قبل يومين وقعت حكومة الوفاق الليبية وتركيا اتفاقيتين إحداهما بشأن التعاون الأمني وأخرى في المجال البحري، خلال لقاء جمع رئيس الحكومة الليبية فايز السراج والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إسطنبول، وفيه جددت أنقرة دعمها لحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا.
خطوة أثارت موجة من الجدل على الساحة الشرق أوسطية، بين فريق يراها فارقة تاريخية في مسيرة العلاقات الليبية التركية تحافظ بها الأخيرة على مصالحها في مياه الشرق الأوسط في الوقت الذي شن فيه فريق آخر هجومًا على هذا الاتفاق الذي يقوض مساعي القاهرة وأبو ظبي وأثينا في غاز المنطقة.
وكان وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز، قد أعلن بداية هذا الشهر أن سفينة “الفاتح” تستعد لاستئناف أعمال التنقيب عن النفط في البحر الأبيض المتوسط بناءً على ترخيص من جمهورية شمال قبرص التركية، وذلك في تصريح له عقب افتتاح مؤتمر ومعرض الطاقة الدولي الـ12 الذي انطلقت أعماله في العاصمة التركية مؤخرًا.
دونماز أكد حينها أن أعمال التنقيب متواصلة أيضًا، حيث بدأت سفينة “ياووز” قبل أسابيع قليلة أعمالها قبالة منطقة “غوزل يورت” التابعة لقبرص التركية، مضيفًا “سفينة الفاتح أنهت التنقيب في منطقة فينيكا، وجاءت إلى ميناء طاشوجو في ولاية مرسين التركية”.
وتأتي هذه التحركات في وقت تعارض فيه دول (قبرص واليونان ومصر و”إسرائيل” والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، تنقيب تركيا عن النفط في المتوسط، فيما تشكك الأخيرة في دفوع هذه المعارضة، مؤكدة أن هذه الأعمال تتم في المياه التابعة لها ولا يحق لأي جهة أخرى التعليق عليها.
فارقة تاريخية
أجواء تفاؤلية خيمت على الشارع التركي بعد توقيع مذكرة التفاهم التي وصفها الجنرال المتقاعد جيم غوردينز، بأنها “فارقة تاريخية”، تحقق التفوق العسكري إلى الجانب السياسي للدولة التركية في المنطقة، كما تضع حدًا لما سماها “المخطات الاحتلالية” في شرق المتوسط.
غوردينز في تصريحاته لصحيفة “ملييت” التركية، لفت إلى أن الاتفاقية حمت مصالح تركيا وقبرص الشمالية، وأعطت مسوغًا قانونيًا وشرعيًا في النشاط التركي شرق البحر المتوسط، موضحًا أن أول من دعا لهذه الاتفاقية، اللواء البحري في الجيش التركي جهاد يايجي، في كتابه الجديد، بعنوان “ليبيا جارة تركيا من البحر” التي شدد فيها على ضرورة توقيع الاتفاقية بين البلدين، لحماية الحقوق الشرعية لهما في شرق المتوسط.
بايجي في كتابه كان يرى ضرورة فتح قنوات تواصل مع دمشق لتعزيز الاتفاقية، ما يعطي قوة قانونية أكبر لتركيا في أنشطتها في شرق المتوسط أمام الأمم المتحدة، مشيرًا إلى أن هذا الاتفاق يعد “أخطر كابوس” لليونان التي تعمل مع شركائها بالضغط على تركيا.
وأشار في الوقت ذاته إلى أن قيمة الاحتياطي من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، تبلغ 3 تريليونات دولار أمريكي، وتكفي تركيا لمدة 572 عامًا، منوهًا إلى أن الإسراع في إبرام اتفاقية تحدد مناطق النفوذ البحرية مع ليبيا، يسهم في حماية حقوق البلدين في شرق المتوسط، التي أصبحت محل أطماع العالم.
