تضم تركيا في جامعاتها آلاف الطلاب من جنسيات مختلفة وكثيرة، لكن هذه البلاد الكريمة لا توفر فقط فرصة التعليم لهم، بل أيضًا تقدم لهم فرصة الإبداع والمشاركة في مسابقات مهمة جدًا من شأنها صقل مواهبهم من ناحية، ومن ناحية أكثر أهمية تمكين الطلاب من التعبير عن أنفسهم وهموم بلادهم، تمامًا كما حدث مع الطالب الفلسطيني عبد الجواد حميد في فيلمه “المعبر” الذي نال جوائز مهمة.
عبد الجواد حميد 27 عامًا، هو طالب فلسطيني من قطاع غزة يدرس ماجستير “راديو وتليفزيون وسينما” في كلية الاتصال جامعة سلجوق بقونيا، تقدم إلى المنحة التركية عام 2015 ولم يتم قبوله في المنحة، ثم تقدم مرة أخرى عام 2016 بعد عام من تطوير المؤهلات، حتى تم قبوله للمنحة والسفر إلى تركيا.
وعن سبب اختيار الدراسة في المنحة يقول حميد: “تُعرف غزة بعدم وجود تخصص دارسة السينما بداخلها، ولا حتى قاعة سينما، والعمل السينمائي فيها متواضع، وكان لدي طموح في العمل بالراديو والتلفاز في القطاع، لكنني أردت تخصصًا أشمل يضم السينما أيضًا، لألم بالقواعد الأساسية في هذا العلم، بجانب تخصصي في قطاع غزة “لغة عربية وإعلام”، الذي لم يكن غنيًا في مواد الإعلام المرئية مع الأسف، هذه الأمور هي ما جعلتني مصممًا على خوض تجربة جديدة وتحدٍ، والإصرار على دراسة هذا التخصص في تركيا، فتعلمت السينما بالكامل هنا في تركيا”.
معاناة صاحب الفيلم مع المعبر
بطبيعة حال سكان أهالي قطاع غزة، فإن مرحلة السفر عبر معبر رفح البري بحد ذاتها قصة درامية طويلة عاشها جميع من سافر عبره، وعانى منها الجميع وعلى رأسهم الطلاب، وتركت في داخلهم أثرًا سلبيًا عميقًا.
فيقول حميد عن رحلة سفره: “عقبات السفر هي بلا شك هاجس لأي شخص في قطاع غزة، كانت لدينا مخاوف كطلبة المنحة التركية بسبب الظروف السيئة وكذلك تعامل مصر مع الفيزا التركية، ولكن بحمد الله كانت رحلتي سريعة، رغم متاعب الطريق والحواجز والانتظار المهين والترحيل مدة 48 ساعة، وهذه تعتبر رحلة سهلة بالمقارنة مع غيرها”.
سبب اختيار فيلم “المعبر”
يخبرنا حميد عن سبب اختياره لفيلم “المعبر” قائلًا: “في أول فصل لي بدراسة الماجستير بداية عام 2018، كنا في درس التطبيقات الجمالية في السينما والتلفاز، وقال لنا مدرس المادة لا أريد أشياء نظرية، بل أشياء ملموسة ومجسدة، كإنتاج صور على البرامج أو فيديو قصير، فطرأت ببالي معاناتنا كفلسطينيين في السفر عبر معبر رفح البري”.
يتابع حميد أنه عندما طرح الفكرة على مشرفه من واقع معاناته ومعايشته للأمر كطالب فلسطيني مغترب، لاقى قبوله وتعاطفه بهذه القضية الحساسة، بسبب ظروف السفر السيئة وعدم المقدرة على العودة لزيارة الأهل أيضًا بعد السفر، ويصف حميد ذلك بقوله: “دائمًا ما أشعر بالنقص خصوصًا في فترة العطلات، حيث يعود جميع زملائنا من جميع بلاد العالم لزيارة أهاليهم، أما أنت فتبقى مقيمًا في السكن كأنك لست إنسانًا، بسبب ظروف المعبر! فكثير من أصدقائي توفي أحد أفراد عائلتهم في قطاع غزة دون أن يروه”.
تفاصيل فيلم “المعبر”
بدأ حميد في العمل على آليات الفيلم، ووفرت له الجامعة على الفور كل ما يلزمه من فريق ومعدات، وكتب نص سيناريو الفيلم باللغة العربية، ثم ترجمه إلى اللغة التركية بتدقيق من مدرسه الذي طلب منه مواد مصورة من قطاع غزة فراسل صديقه محمد المبيض، وهو مصور حر من غزة ليصور له 10 دقائق مؤثرة داخل معبر رفح.
يقول حميد: “مدرس المادة أُعجب جدًا بما تم تصويره، وطمع في المزيد ليرى العالم تفاصيلاً أكثر عن معاناة الشعب الفلسطيني في السفر، فزادت مدة الفيلم، وبصراحة لم أفكر في أكثر من 10 دقائق للفيلم، لكن المشاهد التراتبية والقوية دفعته لطلب المزيد”.
تواصل حميد مع صديقه محمد العالول، وهو مصور لوكالة الأناضول في غزة، وجلب له مشاهد صغيرة للشهيد المصور ياسر مرتجى، و10 دقائق أخرى لمعاناة المسافرين في المعبر.
لم تكتف الجامعة بهذا التسهيل، فقد وفرت له الجامعة طالبة مساعدة أيضًا لعمل المونتاج لمدة شهر كامل، رغم انشغالها باختباراتها
يقول حميد: “تعاونت الجامعة معي بشكل كبير، فقد طلبت منهم إثراء الفيلم بتصوير حديث لطلاب فلسطينين مقيمين في تركيا لم يروا أهاليهم لسنوات بسبب المعبر ويحملون قصصًا مؤلمةً، وكان الطلاب يسكنون في مناطق بعيدة عن قونيا، لكن الجامعة أرسلتني مع طاقم المصورين بمعدات ضخمة، بل وغطوا تكاليف الرحلة كلها”.
