ترجمة وتحرير نون بوست
لاحظ الساسة والخبراء والصحفيون الذين يدرسون النتائج الدولية للعام المقبل، مؤخرا، انخفاضا في السيطرة العالمية وتزايد عدم استقرار السياسة الدولية. ولم تكن سنة 2019 استثناء. ففي الحقيقة، شهد العالم مفاجآت عديدة في مختلف أنحاء العالم، على غرار الانتصار الساحق لفلاديمير زيلينسكي في أوكرانيا، وبداية إجراءات عزل ترامب في الولايات المتحدة، والاضطرابات السياسية في أمريكا اللاتينية، والأزمة السياسية في بريطانيا، هذا إلى جانب سلسلة الهجمات المسلحة التي استهدفت ناقلات النفط في الخليج العربي، والتقلبات الحادة في العلاقات الأمريكية الصينية.
في خضم حالة عدم الاستقرار وتقلب الأوضاع الدولية، تظل السياسة الخارجية الروسية متميزة. وحتى أكثر منتقدي موسكو قسوة، مضطرون للاعتراف في نهاية هذا العام بأن النهج السياسي الروسي في ما يتعلق بالشؤون الدولية يتميز بالاستمرارية والاتساق.
في الواقع، لا يمكن القول إن روسيا تعتبر شريكا مناسبا للجميع على الساحة العالمية. لكن، لا يمكن توجيه أي انتقادات لروسيا إزاء عدم القدرة على التنبؤ بقراراتها، ما يجعلها شريكا موثوقا به. كما أن تميز روسيا بهذه الصفات لا جدال فيه، وليس فقط بالنسبة لأصدقاء روسيا وحلفائها فقط وإنما حتى من قبل المعارضين والأعداء.
من الواضح أن سنة 2020 ستشهد مزيد تدهور استقرار النظام العالمي. ومن غير المرجح أن تقف سلسلة من ردود الفعل الدولية تجاه هذا الانهيار، وإنما قد تستمر لعام أو عامين. ولن يتكفل بهذه المهمة دولة واحدة أو مجموعة بعينها من الدول الرائدة في العالم، وإنما المجتمع الدولي بأسره، الذي هو في الحقيقة غير مستعد بعد لمعالجة انهيار النظام القديم بجدية لأسباب متنوعة.
ستؤدي استراتيجية العزلة الذاتية إلى استبعاد روسيا لنفسها من المشاركة الفعالة في إنشاء نظام جديد للعلاقات الدولية، وبالتالي حرمان نفسها من المساهمة في بناء نظام عالمي جديد
في خضم هذه الظروف، ربما يظهر إغراء طبيعي يتعلق بالحد من مشاركة روسيا في الشؤون الدولية قدر المستطاع والابتعاد عن الشأن الخارجي، بينما سيتم التركيز على حل المشاكل الداخلية. ومن الواضح أن محاولة تجنب “عدم استقرار الاستيراد” ستكون رهينة العمليات والاتجاهات السلبية للسياسة العالمية، التي لا يمكن لروسيا إدارتها ولا يمكن لأحد السيطرة عليها. ومن جهة أخرى، يطالب المجتمع الروسي السلطات بالتركيز على المشاكل الداخلية العالقة.
إن استراتيجية العزلة الذاتية حتى وإن كانت مؤقتة أو جزئية فإنها تعتبر خطوة خطيرة، لعدة أسباب. أولا، إن العزلة الذاتية المتسقة في عالم حديث مترابط أمر مستحيل تقريبا، باستثناء بعض الأمثلة النادرة على غرار كوريا الشمالية. أما بالنسبة لروسيا، فهي تندمج بعمق في العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدولية. وبناء على ذلك، فإن أي محاولة من قبل موسكو لعزل نفسها، ستؤدي حتما للتخلي عن العديد من الإنجازات المهمة على مستوى السياسة الخارجية التي حققتها خلال السنوات الثلاثين الماضية. كما سيساهم ذلك في إبطاء تنفيذ المهام الداخلية التي ينبغي التركيز عليها بشكل كبير.
