يتزاحم الناس في عدد من دول العالم على المتاجر ومراكز التسوق فيما يعرف بيوم “الجمعة السوداء”، وهو أكبر يوم للتسوق على مدار العام، ويأتي عقب “عيد الشكر” الأمريكي. فيه تبدأ المحال التجارية بتقديم تخفيضات كبيرة وعروض مغرية على جميع السلع والخدمات تقريبًا، مستغلةً أجواء واحتفالات العيد الاجتماعية لمن ينتظرون شراء وتبادل هدايا عيد الميلاد.
وفي السنوات الأخيرة، كثرت مواسم التنزيلات وتوزعت بين فصول السنة، وانتشرت تقاليد مماثلة ليوم الجمعة السوداء، إذ ظهرت أيام تسويقية أخرى من السنة لتقديم خصومات تجارية إضافية، مثل يوم “الإثنين السيبراني” الذي يحتفل به يوم الإثنين التالي ليوم الجمعة منذ عام 2005، وهو ما بات تدريجيًا واحدًا من أبرز أيام التسوق الإلكتروني، يضاف إليه يوم “الخميس الرمادي” الذي يسبق يوم “الجمعة السوداء”، وهو ما أطلقته في البداية شركة “وول مارت” العملاقة عام 2012.
ووسط هوس المستهلكين بالشراء وجشع الشركات التجارية في زيادة أرباحها، ظهرت حركة “عام دون شراء” أو “No-buy year”، ومجموعة أخرى من التجارب الفردية التي اتبع أصحابها حمية اقتصادية وقرروا تقليص مشترياتهم وادخار أموالهم، وأرادوا كذلك توعية غيرهم من الأشخاص الاستهلاكيين بعواقب هذه السلوكيات ومساعدتهم في النظر إلى تلك العادة من منظور مختلف.
سجن من الضغوط المادية والنفسية
الفكرة ببساطة هي أن لا تشتري منتجات جديدة، لأسابيع أو أشهر أو سنوات، ويتضمن ذلك جميع السلع غير الضرورية مثل الملابس وأدوات التجميل والأثاث المنزلي، في المقابل يُسمح بالإنفاق على مجموعة من الضروريات الشخصية والاستثناءات المحددة مثل فواتير الطعام والسكن والمستلزمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات العامة التي لا يمكن الاستغناء عنها.
من جهة أخرى، يرى أصحاب هذه الفكرة وروادها أنه من الأولى الالتزام باستخدام الأشياء التي نملكها من السابق، والاستمتاع بها بدلًا من تكديسها في الخزائن والأدراج، دون الاستفادة منها أو حتى الانتباه لوجودها، كما يُنصح في هذا الجانب باستغلال أموالنا في أمور أكثر استدامةً وتأثيرًا من الأشياء المادية التي تدوم متعتها وسعادتها لساعات مؤقتة، وإنفاقها في المقابل على أنشطة ترفيهية وتعليمية مختلفة مثل السفر وزيارة المتاحف والمعارض والتنزه وتجربة أشياء جديدة في الحياة.
يمكن التعامل مع هذه الحمية على أنها استراحة علاجية من ناحيتين: أولًا من العادات الخاطئة والإشباع الفوري، وثانيًا من الضغوط الاجتماعية والمادية
يُذكر أن التوفير الاقتصادي لم يكن وحده الغاية المنشودة من هذا الأسلوب، إذ يعتمد أيضًا على مبادئ ودوافع مختلفة، ومنها التركيز على الأثر البيئي لعاداتنا الاستهلاكية، وخاصةً فيما يتعلق بصناعة الأزياء وظاهرة الموضة السريعة التي تدمر التوازن البيئي من حولنا، إلى جانب بعض الأسباب الثقافية التي تدفع البعض إلى اتخاذ مواقف صارمة ضد المنظومة الاقتصادية الرأسمالية والبيئة التسويقية الاستهلاكية.
وربما لدواعٍ شخصية مثل التعرف على الذات والتحكم في الرغبات والعادات الشخصية، وعلى هذا الأساس، يمكن التعامل مع هذه الحمية على أنها استراحة علاجية من ناحيتين: أولًا من العادات الخاطئة والإشباع الفوري، وثانيًا من الضغوط الاجتماعية والمادية، فإذا قررنا بجدية التوقف عن الشراء، ستزداد مدخراتنا وستقل بالتوازي معها مشاعرنا بالقلق تجاه وضعنا المادي، كما ستكسر هذه العادة رغبتنا في اقتناء أحدث الصيحات لإبهار المحيطين بنا ولفت انتباههم إلى مظهرنا الخارجي، وستساعدنا في الخروج من هذه الدوامة، بأقل خسائر معنوية ومادية ممكنة.
يجدر عدم الانسياق خلف الخدع التسويقية والنزوات اللحظية التي قد تجرجر البعض لشراء قميص بمبلغ 20 دولارًا على اعتبار أنه لن يهدد الميزانية، لأنه في الواقع سينتهي به المطاف إلى إنفاق مئات الدولارات على مدار السنة بشكل لا واعٍ
فوفقًا لجوردانا جاكوبس، متخصصة في علم النفس، “يلجأ كثيرون للتسوق بهدف صرف أذهانهم عن الشعور بالبؤس وعدم الراحة، لكن بعدما ننتهي من عملية الشراء فإن الأمر يتحول إلى سبب للإزعاج والمعاناة”، ولذلك ترى أن الامتناع عن الشراء لا يوفر فقط المال، بل الراحة النفسية والعقلية أيضًا.
