ترجمة وتحرير: نون بوست
ما أحوجنا إلى التفكير خارج المألوف في عصر الاضطرابات الجيوسياسية والسياسية والاقتصادية. ولا يمكن أن تكون المخاطر أكبر في عالم يخاطر فيه قادة الحضارة بالقيادة، في عصر يشهد المزيد من العنف السياسي والحرمان والتهميش والهجرة الجماعية.
لقد زادت حدة المخاطر لحقيقة أن الأشخاص الذين دافعوا تقليديًا عن قدر ضئيل من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحقوق الأقليات إما انضموا إلى الحضاريين أو كانوا قلقين. فالولايات المتحدة، التي دأبت منذ فترة طويلة على الدفاع عن حقوق الإنسان، حتى لو كانت انتقائية في تحديد متى ينبغي التقيد بمبادئها ومتى يجب أن تغض النظر، قد تخلت عن التظاهر بذلك في عهد الرئيس دونالد ترامب.
أما أوروبا فباتت ضعيفة للغاية وتخوض معاركها الخاصة، سواء بحثا عن مكانتها في عالم أصبح فيه مستقبل التحالف عبر المحيط الأطلسي موضع شك، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو صعود الزعماء الحضاريين داخل صفوفها. وخلاصة القول أن اعتماد المجتمع المدني على الاستراتيجيات والتكتيكات التقليدية لممارسة الضغط السياسي يذكر بأهمية الحقوق، ولكن من غير المرجح أن يسفر عن نتائج فعلية.
يمثل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو الجزء الوحيد من العالم الذي يُظهر سخطًا أكبر، أسوأ الردود وأفضلها على الصخب العالمي من أجل التغيير
ينطبق الأمر نفسه على المحاولات التقليدية العنيفة والمتسلطة للحكومة لقمع الاحتجاجات. من بعض النواحي، إن التصويت الساحق في نهاية هذا الأسبوع لصالح القوى المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ يضع حلاً هائلاً لحكومات المدينة والصين بالكامل. وحيال هذا الشأن، قال الصحفي الإسرائيلي عوفري إيلاني: “حتى لو تراجعت موجة الاحتجاجات الحالية، فمن المرجح أن يستمر عدم الاستقرار لبعض الوقت وقد يصبح وضعًا دائمًا … لأن المشاكل التي تسببت في الاحتجاجات تبدو غير قابلة للحل عن طريق النظام السياسي والاقتصادي الحالي”.
يبدو أن السيد إيلاني أصاب القول، فالانهيار العالمي للثقة بالنظم السياسية والقادة في هذا العقد لا يسلط الضوء على المشكلة فحسب، بل قد يخلق أيضًا فرصًا للتفكير خارج النطاق التقليدي. ويكمن الحل في حقيقة أن المحتجين في جميع أنحاء العالم (في سانتياغو دي تشيلي، لاباز، بوجوتا، بورت أو برنس، كيتو، باريس، برشلونة، موسكو، تبليسي، الجزائر العاصمة، القاهرة، الخرطوم، بيروت، عمان، طهران، جاكرتا وهونغ كونغ) وحركات مثل “تمرد ضد الانقراض”، تتشارك بشكل أساسي نفس المطالب: عالم أكثر شفافية والخضوع للمساءلة وأكثر إنصافًا من الناحية الاقتصادية.
يمثل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو الجزء الوحيد من العالم الذي يُظهر سخطًا أكبر، أسوأ الردود وأفضلها على الصخب العالمي من أجل التغيير. ففي حين أن مصر في عهد الجنرال عبد الفتاح السيسي هي أفضل مثال عما قد يدفع الاحتجاج العالمي، فإن تونس والكويت تقدمان دروسًا يمكن تعلمها. وكذلك الحال بالنسبة لبعض قصص النجاح الطويلة في العالم مثل سنغافورة.
كانت تونس الدولة الوحيدة التي شهدت ثورة ناجحة في سنة 2011 وتمكنت من حماية إنجازاتها لأن قادتها، مثل السنغافوري لي كوان يو، رأوا أن القوة أداة لتأمين المصالح الوطنية بدلاً من المصالح الشخصية، وفي وقت الأزمات، عملوا مع المجتمع المدني على هندسة حوار وطني ووضع طريق للمضي قدمًا.
على غرار ذلك، اختارت الكويت، التي تتميز بالشذوذ الدستوري شبه الديمقراطي في منطقة يحكمها المستبدون السريون، اتباع نهج تنافسي أكثر شفافية تجاه السياسة. ونتيجةً لذلك، رأت الكويت هذا الشهر أن عائلتها الحاكمة تأخذ خلافاتها ونزاعاتها الداخلية إلى العلن. وأجبرت الخلافات الحكومة على الاستقالة، حيث اتهم أفراد الأسرة الحاكمة بعضهم البعض بالاختلاس قبل الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها السنة المقبلة، إلى جانب الخلافة المحتملة التي سيكون للمجلس فيها رأي.
كما أنه ينطوي على ضرورة جعل مبادئ الحق والباطل واحترام كرامة الإنسان الأسس الأخلاقية لهندسة النظام العالمي الجديد، الذي يُمكن من خلاله الحكم على الجميع بدءاً من الفرد إلى الدولة
إن تحقيق هدف المحتجين المتمثل في إقامة أنظمة سياسية واقتصادية أكثر إنصافًا وخضوعًا للمساءلة لا يقتصر على الالتزام بسيادة القانون، بما في ذلك تطبيق القانون الدولي، وتطبيق مبدأ المساواة أمام قانون للأفراد والمنظمات فحسب، بل يشمل الدول أيضا.
