تتجه العلاقات بين الجزائر والدول الأوروبية إلى مزيد التوتّر والتأزم في ظلّ الاتهامات المتبادلة بين الطرفين في خصوص الملف الحقوقي المتعلّق بالاحتجاجات التي تشهدها الجزائر منذ شهر فبراير/شباط الماضي. تصعيد متواصل من شأنه التأثير سلبًا على طبيعة العلاقات بين الطرفين، خاصة وأن هذا التصعيد يصبّ في مصلحة بعض القوى الإقليمية على غرار روسيا.
خشية أوروبية
البداية كانت من قبة البرلمان الأوروبي، حيث أدان النواب الأوروبيون “بشدة الاعتقالات التعسفية وغير القانونية، والاحتجاز والتخويف والاعتداءات بحق عدد من المتظاهرين والصحفيين والطلاب والناشطين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين شاركوا في حراك الجزائر”، داعين إلى إنهاء الأزمة الراهنة من خلال إطلاق عملية سياسية سلمية وشاملة.
وصوت البرلمان الأوروبي في جلسة له أمس الخميس على لائحة رمزية تفتقد إلى القيمة الإلزامية قدمها النائب الأوروبي الفرنسي رافايل غلوكسمان، بمقتضاه دعا الأوروبيين السلطات الجزائرية إلى السماح بالتظاهر السلمي، وإطلاق سراح كل المعتقلين على خلفية ممارسة حقهم في حرية التعبير.
وذكرت اللائحة قائمة من الناشطين الموقوفين في السجون بسبب آرائهم ومواقفهم ونشاطهم في الحراك الشعبي، بينهم المناضل الثوري وأحد قادة ثورة التحرير لخضر بورقعة، والناشطان سمير بلعربي وفوضيل بومالة، ومجموعة من نشطاء جمعية “راج”، كما طالبت السلطات الجزائرية برفع حظر السفر والمراقبة المفروضين على عدد من الصحافيين.
هذه الجلسة التي خصّصت للحديث عن الحراك استبقتها السلطات الجزائرية الحاكمة بمواقف رافضة لأي تدخل أجنبي أو تعبيرات سياسية خارجية تخص الوضع في البلاد
البرلمان الأوروبي أعلن عن شكوكه بشأن وجود قضاء مستقل في الجزائر يضمن حقوق الناشطين، ولمح إلى تعرض القضاة للضغوط، معتبرًا أن “القضاء المستقل هو أحد العناصر الأساسية لعمل الديمقراطية ولذلك يتعين على السلطات الجزائرية تعزيز وضمان استقلال القضاء”.
وطالبت اللائحة الأوروبية دائرة العمل الخارجي الأوروبي والدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالسعي لترتيب زيارات للسجون ومراقبة المحاكمات وإصدار بيانات عامة، ورصد حالة حقوق الإنسان في الجزائر باستخدام جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الأداة الأوروبية للديمقراطية وحقوق الإنسان.
من جانبها، قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني أمام النواب الأوروبيين في جلسة النقاش التي خصصت للوضع السياسي وتطورات الحراك الشعبي في الجزائر، إن احترام الحريات في الجزائر من شأنه أن يساعد على حل الأزمة ودعم الاستقرار، مؤكدة في الوقت ذاته احترام الاتحاد الأوروبي سيادة الجزائر واستقلاله.
جسارة ووقاحة
هذه الجلسة التي خصّصت للحديث عن الحراك استبقتها السلطات الجزائرية الحاكمة بمواقف رافضة لأي تدخل أجنبي أو تعبيرات سياسية خارجية تخص الوضع في البلاد، حيث أعلن قائد الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، قبل يوم من الجلسة رفضه لأي تدخلات أجنبية في الشأن الداخلي للجزائر، مشددًا على أن “محاولات الضغط السياسي على الجزائر بالتنسيق مع مجموعات سياسية ومدنية في البلاد ستكون مرفوضة وسيكون مآلها الفشل”.
وما إن صوّت البرلمان الأوروبي على اللائحة التي قدمها النائب الفرنسي، حتى أصدرت الخارجية الجزائرية بيانا اعتبرت فيه أنه “بإيعاز من مجموعة من النواب متعددي المشارب وفاقدي الانسجام، منح البرلمان الأوروبي نفسه، بكل جسارة ووقاحة، حرية الحكم على المسار السياسي الراهن في بلادنا”.
