أعلنت ست دول أوروبية جديدة انضمامها لما يسمى “إنستكس” (آلية دعم التبادلات التجارية) في محاولة للالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران وذلك بتجّنب استعمال الدولار، فيما رحبت الدول، مؤسسة تلك الآلية، أعضاء الاتفاق النووي 2015، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، بهذه الخطوة.
وفي بيان مشترك جاء فيه أن “فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة بصفتها مؤسِّسة ومساهمة في إنستكس ترحّب بحرارة بقرار حكومات بلجيكا والدنمارك وفنلندا والنرويج وهولندا والسويد الانضمام إلى هذه الآلية بصفة دول مساهمة”، وكانت الدول الثلاثة قد أنشأت تلك الآلية مطلع العام الحاليّ بعد التصعيد الأمريكي ضد طهران بتعزيز العقوبات المفروضة عليها.
ووفق إنستكس التي تتخذ من باريس مقرًا لها فإنها من المفترض أن تتيح لإيران مواصلة بيع النفط مقابل استيراد منتجات أخرى أو خدمات ضرورية لاقتصادها، لكن الآلية لم تجرِ أي عملية حتى الآن، فيما أكدت العواصم الأوروبية أن موجة الانضمام إلى آلية المقايضة التجارية تعد دليلًا على جهود الأوروبيين لتسهيل التبادل التجاري المشروع بين أوروبا وإيران، و”تسلّط الضوء على تمسّكنا المستمر بالاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015″.
تأتي هذه الخطوة التي يعتبرها البعض رسالة طمأنة تزامنًا مع إعلان طهران أنها ماضية في خطواتها النووية بسياق خفض التعهدات، وذلك في وقت بدأ نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، زيارة إلى الصين، لإجراء محادثات بشأن الاتفاق النووي قبل أيام من التئام اللجنة المشتركة للدول الأعضاء فيه في فيينا.
إعادة إيران للحضن الأوروبي
الخارجية الفنلندية في بيان لها قالت إن الدول الستة تولي اهتمامها، في الدرجة الأولى، للحفاظ على الاتفاق النووي كاملًا ومن كل الأطراف المشاركة فيه، موضحة أنه “في إطار المساندة الأوروبية المستمرة للاتفاق النووي والجهود الاقتصادية الأوروبية المبذولة، نسعى لتحقيق تبادل تجاري قانوني بين أوروبا وإيران”.
فيما أوضح وزراء الدول أعضاء الاتفاق أنه “في البداية، ستتركز الآلية على القطاعات الأكثر أهمية بالنسبة للشعب الإيراني، بما في ذلك المنتجات الصيدلانية والأجهزة الطبية والمنتجات الزراعية”، وشددوا في بيانهم على عزم دولهم “توسيع الآلية بحيث تشمل كذلك دولًا أوروبية أخرى معنية”.
منذ انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق قبل عامين سلطت طهران سهام انتقادها للدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق لعدم اتخاذها إجراءات جادة وعملية للحفاظ على مصالحها أمام العقوبات الاقتصادية الصارمة، التي فرضتها الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ضدها.
على الرغم من أن الكثير من المراقبين اعتبروا أن هذه الآلية الأوروبية محاولة عاقلة من أوروبا للحد من جموح إيران لاستئناف نشاطها النووي والوصول إلى نقطة لا يمكن الرجوع عنها، فإن طهران لم تتعاط باهتمام مع هذه الآلية
وفي ظل التباطؤ الأوروبي في اتخاذ ما تراه إيران كافيًا للاستمرار في التزام ما ورد في الاتفاق، اضطرت إلى اللجوء لتقليص تعهداتها عبر عدد من الخطوات، كورقة ضغط على كل من أوروبا وأمريكا لإعادة النظر في مواقفهما إزاء ما يتعرض له الإيرانيون من قيود اقتصادية وسياسية أدت بحسب – الرؤية الإيرانية – إلى اشتعال الشارع ضد السلطات الحاكمة هناك.
وعليه أعلن وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا في يناير الماضي، إنشاء آلية مشتركة لتسوية الحسابات المالية مع إيران أطلق عليها “إنستيكس”، كخطوة وصفها البعض بمساعي تلك الدول لإعادة إيران للنادي الأوروبي مرة أخرى تجنبًا للتغريد بمفردها خارج السرب ما قد يعود بالكارثة على الجميع.
