حالة من الجدل الشديد، تجتاح المغرب منذ أسبوع، بعد تصميم ألتراس فريق الرجاء خلال مباراة الديربي مع نادي الوداد في دور ثمن النهائي لكأس محمد السادس للأندية “تيفو” أو “دخلة ورقية” استوحى تفاصيلها من الرواية الشهيرة “1984” رفضًا للاستمرار في ممارسة سلطة أبوية على المواطنين وقمع حرياتهم، وكأن الألتراس يثبت أنه حي، طالما عنده القدرة على إنتاج أفكار مختلفة، يعبر بها عن حبه للكرة وانتمائه لمجتمعه، ولكن بطريقته الخاصة.
ماذا يريد الألتراس؟
على مدار الأسبوع الماضي، اشتعلت كلمات البحث على مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، بالرغبة في معرفة معلومات تكشف ماهية الرواية التاريخية، لمن لم يقرأها بعد، بعد دخلة التيفو لأولتراس الرجاء التي هدفت على ما يبدو لتحقيق عدة رسائل، بداية من بث الخوف والفزع في نفوس الفريق الخصم ومشجعيه، وهذا أمر تقليدي، بجانب الإسقاط على الوضع السياسي في البلاد وتقديم اعتراض واضح للسلطة، يعبر عن رأي الشباب، في بعض الانتهاكات الأمنية والسياسية بالبلاد.
تأويلات العقل الجمعي ذهبت إلى كثير من المعطيات، خلال محاولة تفسير دخلة الألتراس الغامضة، البعض ربطها بالعديد من القضايا الأخيرة المثارة في الشارع السياسي وخاصة التعذيب الممنهج الذي تعرض له ناصر الزفزافي قائد حراك الريف، بعد كشفه كواليس مثيرة لتجربته في السجن مع زملائه قبل عامين، والبعض الآخر اعتبرها إسقاطًا واضحًا على مناخ الخوف في المجتمع المغربي اليوم، وهي نفس التيمة التي تناقشها رواية جورج أورويل.
والغرفة 101 في رواية “أورويل” التي استوحى منها الألتراس أفكاره، ليزين بها دخلته الورقية، عبارة عن حيز جغرافي، جرى تجهيزه لاحتواء عمليات غسل الدماغ، لإخضاع الجميع لسلطة الأخ الأكبر، واستناد روابط الألتراس إليها في التعبير عن أم الأزمات في المنطقة، يضيف إلى الحضور السياسي الطاغي لها، في المجال العام للدولة.
ثورة الألتراس.. ماذا بين الرياضة والسياسة في المغرب؟
اعتادت روابط الألتراس منذ تدشينها عام 2005 في المغرب، الحضور القوي في الأحداث العامة ومنذ اشتعال ثورات الربيع العربي، وضع الألتراس دائمًا الشعارات والأغاني ذات الصبغة السياسية على قائمة أولوياته، يستنكر ويرفض بها الوضع الراهن ويصعد احتجاجاته السياسية والاجتماعية بطريقة مبتكرة، وينظم حملات مقاطعة للمنتجات غالية الثمن، حتى ولدت هذه التفاعلات ردود فعل قوية، داخل دوائر السلطة وخارجها.
احتل الألتراس هذا الزخم، ولفت أنظار الكثير من الشباب للانضمام إليه، بسبب مثالية أفكاره وقوة صموده أمام السلطة، في الوقت الذي ينعدم فيه وجود هياكل ومنصات منظمة سياسية جادة للشباب، وأصبح ضعف قدرة الأحزاب السياسية والجمعيات التقليدية على احتوائهم، مبررًا قويًا للانضام لروابط تضع الدفاع عن الحريات المدنية والحقوق الإنسانية على رأس شعاراتها الدائمة، التي ربما لا تقوى الأحزاب على التصريح بها علانية.
وتتنافس روابط الأندية الجماهيرية المغربية، وخاصة ألتراس غرين بويز الذي يناصر فريق الرجاء البيضاوي، وأولتراس عسكري الذي يدعم فريق الجيش الملكي، بالإضافة إلى أولتراس وينرز الذي يساند فريق الوداد البيضاوي، في إعلان آرائهم بالقضايا السياسية، ويبتكرون في اختيار كل مرحلة زمنية الموضوعات المناسبة لتحدياتها.
التطور الفكري لروابط الألتراس المغربي وتزايد درجة الحس السياسي لديهم بما يحدث في البلاد، توهج بشدة العام الماضي، واستمرت التفاعلات في التطور، حتى نجح ألتراس الوداد، في إنتاج أغنية جديدة، دشنها خلال العام الحاليّ بعنوان “قلبي حزين” وحازت إعجاب الجماهير الكروية في العالم العربي، وتتناول قضية البطالة والهجرة السرية والفساد في الدولة وعدم المساواة في توزيع الثروة وتدني الخدمات في الصحة والتعليم.
