تتجه العلاقات الفرنسية التركية إلى مزيد من التوتر في ظل الحرب الكلامية بين زعيمي البلدين وتبادل الاتهامات بينهما، قبيل قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تعقد الأسبوع المقبل ويحضرها الزعيمان. حرب كلامية بدأها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فما كان من أردوغان إلا أن رد بحدة وصلت إلى حد توبيخ ماكرون.
افحص موتك الدماغي أولًا
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اقتبس في هجومه على ماكرون تصريحات نظيره الفرنسي الأخيرة التي قال فيها إن حلف شمال الأطلسي يعاني من “موت دماغي” جراء غياب التعاون الإستراتيجي بين أعضائه، وقال أردوغان: “أتوجه إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وسأكرر ذلك له في (قمة) حلف الأطلسي، عليك قبل أي شيء أن تفحص موتك الدماغي أنت نفسك، لا تناسب تصريحات من هذا النوع إلا أمثالك الذين في حالة موت دماغي”.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد انتقد في مقابلة لمجلة “الإيكونوميست” البريطانية، حلف شمال الأطلسي “الناتو” وما آلت إليه الأمور بسبب الخلافات بين الحلفاء، معتبرًا أن هذا الحلف بات يشهد حالة “موت سريري”.
كما صرّح ماكرون بأن على تركيا ألا تتوقع تضامن حلفائها في حلف شمال الأطلسي معها عندما تشن عمليتها “نبع السلام” في شمال سوريا “كأمر واقع”، معتبرًا أن تلك العملية عرقلت عمل التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية وأنها تهدد الحلفاء، بحسب الرئيس الفرنسي.
سبق أن شبه وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو في أكتوبر/تشرين الأول، ماكرون بـ”ديك يصيح وقدماه مغروستان بالوحل”
تشكل الناتو عام 1949 للحفاظ على أمن الدول الأعضاء، وذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقية واشنطن، بهدف الوقوف في وجه السياسة التوسعية لما كان يسمى الاتحاد السوفيتي، والتعاون للحفاظ على أمن واستقلال الدول الأوروبية الأعضاء سياسيًا وعسكريًا.
وشاركت دول عديدة في تأسيس الحلف، أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا وبلجيكا وكندا والدانمارك وفرنسا وإيرلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج والبرتغال، في حين انضمت تركيا عام 1952، ويضم الحلف بعضويته حاليًّا 29 دولة.
كانت فرنسا إحدى الدول الـ12 المؤسسة لحلف الناتو عام 1949، بيد أن الرئيس شارل ديغول ابتعد في ستينيات القرن العشرين عن الحلف لعدم رغبته في الوقوع تحت هيمنة الولايات المتحدة على الحلف ولشعوره أن الحلف أداة لخدمة المصالح الأمريكية.
عام 1966 انسحبت فرنسا من الهيكل العسكري للحلف، لينتقل المقر بعد ذلك بسنة إلى بروكسل بضغط من الولايات المتحدة، وفي تسعينيات القرن العشرين ظهرت من فرنسا بوادر تغير نهجها، وعام 2009 وفي ظل الرئيس نيكولاي ساركوزي أعادت فرنسا عضويتها في القيادة العسكرية للحلف.
وهاجم الرئيس التركي نظيره الفرنسي قائلًا: “الحديث عن إخراج تركيا من حلف الناتو أو إبقائها.. هل هذا من شأنك؟ هل لديك صلاحية اتخاذ هكذا قرارات؟”، معتبرًا أن فرنسا تتجاهل حساسيات تركيا في سوريا وتحاول في الوقت ذاته أن تجد لنفسها موطئ قدم في سوريا.
أضاف أردوغان “لا أحد يعيرك اهتمامًا، ما زال لديك طابع مبتدئ، ابدأ بمعالجة ذلك”، متابعًا “حين يتعلق الأمر بالتباهي، أنت تتقن ذلك. لكن حين يكون المطلوب تسديد المبالغ المترتبة عليك للحلف الأطلسي، يختلف الأمر”، وقال إنه يفتقر إلى أي خبرة، ولا يعرف ما هي محاربة الإرهاب، لذلك اجتاحت السترات الصفراء فرنسا، في إشارة إلى حركة الاحتجاجات التي يشهدها هذا البلد.
الهجوم التركي على ماكرون لم يقتصر عند هذا الحد، فقد سبق وزير الخارجية جاويش أوغلو، أردوغان، حيث قال في تصريح للصحفيين في البرلمان الخميس: “إنه (ماكرون) بالفعل الراعي للمنظمة الإرهابية (وحدات حماية الشعب الكردية) ويستضيفهم باستمرار في قصر الإليزيه، إذا قال إن حليفه هو المنظمة الإرهابية.. فليس هناك ما يُقال أكثر بالفعل”.
وسبق أن استقبل ماكرون الشهر الماضي جيهان أحمد المتحدثة باسم “قوات سوريا الديمقراطية” التي تسيطر عليها الوحدات الكردية، ليعبر عن تضامن فرنسا مع تلك القوات التي تصنفها أنقرة في لائحة الإرهاب.