علي أكبر صالحي
فرصة للإبقاء على الاتفاق
الحديث عن توسيع تلك الآلية لتضم دولًا أوروبية أخرى يأتي وفق ما ذهب محللون في إطار تشجيع طهران على الحوار والمضي قدمًا في مسار التفاوض، هذا بجانب الضغط على واشنطن للقبول بمحاولات الحفاظ على الاتفاق وذلك كلما اتسعت الدائرة الأوروبية الضاغطة.
الخبير في الشأن الإيراني أسامة الهتيمي، يرى أن آلية إنستيكس ليست جديدة فهي تعود لنحو عام تقريبًا وهي النسخة الثالثة للآلية المالية التي تحاول بها الدول الأوروبية الثلاثة الموقعة على الاتفاق النووي إقناع إيران بالبقاء في هذا الاتفاق بعد الانسحاب الأمريكي منه في مايو 2018 الذي اعتبرته إيران تفريغًا لمضمون هذا الاتفاق وتأكيدًا للغدر الغربي الذي يتربص بها.
وأضاف الهتيمي في حديثه لـ”نون بوست” أن اتساع عدد الدول المشاركة في هذه الآلية وانضمام الدول الستة الجديدة ليكون مجموع المشاركين نحو تسع دول هو أحد الأبواب التي يمكن أن تغري إيران وتدفعها للاستجابة للتعاطي معها بجدية، إلا أنه عاد وأكد أن ذلك ليس مضمونًا بدرجة كبيرة نتيجة استشعار إيران أن التحرك الأوروبي ربما جاء بعد أن أفشلت إيران ما اعتبرته مؤامرة خارجية بتحريك الشارع الإيراني ضد النظام، إضافة إلى مواصلة إيران خطتها في تخفيض التزاماتها النووية كل مدة زمنية محددة.
منذ الانسحاب الأحادي الأمريكي من الاتفاق أوقفت إيران حتى الآن ثلاثة من خمسة تعهدات، قطعت الالتزام بها بموجب هذا الاتفاق
ويعتقد الباحث أنه على الرغم من أن الكثير من المراقبين اعتبروا هذه الآلية الأوروبية محاولة عاقلة من أوروبا للحد من جموح إيران لاستئناف نشاطها النووي والوصول إلى نقطة لا يمكن الرجوع عنها، فإن طهران لم تتعاط باهتمام مع هذه الآلية بل على العكس أبدت العديد من الملاحظات التي تقلل من شأنها وتعتبرها دعابة ثقيلة على حد ما وصفها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية.
يعلم الإيرانيون جيدًا أن كل هذه المحاولات ليست إلا جرعات تسكين واضحة من الشريك الأوروبي، كما لا يساورهم الشك في أن مثل هذه التحركات لا يمكن أن تكون بمعزل عن أمريكا التي لا شك تخشى – وإن لم تفصح عن ذلك رسميًا – استمرار طهران في مسار تقليص التزاماتها النووية.
التعاطي مع هذه التحركات بين القبول والرفض يضع المشهد الإيراني فوق صفيح ساخن، إذ باتت السلطات الآن بين مطرقة رفض صقور النظام المحافظين من الحرس الثوري والمرشد ورجاله وسندان الاستجابة لتلبية مطالب الشعب والبحث عن حلول للأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد خاصة في ظل ارتفاع نسبة الفقر والتضخم، بعد قرار رفع أسعار البنزين ومحاصصته.
استمرار تقليص التعهدات
منذ الانسحاب الأحادي الأمريكي من الاتفاق أوقفت إيران حتى الآن ثلاثة من خمسة تعهدات، قطعت الالتزام بها بموجب هذا الاتفاق، واستمرارًا لهذا المسار جددت طهران أمس السبت على لسان رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، علي أكبر صالحي، أن بلاده ماضية في خطواتها النووية بسياق خفض التعهدات.