اعتبر البعض أن خطوة كهذه كفيلة بإعاقة المخططات اليونانية في شرق المتوسط التي تتم بدعم مصري سعودي
وفي الإطار ذاته يعتبر الجنرال التركي أن الاتفاق يشكل درعًا أمام توقيع اتفاق اليونان لاتفاقية “المنطقة الاقتصادية الخالصة” مع قبرص الجنوبية ومصر، لأنها ترسم الحدود الغربية للمنطقة الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط، كاشفًا أن الأسطول التركي منذ عام 2002، منع عبور 14 سفينة أجنبية خلال 14 عامًا، وخلال العامين الماضيين، منعت تركيا منصة تنقيب و6 سفن تابعة لدول مختلفة، حاولت التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في مناطق النفوذ البحرية لها دون إذن.
وعن شرعية التحرك التركي في مياه المتوسط يرى الدكتور بشير عبد الفتاح الخبير المصري في الشؤون التركية والباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بالقاهرة أن تركيا لا تعترف بجزيرة كريت ولا ترى قبرص وبالتالي فهي ترى أن حدودها المائية تمتد حتى الحدود المائية الليبية.
وأضاف عبد الفتاح في مقابلة مع DW عربية أنه وبحسب الرؤية التركية يمكن اقتسام إقليم شرق المتوسط مناصفة مع ليبيا استنادًا إلى مبدأ “الجرف القاري” وليس مبدأ الحدود البحرية أو المياه الإقليمية، وهذا الجرف القاري يمتد لمسافة 200 ميل بحري، فإذا كان عرض المتوسط يقترب من 400 ميل بحري، فيمكن للطرفين تقاسمه متجاهلين بذلك كلاً من قبرص واليونان.
الأتراك يعتبرون الاتفاق فارقة تاريخية
مناهضة الأطماع الخارجية
في سياق آخر اعتبر البعض أن خطوة كهذه كفيلة بإعاقة المخططات اليونانية في شرق المتوسط التي تتم بدعم مصري سعودي، وهو ما ألمح إليه الكاتب التركي جيهون بوزكورت الذي قال إن تركيا بعد الآن ستزيد نشاطاتها وخطواتها في البحر المتوسط، لمشروع “الوطن الأزرق”، الذي يضم البحار الثلاث (البحر الأسود وبحر إيجه وشرق البحر المتوسط) المطلة على تركيا.
بوزكورت في حديثه لصحيفة “أكشام” أوضح أن هذا الاتفاق خطوة مهمة في إستراتيجية “الوطن الأزرق” التي تسعى أنقرة لتحقيقها، مضيفًا أنه يمهد للإعلان الاتفاقية القانونية التي تنظم موضوع البحث عن الموارد البحرية واستغلالها والمعروفة بـ”المنطقة الاقتصادية الخالصة”، التي لم تعلنها أنقرة بعد، والمذكرة بين البلدين تتيح لتركيا التحرك باتجاهها.
الاتفاق سيمثل غطاءً قانونيًا وشرعيًا لأي دعم تركي عسكري للحكومة في طرابلس، لكنه في الوقت ذاته لن يكون عاملًا لإنهاء مشروع حفتر في ليبيا
الكاتب التركي أوضح أن الاتفاق يقطع الطريق أمام الآخرين، ليؤكد أن الحدود الغربية لشرق المتوسط، خاصة بشعوب المنطقة، مؤكدًا إلى أنه سيغير من موازين القوى في شرق البحر المتوسط، في مواجهة “المشروع الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي اليوناني، الذي تدعمه كل من السعودية ومصر”، وفق قوله.
وأشار إلى أن المنطقة ذاتها “تقع ضمن نطاق المشروع التركي، حيث إن الحدود البحرية التركية الليبية تقابل جنوب غرب جزيرة كريت، وهذه الاتفاقية مع تركيا ستحافظ على الحدود الغربية لليبيا البلد الشقيق”، داعيًا إلى ضرورة تحالف تركيا بجانب روسيا والصين لصد أوروبا في شرق المتوسط.
