استيقط المصريون صبيحة أمس الجمعة على خبر تناقلته العديد من المواقع الإلكترونية بشأن إلقاء القبض على ضابط المخابرات السابق ورجل الأعمال الشهير ياسر سليم الذي يعد أحد الأعمدة الرئيسية في سيطرة المخابرات العامة المصرية على منظومة الصحف والقنوات الفضائية في مصر خلال السنوات الخمسة الماضية.
الخبر رغم ما يحمله من دلالات الصدمة بالنسبة لكثيرين في ظل ما كان يتمتع به هذا الرجل من نفوذ غير مسبوق، إلا أن الصياغة التي اشتركت فيها معظم المواقع الناقلة له ذهبت إلى أن سبب القبض يتمثل في “اتهامه بإصدار شيكات دون رصيد للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية”.
الغريب في الأمر أن الشركة التي تقدمت بشكوى ضد سليم وهي “المتحدة للخدمات الإعلامية” إحدى شركات مجموعة “إعلام المصريين” التي كان يعمل هو نائبًا لرئيس مجل إدارتها وهو رجل الأعمال المقرب من المخابرات العامة تامر مرسي، الذي أعلن العام الماضي تعيين سليم نفسه نائبًا له في رئاسة المجموعة المملوكة للمخابرات.
تأتي هذه الواقعة بعد أيام قليلة مما أثير بشأن إبعاد نجل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (محمود) من المخابرات، وإيفاده إلى الملحقية العسكرية المصرية في روسيا، كذلك المقدم أحمد شعبان، الذراع الأيمن لرئيس الجهاز عباس كامل، وهو ما أثار على السطح الحديث عن سحب ملف الإعلام من المخابرات العامة بعد احتكاره للسنوات الثلاثة الماضية وإعادة تشكيل المنظومة الإعلامية المصرية من جديد.
إمبراطور الإعلام
لم يكن ياسر سليم وشركته “بلاك أند وايت للدعاية والإعلام” من الأسماء المعروفة في الساحة الإعلامية المصرية قبل 2014، إلا أن حضوره فرض نفسه بشكل مكثف فيما بعد، حيث لعب دورًا كبيرًا في ترتيبات مرحلة ما بعد انقلاب يوليو/تموز 2013، إذ كان موكلًا له التواصل مع شخصيات سياسية لضمها لقائمة “في حب مصر” التي سيطرت على البرلمان بدعم مخابراتي، وهو ما كشفه السياسي – المعتقل حاليًّا – حازم عبد العظيم الذي كان رئيس لجنة الشباب في حملة السيسي الرئاسية الأولى.
منذ الوهلة الأولى لدخوله مجال الإعلام في 2014 حين اشترى حصة حاكمة من أسهم موقع “اليوم السابع” وشراء الحق الحصري للإعلانات المطبوعة والرقمية للموقع، عُرف بأنه واجهة للمخابرات العامة، حيث كان حريصًا دائمًا أن يعرف نفسه على أنه ضابط سابق قبل أن يكون رجل أعمال أو منتج.
ومع مرور الوقت بدأ نفوذ الرجل يتغلل أكثر وأكثر داخل منظومة الإعلام، حيث أوكلت له الرقابة الإدارية إنتاج البرامج الرئيسية في التليفزيون المصري إبان فترة سيطرتها عليه قبل تركه للمخابرات، ثم اشترى موقعي “دوت مصر” و”صوت الأمة” وضمهما إلى “اليوم السابع” عام 2016 ثم اشترى شركته الحاليّة وضم تلك الكيانات جميعًا لمجموعة “إعلام المصريين”.
تباينت التأويلات بشأن أسباب إبعاد سليم، حيث تشير بعض المزاعم إلى أن السبب الرئيسي يعود لانتقاده لنجل السيسي
في يناير 2018 عُين نائب لرئيس المجموعة وبعدها بثلاثة أشهر فقط أعلن توليه رئيس مجلس إدارة مجموعة “الحياة والعاصمة وراديو دي آر إن” وذلك بالتزامن مع بدء خطة توحيد الإعلام الموالي تحت سيطرة المخابرات العامة وحدها وسحب المشروعات التي كانت موكلة للداخلية وغيرها من الكيانات.