صالحي أشار إلى أن غاية بلاده هي الحفاظ على هذا الاتفاق، معتبرًا أن خفض التعهدات جاء لإحداث توازن في تنفيذ الاتفاق النووي، في مواجهة العقوبات الأمريكية وعدم وفاء أوروبا بالتزاماتها ووعودها بالوقوف في وجه هذه العقوبات، وذلك بحسب تصريحات أدلى بها مقابلة مع نادي “المراسلين الشباب” الإيراني.
زيارة الصين لم تقتصر على الملف النووي فحسب، بل تسعى طهران منذ سنوات إلى تعميق وتعزيز خريطة تحالفاتها نحو الشرق قليلًا بعدما دخلت العلاقات مع أمريكا وأوروبا نفقًا مسدودًا
وأوضحت هيئة الطاقة الذرية الإيرانية أن إنتاج طهران من اليورانيوم المخصب بلغ 5500 غرام، بينما كان ذلك قبل إبرام الاتفاق النووي 6 آلاف غرام، بحسب قوله، مؤكدًا أن عملية التخصيب في منشأة “فوردو” الحساسة “ستستمر إلى أن يعود الأوروبيون إلى تعهداتهم الاقتصادية”، التي تطالب طهران بها في مواجهة العقوبات الأمريكية القاسية المفروضة عليها، منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في الـ8 من مايو/أيار 2018، وهي عقوبات صفّرت منافع إيران الاقتصادية من الاتفاق.
بجانب ذلك أضاف أن عدد أجهزة الطرد المركزي في “فوردو” كان ألفين قبل إبرام الصفقة النووية، لكن طهران احتفظت بـ1044 منها في إطار الاتفاق، مشيرًا إلى استئناف عملية التخصيب من خلالها قبل فترة، بسبب “المماطلات الأوروبية”، وكانت إيران قد فعلت مفاعل “فوردو” النووي في إطار المرحلة الرابعة لتقليص تعهداتها النووية، عبر ضخ الغاز إلى أجهزة الطرد المركزي الموجودة فيه، في الـ6 من الشهر الحاليّ، بعد انتهاء مهلة الستين يومًا الثالثة، التي منحتها قبل شهرين من هذا التاريخ للأطراف الأوروبية، لتنفيذ مطالبها في تسهيل بيعها النفط ومعاملاتها المالية والمصرفية، التي تخضع لعقوبات أمريكية شاملة.
تجديد إيران تأكيدها على استمرار تقليصها لتعهداتها النووية
الاتجاه ناحية الشرق
تزامنًا مع تجديد طهران مضيها في خفض تعهداتها توجه نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، أمس السبت، إلى الصين في زيارة تهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بشأن الاتفاق، وذلك قبل أيام من عقد اللجنة المشتركة للدول الأعضاء في الاتفاق اجتماع الجمعة المقبلة، في فيينا على مستوى مساعي وزراء الخارجية.
قال عراقجي، لوسائل الإعلام، لدى وصوله إلى العاصمة الصينية بكين، في مطارها، إن الاتفاق يعيش “وضعًا غير مناسب”، مؤكدًا أن بلاده لا تحظى بمنافعها من الاتفاق، وذلك بعدما قال أمس الجمعة، إن هذا الاتفاق في غرفة “العناية المركزة”، موضحًا أن هدفه من الزيارة إجراء “مشاورات أكثر جدية وعن قرب مع الأصدقاء”، معتبرًا أن تطورات الاتفاق النووي ووضعه الحاليّ تستدعي هذه المشاورات.
يذكر أن اجتماع اللجنة المشتركة في الاتفاق النووي بفيينا، هو الأول من نوعه، بعد تنفيذ إيران المرحلة الرابعة من خفض تعهداتها النووية، اعتبارًا من الـ6 من الشهر الحاليّ، من خلال تفعيل منشأة “فوردو” الحساسة واستئناف تخصيب اليورانيوم فيها لترفع المستوى عند 5%.
زيارة الصين لم تقتصر على الملف النووي فحسب، بل تسعى طهران منذ سنوات إلى تعميق وتعزيز خريطة تحالفاتها نحو الشرق قليلًا بعدما دخلت العلاقات مع أمريكا وأوروبا نفقًا مسدودًا، فكانت روسيا والصين والهند وباكستان وغيرها من الكيانات الكبرى محط اهتمام المسؤولين في طهران التي نجحت من خلال هذا التوجه في تخفيف حدة العقوبات المفروضة ضدها.