رودلف ديستن هو الاسم الحقيقي لهانس فالادا، واحدٌ من أشهر الكتاب الألمان في القرن العشرين، المولود في 21 من يوليو سنة 1893، في جرينسفالد، والابن الأكبر لقاضٍ صار فيما بعد مستشارًا في المحكمة العليا للدولة.
من دراسته للقانون، تنقل هانس لممارسة مهن مختلفة، من كاتب حسابات وحارس ليلي، لكاتب عناوين وتاجر حبوب ومراسل إعلانات.
“فلاحون وحكام وقنابل” هي أولى رواياته الناجحة، كانت عرضًا لحالة ألمانيا عام 1930، وقصته الشهيرة “وماذا الآن أيها الرجل الصغير؟” تناول فيها أزمة البطالة، واقتُبس منها فيلمان للسينما.
فالادا مثل كثير من الكتاب في وقته، عارضوا النازية بشدة، وأصبحت كتبهم ممنوعة وممنوع نشر أي شيءٍ لهم، فاختار هانس حينها الصمت والعزلة حتى عام 1945 حين انتهت الحرب وسقطت ألمانيا.
مؤخرًا عن دار الكرمة بمصر، نُشر للكاتب الألماني كتاب جديد يترجم لأول مرة للعربية، اسمه “تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين“، ترجمه عن الألمانية مباشرةً المترجم المصري الأستاذ سمير جريس.
هذا هو الموت
“كنت متحررًا من أكبر هم يسيطر على مدمن المورفين، هم الحصول على البضاعة”
ينتمي هانس فالادا وكتابته لتيار “الموضوعية الجديدة”، فيتسم أسلوبه بالموضوعي الجاف، و”الموضوعية الجديدة” كتيار أول ما ظهر، كان في ألمانيا، يهتم بكل ما هو حقيقي وواقعي ودقيق.
المورفين عقارٌ يستخدم لقتل الألم، لكن بعد أن يدمنه الشخص، يتحول هو نفسه إلى الألم في حد ذاته
فالادا قضى جزءًا من حياته في مصحات العلاج من إدمان المورفين، ودخل صراعًا قويًا مع نفسه ليتخلص من هذا الإدمان، كما أنه أيضًا وقع فريسةً لإدمان الخمر، حتى إن له روايةً شهيرة اسمها “السكير” يتناول فيها معاناته مع شرب الخمر، وأجرى فيها تحليلًا عظيمًا للشخصيات التي تدير الحانات وأساليبها في استدراج ضحاياها وابتزاز أموالهم.
الإدمان، سواء كان المورفين أو “البنزين” كما يدعوه هانس، بجانب الخمر، موضوع دائم في كتاباته، تناوله كثيرًا، وهنا في “تقرير موضوعي عن سعادة المورفين”، يتناول الأمر بحرية أكبر، فيسرد ما فعله المورفين فيه.
المورفين عقارٌ يستخدم لقتل الألم، لكن بعد أن يدمنه الشخص، يتحول هو نفسه إلى الألم في حد ذاته، أو كما قال هانس في قصته: “هذا هو الموت”، هو يعمل على تحويل الشخص لهيكلٍ مسحوب الإرادة، يسحبه للحظات لأكثر الأماكن سعادةً، ويعيده بعدها إلى أكثر الأماكن ظلمةً.
“شعرت بالإبرة تنغرز، الحياة كلها جميلة الآن”.
رفيق المورفين
“عشيقتي الوحيدة الآن هي حقنة المورفين”
كعادة أي مدمن، وفي حالة هانس، وهو مدمن المورفين، لا يستطيع الحصول عليه بسهولة، كان لديه رفيق شهور المورفين الطويلة “فولف” الشخص الماهر الذي يعرف كيف يتعامل مع تزوير روشتات الأطباء والحصول على المورفين من الصيدليات وبكمياتٍ معقولة أيضًا.
فولف ضائعٌ مثل هانس، تقريبًا نفس الحالة، لا يستطيع أن يمضي يومه دون أن يتناول حقنة المورفين، الاثنان لديهم لحظة غرز الإبرة في الجلد، أفضل شعورٍ من الممكن أن يشعر به أي شخص.