تنوعت نشاطات ضابط المخابرات الأسبق، فبجانب الإعلام أنشأ بعض المشروعات الاستثمارية الأخرى في مجال المطاعم السياحية والفنادق وتجارة السيارات، بالشراكة مع رجال أعمال آخرين، كما برز اسمه مؤخرًا باعتباره أحد الشخصيات التي أشرفت على إعداد قائمة “في حب مصر” التي فازت بالأكثرية النيابية بالانتخابات التشريعية الماضية، وهو أيضًا أحد المتداخلين بقوة في إدارة حزب “مستقبل وطن” أقرب كيان سياسي للسلطة الحاكمة حاليًّا.
تباينت التأويلات بشأن أسباب إبعاد سليم، حيث تشير بعض المزاعم إلى أن السبب الرئيسي يعود لانتقاده لنجل السيسي وطريقة إدارة الملف الخاص بمنظومة تسويق تراث الإذاعة والتليفزيون وتدشين المنصة الإعلامية الجديدة المملوكة للمخابرات “ووتشيت” التي حازت بالأمر المباشر معظم محتوى مكتبة اتحاد الإذاعة والتليفزيون، فيما منعت أخرى من بينها شركة “بلاك أند وايت”.
عقد المخابرات ينفرط
في الـ20 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ نقل موقع “مدى مصر” عن مصدرين داخل الجهاز الذي يعمل به محمود السيسي، أنه “سيكون مبعوثًا عسكريًا لمصر لدى روسيا، والقرار اتخذ، على أن يكون تنفيذه في 2020، بعد فترة ابتعاث قصيرة لمحمود السيسي من المخابرات العامة إلى المخابرات الحربية، يليها ترشيحه للمنصب الجديد”.
قرار الندب بحسب المصدرين “اُتخذ قبل أيام لأداء مهمة عمل طويلة في بعثة مصر العاملة في روسيا، وذلك بعدما أثرت زيادة نفوذه سلبًا على والده، فضلًا عن فشله في إدارة عدد من الملفات التي تولاها” غير أنهما لم يُحددا المدة التي سيقضيها في موسكو، لكنهما اتفقا على أنها مهمة طويلة الأجل قد تستغرق شهورًا، وربما سنوات.
لم يكن خروج نجل السيسي – بحسب التسريبات الإعلامية – وذراع عباس كامل ومن بعدهما ياسر سليم المقلب بإمبراطور الإعلام عشوائيًا
دوافع القرار بحسب الموقع تعود إلى فشل السيسي الابن في معظم الملفات التي أوكلت إليه في منصبه الجديد، يأتي على رأسها ملف الإعلام الذي يسيطر عليه مباشرة منذ أكثر من عام، وهي الفترة التي فقد خلالها كثيرًا من تأثيره، لدرجة دفعت السيسي إلى انتقاد الإعلام علانية أكثر من مرة.
لم يكن نجل الرئيس الوحيد من الجهاز المسيطر على الإعلام في السنوات الأخيرة، فتزامنًا مع هذا الخبر الذي شكل صدمة للكثيرين كشف أحد مصدري المخابرات العامة عن صدور قرار إبعاد مماثل، بحق المقدم أحمد شعبان الضابط بالجهاز الذي برز اسمه لسنوات كأحد مهندسي ملف الإعلام، بإرساله للعمل خارج مصر وتحديدًا في بعثة مصر باليونان، وذلك بعد شهور قليلة من صدور قرار بإنهاء خدمته بالقوات المسلحة.
شكل كواليس المخابرات بتحصل فيها حاجة مش معلنة
القبض على #ياسر_سليم
سحب صلاحيات من عباس كامل
سفر محمود السيسي روسيا
يبقى فيه حد بينفض السيسي ف المخابرات؛ مالهاش معنى تاني
وتسلم إيدين الرجالة ??? https://t.co/HptBMgIJU7
— حنان أبوزيد? (@7nanabozydG) November 30, 2019
شعبان يعد الذراع اليمنى لكامل، الذي أثار موجة من الغضب بسبب تفرّده بالقرارات التي تتسم بالتخبط، ما أدى إلى خسائر في مجال الإعلام وغيره من الملفات التي يديرها ويتدخل فيها بطريقة فجة ومن دون دراسة، ومن ثم وقع الاختيار على إبعاده عن الجهاز خلال المرحلة القادمة.