علمًا أن هذه الحمية تتخذ أشكالًا مختلفة من الانضباط، ففي بعض الأحيان يتعهد البعض بعدم التسوق لبضعة أسابيع أو أشهر، فيما يقرر سواهم تقليل خياراتهم الشرائية مثلًا أو تحديدها بمعايير مالية منخفضة للغاية، ولكن يجدر في هذه الحالة عدم الانسياق خلف الخدع التسويقية والنزوات اللحظية التي قد تجرجر البعض لشراء قميص بمبلغ 20 دولارًا على اعتبار أنه لن يهدد الميزانية، إلا أنه في الواقع سينتهي به المطاف إلى إنفاق مئات وربما آلاف الدولارات على مدار السنة بشكل لا واعٍ.
إذن، كيف نلتزم بهذا النظام؟
قد يبدو الامتناع عن الشراء تمامًا لمدة عام، أمرًا لا يمكن تحقيقه، ولذلك ينصحنا المحلّلون الماليون بصناعة قواعدنا الخاصة بنا وبما يتلاءم مع حياتنا وأولوياتنا حتى لا نشعر بالعجز في أول فترة من التجربة. إلى جانب ذلك، يقترح الخبراء اتخاذ خطوات صغيرة مثل البدء بعدم الشراء لمدة أسبوع أو أسبوعين في كل شهر من العام مثلًا.
الأهم من ذلك، تقول مارييل فرانسيس، مديرة مالية في مدينة نيويورك وواحدة من أنصار هذا النظام: “من المهم أن تغير عقليتك قبل أن تبدأ وأن تكون واضحًا مع نفسك بشأن سبب التزامك بهذا التحدي، لأنه سوف يساعدك في محاربة الإغراءات”، مضيفة أنها فرصة جيدة لتعلم الاستغناء عن الأشياء والتمييز بين الاحتياجات الضرورية والكماليات.
وحتى قبل البدء بهذه الخطوة، يجدر بك قضاء شهر واحد أو أسبوع على الأقل في متابعة نفقاتك ومشترياتك، حتى تدرك حجم المصروفات والتكاليف التي قد لا تكون على علم بها، ومن ثم حدد الفئات التي يمكنك خفض الإنفاق فيها أو حتى اقتطاعها بشكل كامل من قائمة نفقاتك، ولكي لا تصعب هذه المهمة عليك، يُظهر العلم أن مشاركة الأهداف الشخصية مع الآخرين يسهل تحقيقها، ولذلك تعتبر دعوة أصدقائك أو شركائك في العمل أو المنزل للانضمام إليك في هذا التحدي، خطوة جيدة في مساعدتك على الصوم عن الشراء.
هل تنتشر هذه الفكرة؟
مؤخرًا، بدأ الحديث عن حركة الامتناع عن الشراء بالتزايد على منصات التواصل الاجتماعي، وبدأت شعبية هذه الفكرة بالنمو مع تبادل المستهلكين تجاربهم ونتائجئهم، رغم أن هذه الواجهات الرقمية تعج في الوقت نفسه بمدمني الاستهلاك والتسوق من كل حدب وصوب، ولكن كان من الواضح أن الحديث المتكرر بلغة الإدمان على السوشيال ميديا خلق لدى البعض مشاعر مضادة تجاه الموضة والتسوق.
إذ لم تكن الحالة الاقتصادية الدافع الوحيد لانضمام الكثيرين للحركة، وإنما بسبب رغتبهم في الشعور بالسيطرة على الأشياء، خاصةً أن العديد من الأبحاث المنشورة تشير إلى أن إدمان التسوق أو الشراء القسري يؤثر على نحو 5% من السكان، ويعتقد في هذه الحالة أن البعض يسعى للتخلص من هذه القيود التي تجعله عبدًا للسوق وسجينًا داخل النظام الرأسمالي.
الهدف واحد، هو أن تشعر بأنك تتحكم في حياتك بشكل كامل وتحل مشكلة الشراهة والطمع في اقتناء المزيد
في هذا الخصوص، تقول كيت يارو، وهي متخصصة في علم نفس المستهلك، إنه لا يوجد ما يدعو للاستغراب من إقبال المستهلكين على عدم الشراء، وتضيف “على مدى السنوات العشرين الأخيرة كنا نشتري كميات كبيرة من البضائع زهيدة الثمن، وأُغرق الناس بالمنتجات والملابس ومستحضرات التجميل وأدوات الزينة، ولم يعد لديهم متسع للمزيد”، وتكمل: “الهدف واحد، وهو أن تشعر بأنك تتحكم في حياتك بشكل كامل”، مشيرةً إلى أن سنة الامتناع عن الشراء تعد “حلًا للشراهة والطمع”.
ونتيجة لذلك، أعادت بعض العلامات والشركات التجارية خططها الإنتاجية وتعاملت مع هذه التغيرات بمعايير أخلاقية ومسؤولية اجتماعية، وباتت تصنع منتجات وأدوات مستدامة وصديقة للبيئة وبمكونات قابلة لإعادة الاستخدام، إرضاءً لزبائن وحرصًا على بقائها في السوق.