طالب الأوروبيون الجزائر بوقف الاعتقالات في صفوف المحتجين
أضاف نفس المصدر أن “هؤلاء النواب قد ذهبوا إلى حد منح أنفسهم، دون عفة ولا حياء، الحق في مطالبة البرلمان الجزائري بتغيير القوانين التي اعتمدها نوابه بكل سيادة”. وقد أبان البرلمان الأوروبي بهذا التصرف -يوضح بيان وزارة الشؤون الخارجية- “ازدراءه، ليس للمؤسسات الجزائرية فحسب، بل لآليات التشاور الثنائي التي نص عليها اتفاق الشراكة بما فيها تلك المتعلقة بالمجال البرلماني”.
وأضاف البيان أن “الجزائر تدين وترفض شكلًا ومضمونًا هذا التدخل السافر في شؤونها الداخلية وتحتفظ لنفسها بالحق في مباشرة تقييم شامل ودقيق لعلاقاتها مع كافة المؤسسات الأوروبية قياسًا بما توليه هذه المؤسسات فعليا لقيم حسن الجوار والحوار الصريح والتعاون القائمين على الاحترام المتبادل”.
أكثر من ذلك -يستطرد البيان – فإن البرلمان الأوروبي “أكد باستجابته هذه لإيعاز هؤلاء البرلمانيين المحرضين، أنه يعمل بشكل مفضوح للترويج لأجندة الفوضى المقصودة التي سبق للأسف تنفيذها في العديد من الدول الشقيقة”، مستدلًا في ذلك بما قام به أحد البرلمانيين الأوربيين من “إشادة بالاستعمار الذي سمح، حسبه، بحرية ممارسة الشعائر الدينية خلال 132 سنة من استعمار الجزائر”.
التدخل في شؤون البلاد
تعهّد الفريق أحمد قايد صالح بأن يقوم الجيش بإفشال مخططات من وصفها بالعصابة التي تستنجد بأطراف أجنبية، وبعده بيان الخارجية الجزائرية الذي يهدّد بمراجعة علاقة البلاد مع كافة المؤسسات الأوروبية، لم يكن موجّها للبرلمان الأوروبي فحسب بل لأطراف أوروبية أخرى ترى السلطات الجزائرية إنها سمحت لنفسها بالتدخّل في شؤون البلاد الداخلية.
وترى السلطات الجزائرية إن فرنسا سوّلت لها نفسها بالتدخل في شؤون البلاد، وذلك على خلفية تصريحات لوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عن سبل حل الأزمة في الجزائر، وفيها اعتبر لودريان أن “الحوار الديمقراطي” و”احترام الحريات” هما الحل لإنهاء الأزمة في الجزائر التي تشهد حركة احتجاج منذ فبراير/شباط 2019.
وقال الوزير الفرنسي في مقابلة مع صحيفة “بروفانس” المحلية إن “الحل يكمن في حوار ديمقراطي يتيح للجميع التعبير عن آرائهم بلا خوف (…) وأن تحترم حريات التعبير والديانة والصحافة والتظاهر بشكل تام”.
يعتبر الجيش الجزائري أكثر المؤسسات قربًا من روسيا وقياداتها، بحكم العلاقات التاريخية التي ربطت الجزائر بالاتحاد السوفيتي سابقًا
قبل ذلك أعلنت رئيسة اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان على مستوى البرلمان الأوروبي، ماري إرينا، عبر مقطع فيديو نشرته على “فيسبوك”، عن دعم الحراك الشعبي الذي أسمته بـ”الثورة” في الجزائر. وقالت البرلمانية المنتخبة عن الحزب الاشتراكي في بلجيكا: “هناك عدد معتبر من النساء والرجال والشباب يتظاهرون في الجزائر ضد النظام الحالي ونحن ندعمهم، وسننظم لقاءً مع عدد من الفاعلين في الثورة الحالية”.
وأكدت دعمها لأطروحات الرافضين لتنظيم الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، حيث صرحت بأنهم “على مستوى البرلمان الأوروبي سيواصلون مراقبة الأوضاع في الجزائر، ويطالبون بإطلاق سراح الذين تم اعتقالهم في المسيرات الشعبية”.
ويخشى الأوروبيون تأزم الأوضاع في الجزائر وخروجها عن السيطرة في ظل التطورات الأخيرة التي تعرفها هذه الدولة العربية، وهو ما يمثل خطرًا على مستقبل دول القارة هناك والامتيازات التي تتمتع بها.