بدورها ترى الصحفية الليبية نجاح الترهوني أن “الاتفاق التركي الليبي الهدف منه منع زيادة تدخل الدول الداعمة لحفتر، وتحديدًا مصر والإمارات، إذ لن يكون بمقدورها التصعيد أكثر والدخول في مواجهة مع تركيا لثقلها السياسي الدولي، فهي شريك أساسي في حلف الناتو”، مضيفة “قوة الاتفاق والوجود التركي الجديد يختلف عن السابق، لكونه جاء متسقًا مع موقف أمريكي متشدد من عملية حفتر الذي دعته بشكل واضح إلى وقف هجومه على طرابلس”.
واعتبرت الترهوني أن الاتفاق “سيمثل غطاءً قانونيًا وشرعيًا لأي دعم تركي عسكري للحكومة في طرابلس، لكنه في الوقت ذاته لن يكون عاملًا لإنهاء مشروع حفتر في ليبيا”، مشيرة إلى أن أردوغان “أكد خلال تصريحاته التي نقلها المكتب الإعلامي للسراج رفض الحل العسكري وضرورة العودة إلى العملية السياسية”.
يذكر أنه في ظل الأزمة التي تواجهها ليبيا منذ سنوات، استولت اليونان على نحو 39 ألف كيلومتر مربع من المياه الإقليمية الليبية، على إثرها، أرسلت طرابلس في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مذكرة إلى الأمم المتحدة، أكدت فيها أنها لن تعترف بما وصفته “الاغتصاب اليوناني للمياه الليبية”.
اجتماع لوزراء دفاع مصر واليونان وقبرص
رفض مصري يوناني
حالة من الرفض قوبل بها الاتفاق من القاهرة وأثينا، حيث قال وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس إن أي اتفاق بحري بين ليبيا وتركيا “يتجاهل شيئًا شديد الوضوح وهو أن بين هاتين الدولتين جغرافيًا يوجد كتلة ضخمة من الأرض وهي كريت، وبالتالي مثل تلك المحاولة أمر مناف للعقل”.
فيما نددت مصر بهذه الخطوة التي قالت إنها “غير شرعية ومن ثم لا تلزم ولا تؤثر على مصالح وحقوق أي أطراف ثالثة، ولا يترتب عليها أي تأثير على حقوق الدول المشاطئة للبحر المتوسط، ولا أثر له على منظومة تعيين الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط”.
يأتي رد الفعل هذا بعد أيام قليلة من انطلاق التدريب العسكري البحري الجوي المشترك بين مصر واليونان وقبرص “ميدوزا – 9″، لمواجهة “تهديدات محتملة في البحر الأبيض المتوسط” الذي بدأ في الـ3 من نوفمبر/تشرين الثاني الحاليّ، أعقبه شن الدول الثلاثة هجومًا على أنقرة بسبب عملية “نبع السلام” في الشمال السوري.
عقد وزراء دفاع التحالف الثلاثي: المصري محمد أحمد زكي، واليوناني نيكوس بانايوتوبولوس، والقبرصي سافاس أنغيليديس، محادثات ثلاثية في أثينا، عقب التدريبات، وقعوا خلالها وثيقة مشتركة تدين الخطوات التركية سواء في سوريا أم مياه المتوسط.
من السابق لأوانه تقييم هذا الاتفاق الذي زاد منسوب التوتر في العلاقات بين أنقرة من جانب والدول الثلاثة من جانب آخر، الأمر الذي يجعل الترجمة الفعلية لبنود مذكرة التفاهم هو المحك الحقيقي لاختبار هذه الخطوة التي يعول عليها الأترك في الزود عن حقوقهم المائية في الوقت الذي تزداد فيها مخاوف الفريق الآخر.