ثانيا، ستؤدي استراتيجية العزلة الذاتية إلى استبعاد روسيا لنفسها من المشاركة الفعالة في إنشاء نظام جديد للعلاقات الدولية، وبالتالي حرمان نفسها من المساهمة في بناء نظام عالمي جديد. وعلى الرغم من أن إنشاء هذا النظام العالمي الجديد أمر لا مفر منه، بيد أن نقاط الاستفهام التي سيثيرها هي الثمن الذي سيتعين على البشرية دفعه مقابل إرسائه.
في هذه الحالة، إذا دخلت روسيا في عزلة ذاتية، فإنه بعد التخلص من حقبة عدم الاستقرار واستعادة السيطرة العالمية بطريقة أو بأخرى، سيتعين على روسيا اللعب وفقا للقواعد التي وضعها طرف آخر، والتي لن تخدم بالتأكيد مصالح روسيا وإنما مصالح الأطراف المشاركة الأخرى في السياسة العالمية.
في العام المقبل، لا ينبغي أن تقتصر السياسة الخارجية الروسية على حل المهام التنفيذية الحالية في مناطق مختلفة من العالم، على الرغم من أهمية هذه المهام التي لا ينبغي المبالغة في تقديرها. وفي الوقت نفسه، يجب التركيز على تطوير مبادئ ونماذج وآليات جديدة للتعاون الدولي في المستقبل. ومن الناحية المجازية، حتى لو كان الوقت لا يزال مبكرا على الشروع في بناء نظام عالمي جديد، فإنه من الضروري البدء في اختيار الأحجار الأساسية له. وعموما، ستلعب السياسة الخارجية الروسية دورا هاما في القيام بهذا العمل المعقد.
في سوريا، مثلا، اكتسبت روسيا تجربة فريدة من نوعها في الدبلوماسية متعددة الأطراف، على نحو جعلها قادرة على الجمع بين مواقف المتعارضين والتقليص من حدة المواجهات العسكرية. وبشكل عام، تمكنت روسيا من تحقيق نجاح هام في سوريا، رغم تنبئ العديد من الأطراف بعدم قدرتها على فعل ذلك. ومن الواضح أن روسيا ستحاول في العام المقبل توسيع نطاق نفوذها لتشمل منطقة الشرق الأوسط بأكملها، مع العمل باستمرار على تطوير ودعم المفهوم الروسي لنظام الأمن الجماعي الإقليمي المطلوب في الشرق الأوسط.
في آسيا، تمكنت روسيا وحلفاؤها من اتخاذ خطوات جادة لإرساء نظام ديمقراطي منفتح جديد للمؤسسات الدولية. ومن بين أهم إنجازاتها توسيع منظمة شنغهاي للتعاون وتعزيز مجموعة بريكس وتفعيل التنسيق ثلاثي الأطراف بين روسيا والهند والصين، إلى جانب التقدم المثير للإعجاب في الجمع بين تطوير الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي والمشروع الصيني “حزام واحد، طريق واحد”. ويبدو جليا أن النماذج المؤسسية الجديدة تكتسي أهمية كبرى. كما أنه من المتوقع أن تستضيف روسيا مؤتمري قمة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون لسنة 2020، مما يؤكد على دورها الريادي في توسيع مشاريع هذه المنظمات.
لقد أصبحت العلاقات الروسية الصينية عاملا مؤثرا في نظام العلاقات الدولية بأكمله. وستستمر روسيا في زيادة مستوى التنسيق مع الصين على الساحة الدولية، بما في ذلك في مجال الأمن بغية تعزيز سلطتها ونفوذها في الشؤون العالمية. أما الاتحاد الأوروبي، فلم تكن سنة 2019 نقطة تحول للأفضل بالنسبة به، إلا أنه مع ذلك تمكن من تحقيق بعض النتائج الإيجابية. فقد عادت روسيا إلى الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا. وكان من الممكن تحقيق مقاربات موحدة بين روسيا والغرب لحل الأزمة السياسية في مولدوفا. وبعد استراحة طويلة، استأنفت قمة نورماندي عملها للتسوية في دونباس. فضلا عن ذلك، تم إحراز تقدم في المحادثات الثلاثية بين أوكرانيا وروسيا والاتحاد الأوروبي حول قضايا الطاقة.