كما أنه ينطوي على ضرورة جعل مبادئ الحق والباطل واحترام كرامة الإنسان الأسس الأخلاقية لهندسة النظام العالمي الجديد، الذي يُمكن من خلاله الحكم على الجميع بدءاً من الفرد إلى الدولة. هذه هي الرسالة الأساسية للاحتجاجات في جميع أنحاء العالم، رسالة تدين عالماً تبرر فيه المنفعة المالية أو الاقتصادية انتهاكات الحقوق، وتتخلّي الحضارات عن التظاهر بالالتزام بالقانون الدولي.
إن الإذعان لرسالة المحتجين يعني ضمان أن يوفر القانون الدولي، على الأقل، آلية فعالة لمساءلة قوات الأمن التي تستخدم القوة المميتة ضد المتظاهرين السلميين إلى حد كبير، والمسؤولين الرسميين سياسيا الذين يجيزون الوحشية غير المبررة في كثير من الأحيان إلى حد القتل الجماعي. وأرقام هذه السنة تتحدث عن نفسها، بما في ذلك 100 قتيل في يوم واحد في السودان، وأكثر من 350 قتيلا في غضون أسابيع في العراق، وأكثر من 100 قتيل في إيران، والعشرات في تشيلي.
بشكل عام، تكتسب الحاجة إلى القيم والأخلاق المزيد من الزخم مع أنصار التيار الواقعي المتشدد لإسقاط السلطة، فضلاً عن دق بعض الزعماء ناقوس الخطر. وقد كان صعود الذكاء الاصطناعي سبباً في إقناع وزير الخارجية الأميركي الأسبق ومستشار الأمن القومي، هنري ألفريد كيسنجر – وهو رمز للسياسة الواقعية وممارسة السلطة – بالاعتراف بأهمية القيم والأخلاق. وقد حذّر كيسنجر في تعليقه في مجلة “ذي أتلانتك” من أن العواقب المترتبة عن استخدام الذكاء الاصطناعي “قد تكون عالما يعتمد على الأجهزة التي تعمل بالبيانات والخوارزميات ولا يخضع لمعايير أخلاقية أو فلسفية”.
كانت التهديدات الناتجة عن التخلي عن القانون الدولي والافتقار إلى المعايير الأخلاقية واضحة في اعتراف إدارة ترامب من جانب واحد هذا الشهر بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة، التي اعتبرها رجال القانون والمجتمع الدولي منذ وقت طويل غير قانونية. وقد سلّطت هذه الخطوة الضوء على العلاقة بين حماية الحقوق والحريات الفردية والأمن الوطني.
لابد أن كلمات السيد منون كانت بمثابة موسيقى في أذن صندوق النفط الناجح النرويجي الذي تبلغ قيمته مليار دولار أميركي والذي أثبت أن النمو والربحية يمكن تحقيقهما من دون التخلي عن معايير الاستثمار الأخلاقية
من جهته، حذر رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد من أن تحرك الإدارة يعني “أننا لم نعد آمنين. إذا أرادت دولة ما الدخول إلى بلادنا وإنشاء مستوطناتها، فهذا قانوني. لا نستطيع أن نفعل أي شيء”. في الواقع، كان مهاتير يبرز للدول مشاعر الضعف بين المحتجين والأقليات في جميع أنحاء العالم التي تنتج عن الاستخدام العشوائي غير المقيد للسلطة من جانب أولئك الذين يشغلون مناصب في السلطة. وعلى غرار ذلك، حذر وزير العدل في سنغافورة سونداريش منون الشهر الماضي من أن “البلدان تتبنى على نحو متزايد العقلية الصفريّة في تجنب الاتفاقيات متعددة الأطراف باعتبارها قيدًا للسيادة وعبئًا على النمو الاقتصادي”.
لابد أن كلمات السيد منون كانت بمثابة موسيقى في أذن صندوق النفط الناجح النرويجي الذي تبلغ قيمته مليار دولار أميركي والذي أثبت أن النمو والربحية يمكن تحقيقهما من دون التخلي عن معايير الاستثمار الأخلاقية. يذكر أن الصندوق التقاعدي الحكومي النرويجي، وهو أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم، قد أعاد ثلاثة بالمئة أي ما يعادل 28.5 مليار دولار أمريكي إلى صندوق التقاعد في البلاد خلال الربع الثاني من سنة 2019. ونسجا على منوال مجلس الأخلاقيات في النرويج، الذي يراقب استثمارات الصندوق، أدرج الصندوق التقاعدي الحكومي النرويجي أسهم شركة “جي فور إس” البريطانية ضمن القائمة السوداء بسبب خطر انتهاكات حقوق الإنسان ضد قوتها العاملة في قطر والإمارات العربية المتحدة.
في هذا الصدد، قال كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز” ديفيد بروكس إن: “العالم غير مستقر ومستعد للانفجار… لذلك إن المهمة الكبيرة التي تنتظر القادة … تتمثّل في: كتابة عقد اجتماعي جديد يعطي كلا من النخبة الحضرية المتعلمة والطبقات العاملة جزءًا مما يرغبون في الحصول عليه بشدة”. ومن أجل تحقيق ذلك النوع من العدالة الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن البيئة الحية التي يدافع عنها السيد بروكس، فإنه على القادة والحكومات والمجتمع المدني أن يعيدوا اكتشاف القيم الأخلاقية المتأصلة في ثقافات العالم المتعددة والمشتركة بين الكثير من البشر وإعادة ضبطها.
المصدر: لوب لوغ