كما سبق أن شبه وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو في أكتوبر/تشرين الأول، ماكرون بـ”ديك يصيح وقدماه مغروستان بالوحل” بعدما انتقد الرئيس الفرنسي سجل أنقرة على صعيد حقوق الإنسان في خطاب أمام مجلس أوروبا.
باريس تستدعي السفير
الرد الفرنسي كان سريعًا، حيث وصفت الرئاسة الفرنسية تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي قال فيها إن نظيره الفرنسي في حالة “موت دماغي” بـ”الإهانات”، وأعلن الإليزيه أن الخارجية الفرنسية ستستدعي السفير التركي لدى باريس للحصول على تفسيرات، وقالت الرئاسة الفرنسية: “هذا ليس تصريحًا، إنها إهانات”، واعتبر الإليزيه أنه ليس هناك “تعليق بشأن الإهانات”، مضيفة أن ماكرون ينتظر من أنقرة “ردودًا واضحة”، ومن المنتظر أن يحضر الرئيسان التركي والفرنسي، قمة حلف الأطلسي المقررة في بريطانيا يوم الـ4 من ديسمبر/كانون الأول.
نبع السلام تحيي خلافات الماضي
هذه التوترات بين البلدين، تعتبر نتيجة متوقعة للعداء التاريخي بينهما الذي ظهر للعلن مجددًا عقب العملية العسكرية التي نفذتها تركيا عبر الحدود في أكتوبر/تشرين الأول ضد المقاتلين الأكراد الذين دعمهم الغرب في المعركة ضد تنظيم داعش في سوريا، وكثيرًا ما ينتقد ماكرون هذه العملية، معتبرًا أن تلك العملية عرقلت عمل التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية وأنها تهدد الحلفاء، واحتجاجًا على هذا الهجوم انضمت فرنسا لقائمة الدول التي قررت وقف أو تقليص صادراتها من الأسلحة إلى أنقرة.
تحاول فرنسا الإبقاء على وجودها المباشر في سوريا، عبر دعم وحدات الحماية الكردية، من أجل استخدام هذه الورقة كورقة توازن تحرك القوى المنافسة لها
سبق أن تبنت الجمعية الوطنية الفرنسية، مشروع قرار يدين عملية “نبع السلام” وتقدمت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية، مارييل دي سارنيز، بمشروع القرار غير الملزم بعد أن وقعه رؤساء ثماني مجموعات سياسية ونال موافقة 121 نائبًا، دون أي معارضة من أحد.
وفي 9 من أكتوبر/تشرين الأول، أطلق الجيش التركي، بمشاركة الجيش الوطني السوري المعارض، عملية “نبع السلام” في منطقة شرق نهر الفرات شمالي سوريا، لطرد تنظيمات انفصالية كردية من الشريط الحدودي، وإنشاء منطقة آمنة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وفي الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول، علق الجيش التركي العملية بعد توصل أنقرة وواشنطن إلى اتفاق يقضي بانسحاب المليشيات الكردية من المنطقة، وأعقبه اتفاق مع روسيا في 22 من الشهر ذاته بخصوص انسحاب المليشيات بأسلحتها عن الحدود التركية إلى مسافة 30 كيلومترًا خلال 150 ساعة.
تعتبر عملية “نبع السلام” نقطة خلاف كبيرة بين تركيا وفرنسا
تحاول فرنسا الإبقاء على وجودها المباشر في سوريا، عبر دعم وحدات الحماية الكردية، من أجل استخدام هذه الورقة كورقة توازن تحرك القوى المنافسة لها في ميادين أخرى، وبناء توازن قوى مباشر ضد روسيا المنافسة لها في حوض شرق البحر المتوسط أمنيًا وجيواقتصاديًا من جهة، وضد تركيا المنافسة لها في ليبيا من جهة أخرى.
دعم خطة الناتو الدفاعية في جمهوريات البلطيق وبولندا
كما قلنا في البداية فإن توتر العلاقات بين البلدين لا يرجع إلى سبب واحد فقط، وما العملية العسكرية التركية في سوريا إلا أحدثها، وتُرجع مستشارة في الرئاسة الفرنسية هذا التوتر أيضًا إلى “رفض أنقرة دعم خطة حلف الناتو الدفاعية الخاصة بجمهوريات البلطيق وبولندا”، وفق ما نقلته وكالة رويترز عنها.
وترفض السلطات التركية تأييد هذه الخطة الأوروبية إلا بعد حصولها على المزيد من الدعم السياسي لحربها في شمال شرقي سوريا ضد وحدات حماية الشعب الكردية التي تصنفها أنقرة ضمن التنظيمات الإرهابية.
وتطالب تركيا بتصنيف مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية في قائمة الإرهاب في البيانات الرسمية للحلف والمجتمع الدولي، واتخذت موقفًا متشددًا إبان اجتماعات الحلف الأخيرة للدفع بطلبها، ونشر خطة الدفاع عن أنقرة بما في ذلك في حال تعرض تركيا لهجوم من الجنوب حيث تقع حدودها مع سوريا.