من المنتظر أن تدخل أوروبا مرحلة من التفكير العميق في نموذج التكامل الإقليمي، خاصة أن هذا الأمر لا يتعلق بخروج بريطانيا العظمى من الاتحاد الأوروبي فحسب، بل يشمل أيضا جدول أعمال القضايا الجادة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والإقليمية والمشاكل الأمنية. وعلى هذا الأساس، يعتبر الحوار السياسي حول العلاقات المستقبلية بين روسيا وأوروبا في جميع المجالات الاستراتيجية من المواضيع الحساسة. ومثل هذا الحوار، يجب أن يبدأ في أقرب وقت ممكن.
تمكنت روسيا رغم الخلافات العميقة حول القضايا الأساسية للتنمية العالمية من الاتفاق على القواعد العامة للعبة على الساحة العالمية
أما الولايات المتحدة، فإن الحملة الانتخابية لسنة 2020 ستبدأ على قدم وساق، مما يعني أن هذه الفترة ليست مناسبة للشروع في إصلاح العلاقات الثنائية. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنه على موسكو أن تأخذ قسطا من الراحة من هذه العلاقات في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية وتغلب الولايات المتحدة على الأزمة السياسية العميقة. ويظهر التاريخ أن انتظار “اللحظة المناسبة” يمكن أن يستمر إلى الأبد. لذلك، إذا تم اليوم إعاقة الاتصالات مع الفرع التنفيذي للولايات المتحدة، فستحتاج روسيا إلى تعزيز نشاطها على أسس أخرى، بما في ذلك البحث عن مسار ثان للعلاقات الثنائية.
فيما يخص العلاقات مع أفريقيا، فقد كانت سنة 2019 طفرة حقيقية إذ لم تعكس قمة سوتشي الأفريقية الروسية الاهتمام المشترك في تطوير التعاون فحسب، بل كشفت أيضا عن إمكانيات التعاون أيضا. ومن هذا المنطلق، يجب أن تكون سنة 2020 سنة تنفيذ الخطوات العملية.
يجب أن يدرك السياسيون المعاصرون، مثل أسلافهم، حجم مسؤوليتهم التاريخية ويظهروا حكمة رجل الدولة لحل المشاكل الملحة في عصرنا الحالي.
قد تواجه روسيا العديد من مشاكل السياسة الخارجية خلال سنة 2020. فقد تمكنت روسيا من إثبات مهاراتها في إدارة الأزمات بشكل فعال، ومواجهة أخطر التحديات في الأمن الإقليمي والعالمي. وإلى جانب هذه المهارات، تتمتع روسيا بفرصة لإظهار قدراتها كطرف مستعد لتصميم مكونات فردية وجماعية لآلية معقدة للنظام العالمي الجديد.
خلال سنة 2020، ستحيي روسيا الذكرى الـ 75 للنصر في الحرب الوطنية العظمى والحرب العالمية الثانية. وفي سنة 1945، تمكنت روسيا رغم الخلافات العميقة حول القضايا الأساسية للتنمية العالمية من الاتفاق على القواعد العامة للعبة على الساحة العالمية، وإنشاء نظام كامل لمؤسسات الدولة للحفاظ على الاستقرار العالمي والإقليمي.
بشكل عام، تمكن النظام العالمي الحالي رغم عيوبه من خدمة الإنسانية لعقود. وفي الوقت الراهن، يواجه المجتمع الدولي تحديات يمكن مقارنتها بتحديات منتصف القرن الماضي. لذلك، يجب أن يدرك السياسيون المعاصرون، مثل أسلافهم، حجم مسؤوليتهم التاريخية ويظهروا حكمة رجل الدولة لحل المشاكل الملحة في عصرنا الحالي.