قضية الألتراس ليست في تشكيل جبهات ضغط رياضية بأدوار سياسية، ولكنها خلطة خاصة يربط بها بين نجاح فريقه المفضل وتحسين الوضع العام للبلاد، وتخرج بهذا الشكل بسبب البنية التنظيمية المتميزة والقوية، التي تختلف تمامًا عن طريقة احتجاج الأحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني وغيرها، يقول عزيز الصمدي، أحد أبرز أنصار نادي اتحاد طنجة، والناشط السياسي، ويضيف “ما يحدث أقرب إلى “ثورة ملاعب” التي أصبحت حقلًا للتنفيس، عن حالة الاحتقان الاجتماعي والاختناق السياسي بالبلاد”.
ويمكن القول، إن الألتراس المصري الذي تبخر الآن بعد صراع طويل مع السلطات المصرية، كان أول من بنى هتافاته في المنطقة العربية انطلاقًا من الأحداث السياسية، ولم يكتف بذلك، بل شارك في التظاهرات الشعبية بقوة خلال ثورة 25 يناير عام 2011، وكان جزءًا من مواجهات عنيفة وسط القاهرة بين الشرطة والمتظاهرين، وخاصة أحداث شارع محمد محمود الدامية التي وضعت الحد الفاصل في استمرار تكتل القوى الثورية، وفرقتهم إربًا، بسبب فاتورة الدماء المرتفعة والمزايدة من الجميع ضد الجميع المستمرة حتى اليوم.
دعم الألتراس المصري الحق الفلسطيني، وانطلق دائمًا من الهم الشعبي والقضايا القومية للوطن العربي، وكانت أغانٍ مثل “مش ناسيين التحرير” لمجموعة ألتراس وايت نايتس الخاصة بنادي الزمالك و”حرية” و”يا غراب ومعشش” لألتراس أهلاوي تهز ميادين مصر ويهواها حتى الآن الملايين على مواقع التواصل الاجتماعي، كلما هاتفهم الحنين في العودة للحس الثوري من جديد.
وكما حدث في مصر، خرجت روابط الألتراس المغربية خارج حدود الملاعب ووضعوا شعاراتهم على جدران المدن الكبرى، وإن اختلفت معطيات الأحداث بين البلدين، ففي مصر رفضوا النظام ودعوا إلى إسقاط رأس الدولة، وحملوا شعارات تطالب بتغيير جذور السلطة بأكملها، ولكن في المغرب، كانت شعارات الألتراس تقتصر على نقد الحكومة والأحوال العامة، دون التعرض للملك أو شخصه أو طريقته في الإدارة، وربما يكون ذلك شعرة معاوية التي تبقى على العلاقة بين السلطة والألتراس حتى الآن، وتمنعها من التنكيل به.
نقطة ضعف
دائمًا هناك علاقة طردية تجمع بين الألتراس والعنف، هم بحكم أفكارهم ومبادئهم يعارضون الخضوع لأي سيطرة أبوية أو قانونية أو تنظيمية من أحد غيرهم، نقطة ضعفهم هذه، قادتهم إلى صراع شرس في مصر بعد عام 2013، مع أنهم كانوا أحد التشكيلات المعارضة لحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، فمع تولي سلطة جديدة في البلاد، دارت معركة حامية بين الطرفين سريعًا، انتهت بكسر عظام الألتراس وأصبح شبه غائب عن الحياة، بعد أن توالى إعلان روابط الأندية الكبرى، حل أنفسهم طواعية خوفًا على أعضائهم من الحبس والمطاردة الأمنية المستمرة.
في المغرب يحدث نفس الأمر ولكن بدرجة مختلفة، حيث تشير الأحداث في البلاد، أن السلطة تنتظر اللحظة الفاصلة للإجهاز على روابط الألتراس، خاصة أنها كادت تصل للهدف المنشود، عقب أحداث العنف والشغب التي شهدتها مباراة الرجاء البيضاوي وشباب الريف الحسيمي، بمركب محمد الخامس بالدار البيضاء في مارس 2016، وصدر وقتها قرار عن وزارة الداخلية المغربية بمنع فصائل الألتراس في المغرب.
لجأ الألتراس المغربي إلى ظاهرة الأغاني والتيفوات السياسية، ردًا على استهدافه من السلطة، وأثبت أنه قادر على مفاجأة الدولة وقيادتها بقدرته على تجاوز كل أنواع المنع والتضييق، ورغم تغير البيئة والتحديات وبنية السلطة في المغرب، عنها في مصر، فإن الدولة لم تلن أمام التعاطف الجماهيري والنخبوي مع الألتراس، في ظل مقاطعة جميع المباريات عدة أشهر، لكن فجأة ودون اتفاقات معلنة، عادت تشكيلات منه للحضور من جديد، ولكن بزخم أقل، بسبب التضييق على حرياتهم، التي هي كل شيء بالنسبة لهم.
رغم محاصرة الألتراس، فإن المغرب يتبع طريقًا آخر في التعامل مع الأزمة، بدأها بحملات توعية، للتحذير من ظاهرة الشغب في الملاعب، في الوقت الذي كان يجهز فيه قانون لمكافحة العنف داخل الملاعب، ولكنه حتى الآن يبدو سلاح تخويف أكثر منه أداة فعل، فالشاهد من عودة الألتراس وتركهم يبثون أغانيهم السياسية، أن النظام المغربي لا يريد اللجوء دائمًا للأدوات الأمنية وسياسات المنع والتقييد والملاحقة، حتى إشعار آخر.