لم تكتف الجامعة بهذا التسهيل، فقد وفرت له الجامعة طالبة مساعدة أيضًا لعمل المونتاج لمدة شهر كامل، رغم انشغالها في فترة اختباراتها، لكن هنا حدثت صدمة دمرت الفيلم تمامًا، وذلك عندما حدث عطل في جهاز الكومبيوتر، فضاع كل شيء، إلا أن الجامعة شجعت الطالب وقام بالعمل مرة أخرى في وقت قياسي للخروج بمنتج الفيلم.
المشاركة بمسابقات باسم فلسطين
تُعبر تركيا بجامعاتها عن سياسة الحكومة والشعب التركي في دعم القضية الفلسطينية، وبذلك طلبت الجامعة من حميد ضرورة دخوله مجال مسابقات الأفلام حتى يمثل فلسطين وكذلك جامعته لتعريف العالم كله بمعاناة أهالي القطاع، ويُعبر حميد عن ذلك بقوله: “احتضنتني الجامعة للمشاركة في المهرجان الـ18 الدولي لأفلام الطلبة القصيرة في جامعة سلجوق بقونيا القائمة على المهرجان عام 2018، وأخبروني بوجوب تقديم فيلمي في فئة الأفلام الدولية كممثل لفلسطين، وبالفعل قدمته باللغة الإنجليزية والتركية”.
يتابع حميد: “بحمد الله فاز فيلمي في الجائزة الأولى، وسط منافسة مع ممثلين من عدة دول مشاركة مثل بولونيا والنمسا وباكستان ومصر والبرتغال وأستونيا، وسط تفاعل الجمهور التركي والدولي الذين عبروا عن أحاسيسهم الصادقة المتضامنة بعد مشاهدتهم الفيلم”.
كان هذا الدعم التركي المتواصل للطالب الفلسطيني حميد سببًا في استمراره بدخول المسابقات الأخرى، فبعد عام واحد من فوزه بالمسابقة الأولى، تمكن حميد من الفوز بجائزة جديدة عن الفيلم، وهي المركز الثاني لمسابقة أفضل فيلم قصير، في مسابقة “الفيلم القصير والحكاية والشهر” للطلبة الأجانب في تركيا، من الاتحاد العالمي للمنظمات الطلابية UDEF في إسطنبول، بين 37 دولة مشاركة بحضور ممثل عن حزب العدالة والتنمية.
بعد هذا النجاح الآخر وذيوع قصة فيلم “المعبر”، تقدم حميد للمشاركة في مسابقة أخرى لكن في فلسطين، حيث تم قبوله منذ أيام في “مهرجان القدس السينمائي الدولي”، المقرر عقده في قطاع غزة بمركز رشاد الشوا المعروف باستضافته للمهرجانات الفلسطينية المهمة.
أما عن الشعور بالنجاح داخل تركيا، يقول حميد: “بالنسبة لي كانت صدمة بالفوز بالمركز الأول، خصوصًا أن مدرسيني كانوا يمازحونني بأن فيلمي لم يرشح للفوز، لكن بعد فوزي شعرت بالسعادة الكبيرة بسبب التفاعل من الجمهور التركي وطاقم التدريس الذين قالوا إنهم تأثروا جدًا، وشاهدوا الفيلم بلا ملل، بل وأنهم داعمين لنشر هذه القضية الإنسانية المأساوية”.
رسالة من غزة إلى تركيا
بطبيعة الحال فإن الفيلم الذي قُدم باللغة التركية وبصوت معلق تركي، موجه بالدرجة الأولى للجمهور التركي، وبكل تأكيد أراد حميد توصيل رسالة ما لهذا الجمهور، وهذا ما أكده لنا بقوله: “في الحقيقة رسالتي للجمهور التركي هي تعريفهم ماذا تعني غزة والعيش داخلها وماذا يعني أن تكون طالبًا مغتربًا من القطاع ومعاناة السفر وما إلى ذلك”.
يكمل حميد: “أما الرسالة الأخرى فهي بكل أسف أن هناك نوعًا من الجهل عند عدد من الجمهور التركي الذين لا يعرفون أين تكون غزة، فهل هي في القدس أم القدس في غزة؟ وكثير من المتضامنين منهم معنا لكن لا يعرفون حقيقة حصار غزة، ولا أي شيء عن مشاكل الحصار، لذلك أردت أن أوضح لهم الصورة بشكل كامل وإنساني، بعيدًا عن السياسية”.
يرى حميد أن هذا النوع من المسابقات يخدم قضيته وعمله بشكل كبير، فيحصل على خبرة وعلاقات كثيرة في المجال، والأهم من ذلك بحسب رأيه هي الرسالة السامية في نقل معاناة مليوني فلسطيني محاصر في قطاع غزة، وترى الجامعة – كما تركيا – أن مسؤولية دعم توصيل هذه الرسالة تقع على عاتقها أيضًا.
اختتم حميد حديثه مع “نون بوست” عن خططه المستقبلية بقوله: “أنوي إكمال دراسة الدكتوراه داخل الأراضي التركية الطيبة شقيقة الشعب الفلسطيني، التي تشعرك بكرامتك وإنسانيتك المفقودة في أماكن كثيرة وتدعم الإنسان بالإبداع والتعبير عن قضاياه، كما سأعمل على أفكار لأفلام أخرى تنقل هموم وقضايا فلسطين من الجانب الإنساني”.