توتر منتظر
هذه الاتهامات المتبادلة من شأنها أن تزيد منسوب انعدام الثقة بين الطرفين، خاصة من الطرف الجزائري تجاه الأوروبيين، فكلّ قرار أو بيان أوروبي متعلّق بالجزائر يتم اعتباره تدخُّل أو تجاوز للسيادة الجزائرية ويرجع ذلك لأسباب تاريخية وأخرى سياسية.
وتنظر السلطات الجزائرية بعين الريبة للدور الأوروبي في بلادها، خاصة الفرنسي، وهو ما يفسّر القرارات المتخذة ضدّها، فقد عمل حكام الجزائر منذ استقالة بوتفليقة على استهداف المصالح الفرنسية في البلاد، ويظهر ذلك من خلال الاعتقالات التي طالت أعضاء كبار في اللوبي الداعم لباريس بالجزائر وتعطيل صفقات كبرى لشركات فرنسية هناك، وتدعيم الإنجليزية عوضًا عن الفرنسية.
يرجع عداء جزء كبير من الجزائريين لأوروبا إلى ماضيها الأليم في بلادهم، فضلاً عن قرب العواصم الأوروبية من نظام الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة وتسترها على جرائمه وجرائم أركان نظامه سواء السياسية والاقتصادية، مقابل التمتع بالعديد من الامتيازات في الجزائر.
تشهد الجزائر منذ منتصف شهر فبراير/شباط الماضي حراكًا شعبيًا كبيرًا، من بين نتائجه إلى الآن استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وإقالة العديد من المسؤولين والزج بعدد منهم في السجون بتهم تتعلق بالفساد والتآمر على أمن الدولة.
الروس ينتظرون الفرصة
تدهور العلاقات الجزائرية الأوروبية، من شأنه أن يعود بالفائدة على العديد من الدول الإقليمية على غرار روسيا التي ترى في الاحتجاجات المتواصلة منذ أشهر في الجزائر محاولة لضرب استقرار البلاد، وطريقًا للتدخل الخارجي هناك.
وعرفت العلاقات بين الطرفين، تطورًا ملحوظًا، وكان آخر فصوله زيارة رئيس الدولة عبد القادر بن صالح إلى موسكو ولقائه بالرئيس بوتين، حيث تبادل الطرفان الرؤى بخصوص المستقبل الجزائر، وهي الزيارة التي خلّفت جدلًا كبيرًا في الجزائر لأنها قُرأت على أنّ الجزائر صارت تابعةً لروسيا بعد أن كانت تابعةً في السابق إلى باريس.
تسعى روسيا لاستغلال توتر العلاقات الجزائرية الأوروبية لصالحها
يعتبر الجيش الجزائري أكثر المؤسسات قربًا من روسيا وقياداتها، بحكم العلاقات التاريخية التي ربطت الجزائر بالاتحاد السوفيتي سابقًا والدعم الذي قدمه الاتحاد للقضية الجزائرية إبّان الاحتلال الفرنسي. وعلاوةً على ذلك؛ تلقى غالبية القيادات الحالية للجيش الجزائري، تدريباتهم العسكرية في موسكو منذ تولي الرئيس الراحل هواري بومدين الرئاسة سنة 1965 إثر انقلاب عسكري على الرئيس الراحل أحمد بن بلة.
وتظل روسيا المصدر الأول للجزائر بشأن المعدات الحربية منذ 24 سنة، وكانت موسكو قد عرضت على الجزائر مؤخرًا، منحها الأولوية في تصدير منظومات الدفاع الجوي الأكثر تطورًا من نوع بانستير سي 1 القادرة على التصدي للصواريخ (نسخة مشابهة لمنظومة الدفاع الجوي ضد الصواريخ الأمريكية)، بالإضافة إلى نقل تكنولوجيا تصنيع القذائف الصاروخية الذكية للجزائر والمشاركة التقنية في المشروع الجزائري لتطوير العربات القتالية.
ومن أهم التجهيزات العسكرية الروسية المصدرة للجزائر، نجد الدبابة القتالية الشهيرة “تي. 90 إس إي”، التي تسلم الجيش الشعبي الوطني 67 نسخة منها شهر يوليو 2016، في إطار صفقة أبرمت عام 2014 وتتضمن تصدير 200 دبابة من هذا النوع، حسب تقرير نشرته وكالة “تاس” الروسية”، على أن تتسلم الجزائر طائرات عمودية هجومية من نوع “إم آي – 28 إن إي”، ومروحيات للنقل التكتيكي الثقيل صنف “إم آي 26 تي2” روسية الصنع.