بعض المصادر الإعلامية كشفت أن إخفاق شعبان في إدارة عدد من الشؤون المتعلقة بالإعلام بجانب أخرى متعلقة بالعلاقات المصرية – الإماراتية ساهم في توليد احتقان كبير ضده، وهو ما دفع نجل السيسي إلى طلب تقرير رُفع بالفعل إلى مكتب الرئيس عن إخفاقات الرجل، في عدد من الملفات، في خطوة اعتُبر أنها ستقضي على المقدّم.
وعن موعد الإطاحة به ذهبت التسريبات إلى أن ذلك سيكون بعد انتهاء “منتدى شباب العالم” بنسخته الثالثة التي تُقام الشهر المقبل في شرم الشيخ، ويشرف هو على تنظيمه مباشرة عبر شباب “البرنامج الرئاسي” الذين اختارهم بنفسه ويتابع ما يقومون به.
الأمر لم يتوقف عند نجل السيسي وشعبان وفقط، بل تتناقل بعض المصادر أنباءً بشأن سحب البساط من تحت أقدام عباس كامل نفسه، حليف السيسي وصديقه المقرب الذي عينه رئيسًا لجهاز المخابرات العامة بعدما كان مديرًا لمكتبه، خاصة بعد الفشل الذي مني به في التعامل مع الملف الإعلامي الذي بات يشكل صداعًا في رأس النظام.
تفكيك المنظومة الإعلامية
بعد قرابة 3 سنوات تقريبًا من السيطرة شبه الكاملة لجهاز المخابرات على منظومة الإعلام في مصر، شملت صورًا عدة ومجالات مختلفة، ما بين الشراكة والامتلاك والتبعية الفنية والتحريرية، فضلًا عن زرع رجال الجهاز داخل المؤسسات الإعلامية المختلفة بما يضمن عدم الخروج عن الخط المرسوم، يبدو أن الأمور لن تستمر طويلًا على هذا المنوال.
لم يكن خروج نجل السيسي – بحسب التسريبات الإعلامية – وذراع عباس كامل ومن بعدهما ياسر سليم المقلب بإمبراطور الإعلام خروجًا عشوائيًا، فهو كما يشير البعض يأتي في ظل “تفكيك المنظومة الإعلامية وإعادتها مرة أخرى – بعد تفتيتها – إلى ما كانت عليه قبل 2016” بحسب ما ذهب إليه الكاتب الصحفي المصري أحمد العطار.
العطار على حسابه على فيسبوك ألمح إلى أن هناك منظومة إعلامية مختلفة كثيرًا تتشكل الآن، مضيفًا “نهاية دراماتيكية لأباطرة الظل في منظومة الإعلام “المقري فاتحتها”، اعتقالات وبيجامات ونفي للخارج، عملية تطهير شاملة ضد أتباع البارونات القدامى، والإطاحة بالعشرات من الإداريين والفنيين والضباط، والنار قد تلتهم بعض المذيعين والمذيعات”.
الإطاحة بالأذرع المخابراتية داخل الإعلام جاء بعد الفشل الذريع في إدارة هذا الملف، وذلك بعد تكبد الشركات الإعلامية المملوكة للأجهزة الأمنية خسائر فادحة، ليقرر النظام العودة لسياسة ترك الملكية للقطاع الخاص وإدارة الإعلام من وراء الستار، تزامن هذا مع معاودة الحديث عن وقائع فساد ضخمة تخص أسماء بارزة في السلطة تورطت في الاستيلاء على أموال هذه الشركات.