مجيء الذئب
“وبوخزة الإبرة يبدأ الاحتفال بالعرس الأسطوري، العشيقة كاملة الأوصاف، والحبيب الذي يخلو من عيب، يحتفلان بأعيادهما تحت شعري الكثيف”.
هانس يتفنن في وصف شعور المدمن، لحظة أن يسري السم في جسده، لحظة أن ينتقل من الإبرة ثم الوريد، وتنفتح خلايا الدماغ المغلقة على أشياء بعيدة جدًا، إلى أن تنتقل في الجسد كله، جاعلةً صاحبها يعتقد أن هذه هي السعادة بعينها ولا شيء آخر.
رغم أسلوب فالادا الجاف أحيانًا، فإن نصه هذا عذبٌ لدرجةٍ كبيرة، من أول صفحة يبدأ فيها سرد قصته، يأخذك معه لحياته التي عاشها مدمنًا المورفين، والتعاسة، يسرد بصورة مذهلة، ولو ظل يتحدث لألف صفحة لن تمل منه أبدًا.
السارد في القصة هو هانس، وقد حقق في سرده هذا صدق التيار الذي ينتمي إليه، فنادرًا ما نجد كتابًا يخبروننا عن حياتهم، عن التجارب التي مروا بها، حتى لو متخفين في بطلٍ آخر، صورة رمزيه يخترعونها، لا مشكلة، الفكرة كلها أن يكون الأديب صادقًا فيما يرويه، أي يكون المكتوب مكتوبًا بصدق.
مطاردة البق
“خلية ما في المخ تعرف ما يحدث بصفاء تام، لكن هذه الخلية تقف عاجزة أمام جموح جسدي وروحي”.
يمر المدمن في رحلته التي في أحيانٍ كثيرة مع الإدمان تكون طويلة، أن يصل لمرحلة الجنون، أو ما قبلها الخروج عن السيطرة، ألا يملك زمام نفسه، كل شيءٍ من حوله يصبح في حالة فوضى عارمة، وفي أوقاتٍ كثيرة لا يستطيع أن يفرق أو يفهم ماذا يحدث له.
هانس أو بطل القصة هنا، وصل لمرحلة خروج الأمور عن السيطرة، أصبح عنيفًا جدًا، روحه تسحب منه دون علمه، تحدث له أشياء لم يكن متوقعًا أن تحدث له، أو يقدم على فعل شيءٍ ما لن يجول بخاطره نهائي.
ولاعة روبنسون
“دائمًا تسيطر عليّ فكرة أنه إذا لم ألحق بالقطار، فسأفشل في الاختبار”
“تقرير موضوعي عن سعادة مدمن المورفين” هو عبارة عن نص منقسم لقصتين طويلتين، كتبه فالادا في ثلاثينيات القرن العشرين، لكن لم ينشر إلا قبل نهاية التسعينيات، القصة الأولى يبدأ هانس فيها بحكايته عن الإدمان وما آل إليه، والثانية التي كتبت في نفس الفترة وتحمل اسم “ثلاث سنوات لم أكن إنسانًا” وهو العنوان الذي ينهي به القصة الأولى، نجح هانس أن يصيغ ويربط نصين ببعضهما البعض برشاقةٍ ولطفٍ كبير، مضيفًا لهما تشويق وصدق طالما اتسم به هانس في كتابته.
قال هرمان هسه الكاتب الألماني الحاصل على جائزة نوبل للأدب عام 1946، عن هانس فالادا: “يستحق فالادا ثناءً عاليًا لكتابته عن الحياة بهذه الواقعية وهذا الصدق وهذا القرب”.
الصدق في التعبير عما يمر به الإنسان في حياته، فنادرًا أن يكتب مثل ما كتبه فالادا هنا، فهو امتلك هذه الميزة وظل لسنواتٍ طويلة دون خوف أو محاباة أو تخفٍ في زيٍ ليس له، يكتب تجربته ليتلقاها الناس بصدقٍ مثلما فعل هو.
ترجمة الأستاذ سمير جريس، بصدقها وجمالها وحرفيتها العالية، تخبرنا أنه بجانب وجود كتاب رائعين وصادقين مثل هانس فالادا، هناك مترجمون صادقون في عملهم ورائعون فيه مثل الأستاذ سمير جريس.