ووضع حلف شمال الأطلسي خطة الدفاع عن دول البلطيق وبولندا بناءً على طلب من هذه الدول وبعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، وبموجب اتفاق تأسيس الحلف عام 1949 يعد الهجوم على أي من أعضاء الحلف هجومًا على كل الأعضاء، وللحلف إستراتيجيات عسكرية للدفاع الجماعي في كل مناطق دوله الأعضاء.
قضية الأرمن
التوتر بين فرنسا وتركيا على خلفية العملية التركية في سوريا وخطة الناتو الدفاعية في جمهوريات البلطيق وبولندا، ليس الأول والأخير وليس استثناءً في سياق علاقات متأزمة أصلًا بين أنقرة وباريس بسبب خلافات حادة بشأن عدد من الملفات الأخرى من بينها قضية “الأرمن”.
فقد أعلنت فرنسا في الـ24 من أبريل/نيسان يومًا وطنيًا لتخليد ذكرى ما تعتبرها “مذابح قام بها الأتراك خلال الحقبة العثمانية ضد الأرمن”، وجاء الإعلان، تنفيذًا لوعد انتخابي قطعه إيمانويل ماكرون على نفسه.
النقاط الخلافية القديمة والجديدة، من شأنها أن تبقي العلاقات التركية الفرنسية متذبذبة وفي حالة مد وجزر
دائمًا ما كانت قضية الأرمن محل خلاف بين تركيا وفرنسا، حيث تعتبر الأخيرة إنكار ما تصفه بـ”مذبحة الأرمن” جريمة تستوجب عقوبة السجن لمدة سنة وغرامة قدرها 45 ألف يورو، وذلك بموجب قانون أقره البرلمان الفرنسي في ديسمبر/كانون الأول 2011.
وترفض أنقرة استخدام كلمة “إبادة” وتقول إن الإمبراطورية العثمانية شهدت في نهاية عهدها حربًا أهلية تزامنت مع مجاعة ما أدى إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني وعدد مماثل من الأتراك حين كانت القوات العثمانية وروسيا تتنازعان السيطرة على الأناضول.
إبادة جماعية في الجزائر
في الوقت الذي تتهم فيه سلطات فرنسا الإمبراطورية العثمانية بإبادة الأرمن، تتهم أنقرة باريس بارتكاب “إبادة جماعية” بالجزائر، خاصة سنة 1945، عندما ارتكبت فرنسا مذبحة بحق ما يقدر بنحو 15% من سكان الجزائر.
وإلى الآن لا يُعرف عدد الجزائريين الذين سقطوا خلال فترة الاستعمار الفرنسي لبلادهم، بسبب استحواذ فرنسا على الأرشيف وعدم سماحها لأحد بالاطلاع عليه، وعرفت الجزائر في تلك الفترة المئات من المعارك التي قاومت الاحتلال، خاصة في الأرياف، التي خاضها قادة بارزون ضد الاحتلال، أهمهم الأمير عبد القادر الجزائري، ومعارك الشيخ المقراني ولالا فاطمة نسومر.
واقترفت فرنسا خلال فترة استعمارها للجزائر، العديد من المجازر والجرائم بحق مئات آلاف الجزائريين التي ما زالت محفورة في الذاكرة الجماعية الوطنية، حيث عمدت حينها إلى استخدام كل الإجراءات الممكنة والمتوافرة لديها، لقمع الجزائريين دون تمييز المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ.
ففي الـ8 من مايو/أيار 1945 في مدينة سطيف – مهد حرب التحرير (1954-1962) – سقط آلاف القتلى الجزائريين (45 ألفًا بحسب إحصاءات الذاكرة الوطنية الجزائرية) برصاص الشرطة والجيش ومليشيات المستوطنين، بسبب رفع الجزائريين علم بلادهم، في احتفالات نصر الحلفاء على ألمانيا النازية.
ارتكبت فرنسا مجازر عديدة في الجزائر
كما يتذكر الجزائريون يوم 17 من أكتوبر/تشرين الأول 1961 أحد أهم وأسوأ الأحداث في تاريخ ثورة بلادهم، يوم ارتكبت فرنسا مجزرة ضد متظاهرين جزائريين خرجوا في احتجاجات سلمية على حظر التجول الذي فرض عليهم في باريس عام 1961، وللمطالبة باستقلال بلادهم.
ويذكر مؤرخون وكتاب شهدوا الأحداث أن الشرطة اعتقلت نحو 12 ألف جزائري واحتجزتهم في مراكز الشرطة وفي محتشدات أنشأتها لهم بقصر الرياضات في باريس وقصر المعارض، وتعرضوا هناك للاستجواب والإهانة والضرب والتعذيب والقتل، وألقي مئات المتظاهرين مكبلين في نهر السين، وفي اليوم التالي طفت الجثث على سطح الماء.
هذه النقاط الخلافية القديمة والجديدة، من شأنها أن تبقي العلاقات التركية الفرنسية متذبذبة، وفي حالة مد وجزر، خاصة في ظل عدم وجود بوادر صلح بين الطرفين لاختلاف وجهات النظر في أغلبية الملفات المشتركة بينهما.