لا يبدو أن إلقاء القبض على المنتج وضابط المخابرات السابق ياسر سليم الذي كان من الشخصيات الفاعلة في عملية سيطرة المخابرات العامة على المشهد الإعلامي المصري خلال السنوات الخمسة الماضية، مجرد خطوة انتقامية
يذكر أنه في هذا الشأن، منعت مؤسسة الأهرام “قومية” طباعة عدد يوم 22 من مايو/أيار الماضي من صحيفة الأهالي لسان حال حزب التجمع اليساري، بسبب تحقيق صحفي عن شركة “إيغل كابيتال” المملوكة لجهاز المخابرات التي ترأسها وزيرة الاستثمار السابقة داليا خورشيد زوجة رئيس البنك المركزي طارق عامر.
التحقيق الممنوع من النشر جاء فيه أن رئيسة الشركة ارتكبت مخالفات جسيمة، مستغلة نفوذ زوجها للضغط على البنوك لمنع الحجز على شركة مدينة بـ450 مليون جنيه (نحو 25 مليون دولار)، هذا بخلاف الإطاحة بعدد من الأسماء الإعلامية كان آخرها الإعلامي أسامة كمال وسبقه تامر عبد المنعم وإبراهيم عيسى ولميس الحديدي – التي عادت أخيرًا إلى قناة العربية الحدث -، وعشرات الصحفيين والمعدين لأسباب غامضة رغم خدماتهم الجليلة للنظام.
#ياسر_سليم . شيكات بدون رصيد أم تصفية جديدة لأحد أباطرة الإعلام الجدد الذين صعدوا دون سلم ؟؟ https://t.co/Spz5hvUQ5aالقبض-على-امبراطور-الاعلام-في-مصر-
— hussein metwaly (@HMetwaly) November 29, 2019
حجازي.. البديل
تشير التطورات الأخيرة إلى أن ملف الإعلام بات من المرجح سحبه بالكامل من جهاز المخابرات العامة، ليطرح من جديد على مائدة أخرى في محاولة لعلاج أوجه القصور التي شهدها طيلة السنوات الماضية، إذ كشفت مصادر مطلعة، منح السيسي، صهره رئيس أركان الجيش السابق محمود حجازي، إدارة هذا الملف.
حجازي الذي أقيل من منصبه قبل نحو عامين على خلفية عملية الواحات، غربي البلاد، التي استهدفت قوة رفيعة المستوى من الشرطة 20 من أكتوبر/تشرين الأول 2017، ويشغل حاليًّا منصب مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط الإستراتيجي وإدارة الأزمات، بات وفق ما أكدته تلك المصادر معنيًا بإدارة ملف إعادة هيكلة الإعلام المصري.
ووفق مصادر إعلامية فإن صهر السيسي بدأ بالفعل بدراسة المشاكل المالية التي يعانيها القطاع، والتصرف بالتفكيك أو الدمج في المؤسسات الصحفية القومية واتحاد الإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو)، هذا بخلاف ترؤسه لخلية مكونة من عضوين سابقين آخرين في المجلس الأعلى للقوات المسلحة (لم تسمهما)، في فترة ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وتعمل هذه الخلية الثلاثية حاليًّا على دراسة الملف.
محمود حجازي رئيس الأركان الأسبق
لا يبدو أن إلقاء القبض على المنتج وضابط المخابرات السابق ياسر سليم، الذي كان من الشخصيات الفاعلة في عملية سيطرة المخابرات العامة على المشهد الإعلامي المصري خلال السنوات الخمسة الماضية، مجرد خطوة انتقامية كما يروج البعض، بل إنه يعكس اتجاه النظام لإعادة هيكلة مشاريعه الربحية خارج إطار الدولة، وإبعاد مجموعة من الضباط والمستثمرين الذين كانوا واجهة لذلك النشاط، تمهيدًا للدفع بآخرين.
وعلى الأرجح ستشهد المنظومة الإعلامية في مصر خلال الآونة المقبلة تطورات ربما تحمل عددًا من المفاجآت منها عودة بعض الإعلاميين المستبعدين وفتح الباب مجددًا أمام الشركات الخاصة لدخول مجال الإعلام بعد فترة حظر دامت سنوات، هذا بخلاف الاستعانة بخبراء المهنة وشيوخها في محاولة لتجميل الصورة في ظل حالة السخط التي يتعرض لها المشهد الإعلامي برمته بعدما وقع في فخ العسكرة، ما أصابه بالشلل في مواجهة المؤسسات الإعلامية الدولية.