكان مؤمَّل أحد المصابين، فقد شهدت ساحة التحرير في بغداد آنذاك أكبر احتجاجات عفوية جرى التحشيد لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تحت وسم “نازل آخذ حقي”، فنزل مؤمَّل ومعه مئات الآلاف من المطالبين بحياة حرة كريمة.
يقول مؤمَّل: “فقر الحال والعوز هو ما دفعني إلى الخروج والمشاركة في الاحتجاجات الشعبية، والحكومات العراقية المتعاقبة منذ ستّ عشرة سنة لم تقدم أي شيء للعراقيين، وهي السبب في عدم توفير حياة كريمة للمواطنين”.
إصابات وإصرار
بصوت تخنقه العبرات، يختزن في داخله كل آلام السنين العجاف، وبأنفاس متقطعة إثر البكاء والحزن على حال ولدها، تستغيث أم مؤمَّل بمناشدة ممزوجة بالدموع والألم وتوجه رسالة إلى العالم لعلاج ولدها وتروي لـ”نون بوست” تفاصيل مشاركة ابنها في حركة الاحتجاج الشعبي.
لم تكن إصابة مؤمَّل في عينه هي المرة الأولى، إذ تعرض في بداية انطلاق الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لإصابة في فكِّه نتيجة العنف المفرط من السلطات الأمنية العراقية، وعالجته حينها الفرق الطبية سريعًا، ثم عاد ليلتحق بركب الاحتجاجات الشعبية من جديد، وعمل عقب ذلك أيضًا متطوعًا ومسعفًا مع الفرق الطبية.
هل ستشارك في الاحتجاجات مجددًا؟ هو السؤال الذي وجهناه إلى مؤمَّل بلهجته المحلية وبضحكة خفيفة، فردّ قائلًا: “أول البارحة كنت بالتحرير”! الإصرار والعزيمة لم يمنعاه من الاستمرار في التظاهر حتى بعد فقدانه إحدى عينيه، وهو ليس نادمًا على مشاركته في أكبر حركة احتجاجية شهدها العراق الحديث.
“الثورة”.. وطن الفقر والفقراء!
في مدينة الصدر حاليًّا (الثورة سابقًا) وطن الفقر والفقراء، وفي بيت بسيط يتكون من غرفة واحدة يعيش مؤمَّل مع والدته وأخيه الذي كان منشغلًا في المشاركة بالاحتجاجات الشعبية في ساحة التحرير، تقول العائلة إنها مهددة بالتشرد والسلطات تحاول هدم المنزل، لأنه بني بالتجاوز، ولا تملك غيره، حيث لا معيل لديها إلا مؤمَّل الذي يعمل عاملًا بأجر يومي.
“لا أريد شيئًا من الحكومة والدولة”، هكذا قالت والدة مؤمَّل وهي ترفض أن تتقبل أي مساعدة من السلطات لمعالجة ابنها الذي يعجز الأطباء المحليون عن علاجه وهو بحاجة إلى علاج سريع خارج العراق.
ذهول إزاء إحصاء معاقي التظاهرات!
لم تكن قصة مؤمَّل الوحيدة من شاكلتها، بل هي قصة من آلاف القصص المأساوية التي رافقت الاحتجاجات الشعبية، إذ تشير التقارير الأولية إلى أن عملية قمع الاحتجاجات الأخيرة المناهضة للحكومة التي انطلقت في بغداد ومدن جنوبية عدة أدّت إلى إصابة ثلاثة آلاف شخص على الأقل بإعاقات دائمة، بحسب إحصاءات منظمة “تجمع المعوقين في العراق” غير الحكومية.
يقول مسعفون إن عددًا كبيرًا من المصابين يخشون الذهاب إلى المستشفيات خوفًا من الاعتقال، حيث اختطف أو اعتقل كثير من المصابين في المستشفيات العراقية، نتج ذلك عن التهاب بعض الإصابات، ما أرغم في بعض الحالات الممرضين والأطباء على بتر أعضاء من الجسم.
وعلى الرغم من توجيه منظمات حقوقية انتقادات إلى القوات الأمنية العراقية لإطلاقها قنابل الغاز المسيل للدموع من مسافة قريبة، ما أدى إلى وفيات وإصابات مروعة، إذ تخترق تلك القنابل الجماجم والصدور، فإن الاحتجاجات كانت الأكثر دموية في البلاد منذ عقود، وتستخدم فيها قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والمطاطي والقنابل الصوتية.
فاتورة النزاعات
للعراق تاريخ طويل من النزاعات الدامية منذ عقود، خلفت أجيالًا من المعاقين. ففي كل نزاع يتحوّل آلاف الجرحى فيما بعد إلى معاقين، وبحسب تعداد أجراه “تجمع المعوقين في العراق”، يبلغ عدد المعاقين في العراق أكثر من 3 ملايين شخص، وهو ما يتقارب مع إحصاءات أخرى لمنظمات دولية وحقوقية، فيما تشير وزارة التخطيط إلى وجود أكثر من مليوني معاق في 13 محافظة من أصل 18.
تشير الأمم المتحدة إلى أن العراق من بين أكبر الدول في معدلات الإعاقة بالعالم، فيما تقدر نسبة الأشخاص من ذوي الإعاقة في البلدان التي تتعرض للاضطرابات والحروب بـ13-14% من نسبة السكان.
وعلى الرغم من أن العراق طرف في اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فإن المعاقين يواجهون ضعفًا في الخدمات الصحية ونقص فرص العمل وتهميش اجتماعي، لذلك نظموا مسيراتهم الخاصة في بغداد، كجزء من حركة الاحتجاج الشعبية طالبوا خلالها بتوفير حياة كريمة لهم.
واقع مأساوي
يكشف التقرير الوطني للتنمية المستدامة 2030 بشأن واقع الإعاقة في العراق الذي تابعه “نون بوست” جملة من التحديات التي يعاني منها ذوو الإعاقة، ففي مجال التعليم -مثلًا- يؤكد التقرير “يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة من عدم توافر المدارس الملائمة للدمج التربوي الشامل وفق المعايير الدولية، وانتشار الأمية بين صفوفهم بسبب قلة الكوادر المتخصصة والقادرة على المساهمة الجدية في البناء والتثقيف نتيجة تقصير دور الدولة وعدم القيام بواجبها”.
أما في مجال العمل “فيعاني غالبيتهم من البطالة بما فيهم ذوي المؤهلات، وذلك نتيجة عدم تفعيل المادة المتعلقة بتخصيص 5% من وظائف القطاع العام و3% من وظائف القطاع المختلط وفقًا لقانون رعاية ذوي الاعاقة، رقم 38 لسنة 2013”.
وفي “مجال القوانين الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة، فإنها بحاجة ماسة إلى التفعيل والتشديد على معاقبة المخالفين لها. وتظل أزمة غياب الإرادة السياسية عن تحقيق مطالب الأشخاص ذوي الإعاقة حجر الزاوية في تفاقم تلك المشكلة، إذ إن القوانين والتشريعات الدولية والوطنية قد رسخت وأقرت حقوقًا عديدة وآليات لتنفيذها، ولو تم تطبيق تلك الحقوق وكانـت هناك إرادة جـادة من الدولة لتنفيذها لكان يمكـن أن تنتهي أزمة هؤلاء الأشخاص”.
وفي “مجال برامج التدريب والتمكين، لا تقوم الدولة بتوفير برامج التدريب ومحو الأمية بهدف الحد من انتشار الجهل وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة”، وفي “مجال إمكانية الوصول، الأشخاص ذوو الإعاقة ما زالوا يعانون من انعدام وسائل الوصول إلى المرافق العامة واستخدامها كغيرهم من المواطنين، بالإضافة إلى عدم تمكنهم من ممارسة حقهم الكامل في التنقل والسفر، لانعدام توافر وسائل النقل المؤهلة من مركبات عامة وخاصة، كما أن الطرقات والأرصفة غير مجهزة وغير صالحة لاستخدامهم، ما يشكل حجر عثرة في طريقهم ويحرمهم من حقهم في الحركة والتنقل ويضع محدودية كبيرة تقيّد تحركاتهم”.